الكساد
أخيراً تحرَّر من سجن الوظيفة. هذا حسب اعتقاده. عقودٌ أمضاها في التعليم و التربية. قال: لا بدَّ من عملٍ مفيدٍ يملأ وقتي و يقتل الملَلَ و الفراغ. جَمَعَ ما أخذَهُ من منحٍ و هباتٍ. ارتاحَ نفسيّاً و هو يرى الرفوف و عليها الكتب و المجلاَّت. ابتسم من أعماقه و هو يقرأ لوحة المحلِّ الجميلة ((مكتبة المنهل)) هنَّأه الأصدقاء و الأقربون و الزملاء و تمنُّوا له الخير..
أيّام و أيّام و هو يشعر بخيبةٍ تِلوَ خيبة. الكتب التي اختارها في مكانها. و لكنَّهُ كان دائماً يُسْألُ عن كتب لم يفكِّرْ فيها. _ عندكَ كتاب فن الطبخ؟
_ أبحث عن كتاب فن الحديث في المجتمع الراقي.
_ و أخرى تسأله: أحبُّ الاشتراك في المجلاّت التالية: فن الطهي ـ المطبخ العصري ـ و مجلة النصف الآخر ـ
نادين ـ الشبكة...
و بعدَ أسابيع عادَ إلى البيت و السؤالُ يطرق أذنه: أريدُ كتباً جلدُها أحمرُ. و مجموعة من قياس 14×22 لإملاء مكتبة البيت.
ـ ـ ـ
اللِّعِبُ بالأرقام
في سهرةٍ اعتَدْنا قضاءَها مع مطلع كلِّ شهر . عُمْرُها سنوات . نتبادلُ فيها الأحاديث والأخبار المنوّعة . نتحدَّث عن الأولاد والعمل .. نسترجع الذكريات ، تأخذنا الحياة وظروفها . بصراحة كنّا ننفض عنّا غبار الأيّام الماضية. لكنّ سهرتنا بدأتْ تميل الى الجمود عن المألوف . فكلُّ شيء محسوب وله معيارٌ ونقترب منه بحذر وكأن شيئاً ما يحجز بيننا .
بيني وبين نفسي قلت : يا جماعة السهرة القادمة في بيتي ، وفي نفسي أضْمَرْتُ شيئاً في نفسي .
حضر الجميعُ .. والتفَّ الشّمْلُ .. وتبادلنا عبارات الترحيب وأحاديث الودِّ قلْتُ : ما رأيكم بالتجديد؟ وإعطاء ثوب جديد لسهرتنا القادمة والحالية . بعضهم وافق مباشرة ، وبعضنا أبدى تحفُّظاً . والآخر رفض الفكرة . وهذا ما كنت أتوقعه .. قلت لهم : نغيِّر الفكرة ونبحث عن لعبَة نلعبها . فلْنلعب لعبة الصراحة .. أيضاً وَجَدْتُ وجهات نظرٍ مختلفةً . ولاحظْتُ وجوماً ارتسم على الوجوه .. وغابت الابتسامة .. قلت : ما المانع من اللّعب ولكن على الورق .. ودون ذكر أسماء معيّنة .. نكتبُ أرقاماً عوضاً عن أسمائنا . وافقوا على مضض ووزِّعت الأوراق وكان السؤال : كيف تنظر لسهرتنا ؟ وعلاقاتنا ؟؟
رقم واحد – قال : نحن نخشى مصارحة أنفسنا وزوجاتنا . فكيف نتحدّث عن عيوبنا ؟ الورقة ذات الرقم الرابع كتب عليها : باختصار خيرُ عادة ألاَّ تعتاد عادة لذلك أرفض هذه الفكرة لأني لم ألتزم مطلقاً بعادة الصراحة . وهناك ورقة جاء فيها ، أنا هنا لإملاء الفراغ لا غير . ولماذا هذا الإحراج والتعب؟! ورقة أخرى وضع أحدهم فيها ثلاث إشارات استفهام .. وبعدها ثلاث إشارات تعجب … ثم كتب ، أحرص على عدم خسارة السهرة ، فأفتقدُ لحظة قد لا تعود … فاعذروني والورقة الأخيرة جاء فيها :
سأكتب في السهرة القادمة دعوني للتفكير …
في السهرة القادمة لم يأت سوى واحدٍ وبيده ورقة وقلم … وانتظر فلم يجد أحداً … طرق الباب … لم يفتح له… عاد وبيده الورقة وترك القلم . وراح ينغِّمُ عبارات لا يعرف دلالتها وطعمها …
المسالك المغلقة
أحب أن يزرع في بيته ما افتقده في معترك الحياة والشارع
والعمل . فكانت المواجهة قاسية وكانت الضريبة أقسى . فالطرق مسدودة والآذان مغلقة . والعقول موصدة . تحسر وتألم . وقلب النظر . فقال : لم يعد يختلف الشارع عن البيت .. يالروعة المساواة المجنحة ..
المساواة
العصفور الجميلُ ، توقَّف عن الزقزقة و اللعب في قفصه الواسعِ الجميلِ الذي وضع على شرفة يُطلُّ منها على حديقة الأطفال . يراهم عن بعد فيزقزق لهم ، ويغنّي أعذب الأغاني ، فيفرح الأطفال و يهزجون له . يرتفع صوته من جديد . هو تعب وحزين لأن الحديقة خَلَتْ من الأطفال و تحوّلتْ إلى سوق ... لكنه كان ينصت إلى حديث الزوجين . قال الزوج لزوجته : بدأت أكره عملي .. قالت له : و لمَ تكرهُهُ ؟ ما شاء الله ! مكتبك كبير و أنيق .. آذن – هاتف – سكرتيرة جميلة .. و لا أغار منها .. قال لها بعد تثاؤب و حركات لا إرادية : أشعر أنني عصفور في قفص . فلا أقدر على حركة . و لا أقدر على التصرّف. و لا أملك حق القول : لا ... لا.... نظرتْ زوجته و قالت له : أنا في البيت مثل هذين العصفورين ، وأشارتْ بيدها
أنا أحمق أم جريء ؟؟
نعم .. أنا أحمق .. أنا متهوّر .. قالها مراراً . أعادها بأشكال مختلفة . قالها وهويرمي الرذاذ من فمه .. ثمَّ قال : - من أرسلَهم في هذا الوقت ؟ لا شكَّ أن هناك متبرِّعاً بل متبرِّعين …
أعادَها من جديد وبصورة مغايرة …
- طيّب أنا أحمق … بل أنا جريء . ومَنْ غيري يقدرُ على التعبير وكشفِ مواطن الفسادِ والخَلَلَ .
توقَّف قليلاً … التفت حوله … رفع رأسه ، وتابع :
- هم قالوا : " تكلّموا .. قولوا ما شئتم .. حدَّدوا أماكن الفسادِ والأشخاص .. أشيروا إليهم بأعلى أصواتكم … صَمَتَ قليلاً .. بلع ريقَهُ وتابع :
- لا … لا لم أعدْ أصدِّقْ نفسي … ولم أعدْ أصدِّقْ أقوالهم … يبدو أنَّها للاستهلاك .. وربّما للتوريط ربَّما شرك لئيم ..
هذه الهلوسات والتساؤلات شدَّت وثاقها على يافوخه . رحْتُ أبلع غصَّتي ، وآلام رأسي … عارَكني الوسَنُ … جاذبْتُهُ وجاذبني …
في اليومِ التالي نظرْت إلى ورقة التقويم ، دهشتي لم تدم طويلاً فكانت تؤرَّخ بـ ( نيسان ) وخلفها لا تصدِّق كلَّ ما تسمع … ولكنْ صدِّق ما ترى " طُرِقَ البابُ … خرجْتُ معهم … وأنا أقول :أنا أحمق … أنا أحمق …
ولكم الشكر