تحية طيبة وفائدة مرجوّة إن شاء الله
ابن الرومي
شاعر المصائب والشكوى
محمود محمد أسد
سوريا- حلب-ص.ب12522
رحلتنا قصيرة وسريعة يرافقنا فيها شاعر مبدع. يعكس شعره حياته وطباعَه. إنه ابن الرومي الشاعر المبدع الذي عاش في العصر العباسي عصر القلق والاضطرابات. وعاصرَ تسعة خلفاء خلال مراحل حياته. ويهمنا أن نعرض شيئاً هاماً عن نشأته. فهو علي بن جريج المولود من أب ينتهي نسبه إلى اليونان ومن أم ينتهي نسبها إلى الفرس. ولا بدَّ أن يؤثِّرَ هذا التزاوج في حياته وطباعه بالإضافة إلى تكوينه الشخصي من مزاج حاد مضطربٍ إلى إحساس حادٍ ورقةِ طبع وتقلُّبٍ في المزاج. بالإضافة إلى فقدانه والده ومن ثمَّ أخوه الأوحد وبعدها زوجته وأولاده الثلاثةَ. كلُّ هذه المصائب مع ظروف عصره وطباعه كفيلة أن تؤثِّرَ على حياته وإبداعه. فلا غرابةَ أن نجده قلقاً مُنْفعلاً في حياته وقادراً على التعبير عن عصره ومصائبه بروح حزينة ساخرة من مفاهيم القدر. فوفاة ابنه الثالث تركته يشعر بالظلم من القدر والعصر:
أبنيَّ إنَّك والعزاءُ معاً
ما في النهارِ- وقد فقدتك- مِنْ
ما أصبَحَتْ دنيايَ لي وطناً
بالأمسِ لُفَّ عليكما كفنُ
أنسٍ ولا في الليل لي سكنُ
بل حيثُ دارُكَ عنديَ الوطنُ
فيبدو يائساً من الحياة مستسلماً للهمّ. ونبقى مع مصائبه في رثائه لابنه الأول ونلحظ مدى حزنه وشدَّةَ لوعته وحرارة التعبير:
أعينيَّ جودا لي فقد جدْتُ للثرى
بنيَّ الذي أهديتُهُ أمس للثرى
فإن تمنعاني الدمعَ أرجعْ إلى أسىً
بأكثرَ ممَّا تمنعان وأطيبا
فللهِ ما أقوى قناتي وأصلبا
إذا افترتْ عنهُ الدموع تلهَّبا
فحياة ابن الرومي شريطٌ مأساوي من الحزن والمصائب التي لم تتوقف. بل كانت ترصد لحظات الهناء لتسرقَها منه. فابنه الأوسط غاب عن عينيه تاركاً غصَّةً في قلبه وألماً جعله يغضب من الدهر والمنايا:
ألا قاتل الله المنايا ورمْيَها
لقد أنجزتْ فيه المنايا وعيدَها
وأولادُنا مثل الجوارح أيُّها
من القومِ حبَّاتِ القلوب على عمد
وأخلَفت الآمالُ ما كان من وعدِ
فقدناه كان الفاجعَ البيِّنَ الفَقْدِ
أحاسيس ملتهبة وقلب يتفطَّرُ ألماً وأسى ولوعة. وحُقَّ له ذلك وهو الأب والشاعر بما تعنيه الكلمتان من معنى. فنظرة الشاعر كذلك لم تكن نظرة إنسان متفائل بل كانت محاطة بالتشاؤم والحذر والخوف ممَّا جعله يرثي لحاله ويتوجه للحاسدين:
أيُّها الحاسدي على صحبتي العُسْرَ
ليْت شعري ماذا حُسِدْتُ عليه
وذمِّي الزمانَ والإخوانا
أيُّها الظالمي إخائي عيانا
فدائرة ابن الرومي الشعرية لا تتجاوز التشاؤم والسخرية من القدر والناس، وهو الذي ملك حِسّاً مرهفاً. فقد هجا وعاب المغنيَّة والأحدبَ. وهجا المجتمع الذي تقاعس وأغمض عينيه عن مدِّ يدِ العون لذلك الحمال الكفيف الذي توجَّهَ للعمل الشاق رغماً عنه:
رأْيتُ حمَّالاً مُبينَ العمى
مُحْتمِلاً ثقلاً على رأسِهِ
وما اشتهى ذلك ولكنه
فرَّ إلى الحملِ على ضعفهِ
يعثُر في الأكم وفي الوهْدِ
يَضعُفُ عنهُ قوَّة الجلد
فرَّ من اللؤم إلى الجهدِ
من كلماتِ المكثرِ الوغْدِ
فهذه شكوى من ظلم المجتمع وتعرية لواقع اجتماعي يبدو مفكَّكاً. فقد خاب ظنُّ الشاعر بالناسِ لأنه لم يجدْ منهم لحظةَ لطف وموقفَ مواساة. فخاب أملُه بأمير خراسان طاهر بن عبد الله بن طاهر:
مدحْتُ أبا العبَّاسِ أطلبُ رفدَه
فخيَّبني من رفدهِ وهجا شعري
هذه المواقف أدخلت إلى جوفه الخوف والشكَّ من الناس فبدأ يتطيَّرُ منهم ويتشاءَم، ويظنُّهم يترصَّدونه بنظرةِ الحسدِ رغم سوء حاله:
يحاسدوني وبيتي بيت مسكنه
قد عَشَّشَ الفقرُ فيه أيَّ تعشيش
وقد أصيب ابن الرومي في آخر حياته بمرض شديد أدخل السَّأم والقنوط لنفسه وجعله قلقاً:
ولقد سئمتُ مآربي
إلاَّ الحديثَ فإنَّهُ
فكأنَّ أطيَبَها خبيثُ
مثلُ اسمِهِ أبداً حديثُ
وظلَّتْ حالةُ اليأس تلاحقه في حياته، فيبوح بها شعراً. يُعزِّي نفسه الكئيبة التي اكتوت بالمصائب والأهوال. فتشاءَم من ولادة الأطفال:
لمَا تُؤْذَنُ الدنيا بهِ من صروفها
وإلاَّ فما يبكيهِ منها، وإنَّها
يكونُ بكاءُ الطفلِ ساعةَ يولّدُ
لأرْحَبُ مِمَّا كان فيه وأرْغَدُ؟
وكان يتألم وهو يرى مَنْ هم أدنى منه مرتبةً شعريةً، تُفْتحُ لهم أبواب الخلفاء والأمراء فتبتسمُ لهم الحياة، فغابَ عن بالِه أنهم يملكون القدرةَ على التكيُّفِ مع الممدوحِ. وهو الذي لم يستطعْ أن يعيش في نفسية وطبيعة تتلاءمُ مع شخص الممدوح. فكان سلوكه وطبعُه واحداً لا يتغيَّرُ. وهذا يجعله بعيداً عن الناس وينفرون منه. وهو يكثر من الشكوى والقلق والتشاؤم ناسياً ممدوحَهُ الذي اعتادَ مواقفَ الإجلالِ والتمجيد بالبطولة والقوة. ولو كان يملك هذه المقدرة على التلاؤم لكان من أشعرِ شعراءِ العربية لما يملكه من صور شعرية رقيقة وتحليل رائعٍ يرسمه بأدقِّ التفصيلات. وقد لحق سوء الطالع له بعد مماته وفي حياته. فمات مسموما ولم يهتم به أحدٌ، من النقاد إلا القليل. ولم يكترثوا به كأبي تمام والمتنبي والمعري وأبي نواس. وديوانه الضخم لم يكتب له النور كاملاً بل كانت هناك محاولات لإخراجه وقد أحسَنَ عباس محمود العقاد وطه حسين والمازني لهذا الشاعر المبدع والذي يحكي شعرُه حياته ويحلِّلُ نفسه أصدق تحليل. حيثُ حبُّه للملذَّاتِ والنهم من الحياةِ. وكان شعرُهُ حافلاً بذكرِ ما لاقاه من أذى الناسِ وصروف الأيام وعنفِ اللَّيالي:
ومن صحب الدنيا على جور حكمها
فخذْ خلسةً من كلِّ يوم تعيشُه
ودعْ عنك ذكرَ الفأْلِ والزَّجرِ واطّرح
فأيَّامُهُ محفوفة بالمصائب
وكنْ حذراً من كامناتِ العواقب
تَطَيُّر جارٍ أو تفاؤلَ صاحبِ
فكلُّ شيء يوحي إلينا ويرسم معالم شاعر حسَّاسٍ مُتَقلِّب الأهواء. يحبُّ حبَّاً لا حدودَ له، ويكره كرهاً لا حدودَ له. كيفَ لا وهو يرى الصدودَ من أقربِ الناسِ؟ فقد كانت له ضيعةٌ وهاجمَ الجرادُ زرعَها:
ليَ زرعٌ أتى عليه الجرادُ
كنتُ أرجو مصادَهُ فأتاه
عادَني مذْ رَزَيته العوَّادُ
قبل أن يبلغ الحصادَ الحصادُ
ونراه يشكو من تلك المرأة التي استولت على بيت له:
أحينَ أسرْتُ الدهرَ بعد عتوِّهِ
وأصبَحْتُ مكفِيّاً همومي مُزايلاً
تهضِّمُني أنثى؟ وتَغصْبُ جهرةً
وفَلَّلْتُ منه كلَّ نابٍ ومخلَبِ
غمومي،مُوقَّىً كلَّ سوءٍ ومعطب
عقاري؟ وفي هاتيك أعجبَ مُعْجَبِ
وحديثنا عن شكوى الشاعر لا ينتهي ففي حزنه بؤسٌ وشكوى وحرقة. وفي شعره نرى ملاذ الشاعر الذي لم يجد من يسمع شكواه فكان البوح أفضل وسيلةٍ للتعبير عن الهموم والآلام وهذا البوح الصداق مرآةٌ تعكس مسيرة حياة الشاعر المليئة بالمصائب والأهوال..
المراجع:
1-مصادر الهشيم –ابراهيم عبد القادر المازني
2-ابن الرومي -محمد عبد الغني حسن.
3-من حديث الشعر والنثر- د:طه حسين.