ولقد مات محمد الباقر وابنه جعفر في نحو الخامسة والثلاثين، وقد أتقن معارف آل البيت وأهل السنة وترسبت في عقله نصائح أبيه "إياك والكسل والضجر فإنهما مفتاح كل شر. إنك إن كسلت لم تؤد حققا، وإن ضجرت لم تصبر على حق" .. "إن طلب العلم مع أداء الفرائض خير من الزهد" .. "إذا صحب العالم الأغنياء فهو صاحب دنيا، وإذا لزم السلطان من غير ضرورة فهو لص" .. ثم وصيته ألا يصحب خمسة ولا يحادثهم ولا يرافقهم في طريق: الفاسق والبخيل والكذاب والأحمق وقاطع الرحم لأن الفاسق يبيعه بأدنى متعة، والبخيل يقطع المال حين الحاجة، والكذاب كالسراب يبعد القريب ويقرب البعيد، والأحمق يريد أن ينفع فيضر، وقاطع الرحم ملعون في كتاب الله".
مضى الإمام جعفر الصادق ـ وقد ورث الإمامة عن أبيه ـ بكل ما تعلمه من أبيه وجديه يخوض غمرات الحياة المضطربة .. وفي تلك الأيام عرفت المساجد وندوات العلم في المدينة المنورة شابا ورعا يتفكر في خلق السماوات والأرض بكل ما أتيح له من معرفة وإشراق روحي، يرفض الاشتغال بالسياسة اتقاء البطش، على وجهه شعاع من نور النبوة. هداه عكوفه على دراسة القرآن والحديث .. إلي أن واجب المسلم أن يؤمن عن اقتناع وتدبر وتفكر في ظواهر الحياة والكون فهي دليله إلي الإيمان لوحدانية الله. وهداه التفكير إلي الاهتمام بعلوم الطبيعة والكيمياء والفلك والطب والنبات والأدوية لأنها علوم تحقق مصالح الناس، وتحرر الفكر، وتهديه إلي الإيمان العميق الحق الراسخ.
وتتلمذ عليه جابر بن حيان، وكان أبوه شيعيا قتل دفاعا عن الحقيقة وفي حب آل البيت، فاصطنع الإمام محمد الباقر والد الإمام جعفر ذلك الفتى اليتيم، وفقهه في الدين حتى إذا ورث جعفر الأمانة أخذ بيد جابر بن حيان وتعهده وحثه على دراسة علوم الحياة وزوده بمعمل وأمره أن ييسر كتاباته لينتفع بها الناس .. وخصص له وقتا في كل يوم يتدارسان فيه علوم الطبيعة والكيمياء والطب، وكشف له من تبصره بالفقه كثيرا من المعارف العلمية وهداء بالمعارف العلمية إلي التمكن من الفقه. وعلم وهو في المدينة أن في العراق مذاهب تدعو إلي الإلحاد والزندقة .. فخرج يناقش علماء هذا المذهب .. لم يقعد مكتفيا بالحكم عليهم بالكفر، أو يصب اللعنات عليهم، بل يناقشهم بمنطقهم، وليثبت لهم وجود الله، وقادهم مما يعلمون إلي مالا يعلمون.
واشتهر في ذلك الزمان طبيب هندي برع في علوم الطب والصيدلة فحرص الإمام جعفر على أن يلتقي به ويتعرف إلي علمه. وتبادلا المعارف معا ثم أخذ يحاوره في الإسلام وفي إثبات وجود الله. بهذه الحكمة والموعظة الحسنة عاش الإمام جعفر يدعو إلي سبيل ربه فاقنع كثيرا من الزنادقة والملحدين والمنكرين والوثنيين بالإسلام فأسلموا وحسن إسلامهم وأضافوا بفكرهم ثراء إلي الفقه وإلي العلوم في ذلك الزمان .. أمن بالتجربة والنظر العقلي والجدل طريقا إلي الإيمان وسلحته معرفته الواسعة العميقة بالعلوم في الاستدلال والإقناع، وجذب أصحاب العقول المبتكرة إلي الدين .. وهو مع انشغاله بكل ذلك، كان يتحرى أحوال الناس، ويحمل على كتفه جرابا فيه طعام ومال فيوزع على أصحاب الحاجة، دون أن يدع أحدا يعرف على من يتصدق!
ولكم أساء إليه بعض صنائع الحكام الذين خشوا التفاف الناس حوله فما قابل الإساءة إلا بالإحسان وهو يردد قول الله تعالى:
{ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ }( فصلت ، الآية : 34 ) وفي الحق أنه استطاع أن يحول كل الذين دسوا عليه ليسيئوا إليه، أولياء حميمين. كان يزدري الانتقام ويعلم الناس فضيلة العفو مرددا قول جده رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما زاد عبد بالعفو إلا عزا". ولكن أقارب جعفر لم يتركوه لما هو فيه من علم ودراسة ليؤدي دوره في تنوير العقول. فقد حاولوا اكثر من مرة أن يقحموا عليه السياسة. ودعوه إلي الثورة على الدولة الأموية، واجتمعت عليه الألسنة تلح ليتولى أمر الخلافة، فرفض وصرفهم عما هم آخذون فيه. فعادوا يطالبونه بالبيعة لواحد منهم ولكنه لم يوافق.
وكانت الثورة ضد حكم الدولة الأموية تشتد، ووميض النار خلل الرماد يوشك أن يكون له ضرام. وكان بعض المنتسبين إلي الفقه والثقافة وعلوم الدين، وقد صانعوا حكام بني أمية وزينوا لهم الاستبداد وأفتوا لهم بأنهم ظل الله في الأرض، وأنهم لا يسألون عما يفعلونه!.. وقد ساء رأي الناس في هذه الفئة من المنتسبين إلي الفقه والعلم، لأنهم باعوا شرفهم بالمناصب والجاه. وكان الصادق من اكثر الناس حرصا على حماية الأمة من سموم هؤلاء المرتزقة. وفي الحق أن الحكام الأمويين كانوا يحسنون مكافأة هؤلاء المتملقين، فيجزلون لهم العطاء ويولون بعضهم.
وكان بعض هؤلاء الولاة يحب أن يبدو فقيها عالما على الرغم من جهله المركب، وقد تعود أحد هؤلاء المرتزقة المنافقين أن يتقرب إلي الخليفة الأموي بلعن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وسب فاطمة الزهراء رضي الله عنها .. بعد أن كان الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز قد أبطل تلك الأحدوثة الشائنة: سب علي وفاطمة!! ولكن عمر بن عبد العزيز كان قد مات بكل عدله وحزمه وصفاته، وما بقى في الدولة من رجال إلا هذا الصنف من الضالين وصناع الضلال!! وعرف الصادق أن ذلك الفقيه المرتزق الذي كان قد كوفئ بتعيينه واليا مازال يسب عليا وفاطمة ويهدد الناس إن خالفوه .. والناس قد أسكتهم الخوف!
وإذ بالإمام الصادق يذهب ويستمع له ثم ينتفض مقاطعا المنافق المرتزق ويكشف للناس جهله ونفاقه، ويوضح للناس وهو يعظهم أن مثل هذا المنافق الذي يبيع شرفه وضميره بالمنصب أو بالجاه أو المال، ويبيع آخرته بدنياه، إنما هو ضال مضلل وهو أبين الناس خسرانا يوم القيامة، وأن محض افتراءاته وكشف جهله واجب. حقا .. ما كان الإمام الصادق يستطيع أن يسكت عن كل هذا التزييف .. على أنه ما من شيء كان يوجع الإمام الصادق مثل انحدار الذين ينتسبون إلي العلم والثقافة والفقه والدين إلي حضيض النفاق، والمراءاة، والانحناء، وبيع الضمير!! وما كان أنشط النخاسين في التقاط من ارتضوا أن يصبحوا عبيدا وإماء .. لقد شعر الإمام الصادق منذ استشهاد عمه الإمام زيد أنه يعيش في نهاية عصر!
إنها نهاية عصر .. حقا..!
وانتهى العصر ...
سقطت دولة بني أمية وأرسل الثوار إلي جعفر الصادق رسالة يطالبونه فيها أن يقبل البيعة ليصبح هو الخليفة.
جاءته الرسالة وهو مشغول في تأملاته ودراساته وتجاربه فأحرق الرسالة ولم يرد .. كان يحلق في سماء المعرفة، يضرب في أغوار العلم، ويشعر أنه أقوى من الملك .. أي ملك في الأرض!! وأنه باستمراره في دوره العلمي أنفع للناس! كان يقول: "من طلب الرياسة هلك" على أن الرياسة ظلت تطلبه .. وهو يرفض! وإذ رفض الخلافة .. بايع الناس أبا العباس حفيد عبد الله بن عباس بن عبد المطلب وبنو العباس هم بنو عمومة العلويين وتأمل الإمام الصادق فيمن يحيط بالخليفة الجديد!!.
لقد انتهى عصر .. هذا حق...
انتهى بكل خيره وشره، وجاء عصر جديد يتطلع فيه الناس إلي الحرية، والنظافة، والطهارة والعدل، فإذا بالمنافقين الذين زينوا الاستبداد لبعض الأمويين وشرعوا لهم العدوان والطغيان يحيطون بأبي العباس مؤسس الدولة الجديدة .. الدولة العباسية. ومات أبو العباس .. وورثه الخليفة المنصور وإذ بهؤلاء المنافقين يحيطون الخليفة الثاني في العصر الجديد!! وإذ بهم يوسوسون له بالآراء نفسها، وإذ بهم يوهمونه أنه فوق الحساب لأنه ظل الله في الأرض!! حتى لقد جعلوا المنصور يحمل الناس على تقبيل الأرض بين يديه!! إنهم أشباه رجال اشتهر عنهم الجهل والتخلف والغباء والحمق ووجهوا كل نشاطهم للنفاق!! نفوس كريهة زرية مهينة محتقرة!!
وحكم الصادق على العهد الجديد بمن يمثلونه ويفيدون منه!! أي أمل للناس في الخليفة وقد أصبحت الشورى لذوي الضمائر المتهرئة والألسنة المستهلكة؟ لقد مضوا يدعون إلي التقشف باسم الإسلام ويحببون الفقر إلي الناس باسم الدين، لينصرف المستبدون إلي جمع المال، وينصرفوا هم إلي الارتزاق!! لقد شرعوا للبغي وأحدثوا خرقا في الإسلام!! لقد أرادوا من الأمة أن تواجه إسراف الطبقة الحاكمة لا باستخلاص الحق المعلوم الذي شرعه الله، بل بالزهد في كل شيء! والانصراف عن كل حق! ثم وصل فجور هؤلاء المرتزقة إلي آخر مدى فوضعوا الأحاديث النبوية لخدمة الطبقة الحاكمة! حتى الأحاديث الشريفة لم تسلم من تزييفهم!!