الوفاء ...لزمن الحب والحرب (1)

قصي المعتصم

قد يبدو عنوان هذه المجموعه القصصيه غريبا بعض الشيء ولكن يكاد يكون هوالأقرب لواقع ومفردات وأحداث جرت خلال حروب ظالمة ابتلى بها هذا الوطن.....الذي تحمل أعباء ومعاناة صد كل هجمات الغزاة الطامعين لأحتلال بلادالعرب والمسلمين على مر التأريخ
فلقد شهدت ظروفا ومواقف عديده ، خلال سنوات حرب الثمانينيات والتسعينباتمن القرن الماضي ، وأكتملت باحتلال هذا البلد عام ( 2003 )...... لقد أوفىهذا الشعب مع كل اخوانه العرب ، فغدروا به ، كما غدر به جيرانه ، لكنهملايدركون، انهم باعوا لاعداءهم أغلى جزء منهم بثمن بخس........ قصص جسدتمعاناة شعب قلما وجد من عانى مثله...
ولكي لايمضي هذا الزمن الصعب من دون ان تدون صفحات منه لتطلع عليه الأجيالالقادمة ، لكونها مرحله مهمه من مراحل تاريخ هذا الوطن ، لتعرف حجمالمعاناة والماساة التي مرت بشعبه ، بالاخص ابناءه الذين صنعوا بدمائهم ،ملاحم البطوله ، والتضحيه ، وجسدوا أروع قيم الشهامه والشجاعه ، صنعواتأريخا مشرفا لوطنهم ، وحافظوا عليه من أطماع الآخرين....... أفلا يستحقمنا هذا الوطن ، ومن ضحى من أجله ....بعضا من الوفاء ...... ؟
قد تكون تلك الكتابات هي بعض مما يسمى (أدب الحرب ) والذي يكاد الكثيرونيعزفون عن قراءته ،لأن كلمة الحرب بحد ذاتها تمثل الدمار والألم ، وليسهناك من يرغب في أن تزداد همومه وسط هذا العالم المجنون ، ولكن أظن ان منالوفاء أن لاننسى تضحيات أناس قدموا حياتهم لأجل وطنهم ، وقد تكون حياتهموحياة من عاصروهم غائبه عن أذهان الكثيرين ، لابل لايتذكرون منها سوىملابسهم العسكريه ، أو أسماء مرت بخاطرهم في يوم من الأيام ، ولم يكن لهااي اعتبار حينها ، او لاحقا، بعدما غادروا هذا العالم، لكي نقدم بعضا منالوفاء لهؤلاء الرجال الذين ضحوا بحياتهم حتى نستمر في حياتنا مرفوعيالرؤوس ، ولتعطي دروسا في معاني التضحيه والكرامه ونكرات الذات لهذا الجيلوالاجيال القادمه ، كي نتمكن من مواجهة الواقع المؤلم الذي يمر به بلدناالآن بعد الاحتلال ، وليعرف رجال هذا الجيل وشبابه ان المحن والشدائد هيالتي تصنع الرجال ، وان العراقي لن يفرط بكرامته او بشبر من أرضه مهما طالالزمن .
انها قصص تدخل الى أعماق هؤلاء الرجال ، كيف عاشوا ، كيف فكروا ، كيفقاتلوا ، كيف .ضحوا بحياتهم ، لاجل أن يحيا الوطن ....كيف ......وكيف.........ثم أصبحوا في طي النسيان ....
تتميز تلك القصص بانها مزجت بين العاطفه والرغبه ....بين الواقع والطموح ....بين الولاء والانتماء ....بين الحياة .......والموت

انها قصص واقعيه باحداثها وشخوصها ، وسيتم ذكر أسماء من استشهدواصريحة قدر الامكان ، والبعض الآخر لجأت لاعطائهم أسماء مغايره اذا ماكانذلك ضروريا لاعتبارات معروفه ...
وحرصت على ذكر بعض الوقائع وباسماء الذين شاركوا فيها ليطلع أهل وأبناءوأقارب من ينتمون لهم على بطولات ومعاناة هؤلاء الرجال الذين صنعوا تاريخامشرفا لهذا الوطن ، سواء منهم من غادرنا الى الأبد ...أو..... مازال بيننا، ولم نعطيه حق قدره .
ان من لايفخر ويعتز بانجازات أمته ورجالها عبر التاريخ ، لن يكون له اساسلبناء المستقبل ، وسيبقى تتلاطمه الامواج وتنأى به بعيدا عن بر الأمان ،لأن عالم اليوم ليس فيه مكان للضعفاء او المتباكين على الاطلال ....
للتأريخ ...سأكتب .... للوفاء ....سأكتب...... مع اعتذاري لبعض الهفواتهنا وهناك فأنا لست بكاتب محترف أكتب لأتقاضى أجرآ، ولأني لاأستطيع أن أثقبأحد اذا ماأراد أن يكتبها بدلا عني ،فأنا الذي اكتويت وتألمت وعانيت،وعشت ، وشهدت بعضآ من تلك المآسي ، وأعتقد أنه أيا كانت متانة النص الذيسأكتبه سيصل الى قلوب كل الناس لأنه صادر من قلب رجل مفعم بالحب والوفاءلأبناء وطنه وللذين ندين لهم بوجودنا ومستقبلنا ....
أتمنى من الله ان يوفقني لأكمل رسالتي تلك لأكون مرتاح البال والضمير ،رحم الله من استشهد من أبناء هذا الوطن على مر التاريخ ، وبارك الله بكلمن قدم ويقدم البسمة والأمل لأبناءه .
مع كل الاحترام والتقدير لكل رأي يصلني او معلومة فاتني ذكرها ،أو أراد أنيشترك معي باتمام رسالتي تلك ويدون مامر به ، لأنها بعضا من الوفاء.....لأهل الوفاء ... في زمن الحب والحرب .
الغريب

اعتدت كل ليلة ان اخرج الى ساحل البحر وأتخطى على رماله ، وأصغي لهدير الموج المتلاطم على صخوره ، ولحظات صمته وسكونه ....
كنت أشاهده كل ليله ، يجلس على كرسيه وحيدا منزويا ، صامتا ، ينفث دخانسيكارته التي لاتفارق شفتيه ، لايلتفت يمينا او شمالا ، عيناه شاخصة صوبالبحر، وكأنه يناجيه وهكذا يقضي وقته كل ليله ، ولايغادر مكانه حتى تتبينخيوط الفجر الاولى .....
دفعني الفضول ، والرغبة بالتقرب من هذا الرجل ، لأعرف بم يفكر ! وهل في هذا الانزواء والصمت الطويل متعه !!!
لم أكن أتوقع أن تتوطد علاقتي به سريعا ، كنت أخشى أن يكون ذا تركيبةغريبه من البشر ، ولكن فوجئت بانسان يحمل قلبا يحتوي حب كل الناس ، وشعرتبالسعاده وأنا أجلس معه ونيسآ لوحدته طوال الليل ..... وتوالت الليالي.....وعرفت ان في حياة هذا الرجل قصصآ وحكايات ،يجب ان لاتبقى مخبأة الىالأبد، حتى لايطويها النسيان ،عرفت ان هذا الرجل لم يكن الا واحدا منالذين خاضوا معترك الحياة ، بكل عنفوانها ، وقسوتها ، وجبروتها ، وجهدطوال حياته ليبقى وطنه عزيزا ، شامخا ..... ليحظى بموقع يليق ويفخر به ،ومن بعده اولاده ....
وذات ليلة ، هزته الشجون ،وفاضت به الذكريات ،فاسترسل بالحديث .... وكانت القصة الاولى ...

سكرات الموت

الايام الاولى من سنة 1987 ، كنا قد انهينا توا واجبنا بالدفاع عن جزيرةام الرصاص في البصره ، ومنع القوات الايرانيه من احتلالها ، تلك المعركهالتي استمرت لعدة أيام استبسلت القوات العراقيه المدافعه ، وأحبطت كلمحاولات الايرانيين للسيطرة عليها ،وبعد عجز الايرانيون عن احتلالهاانسحبوا وأوقفوا عملياتهم بتلك الجزيرة .

في اليوم التاسع من ك2-1987 صدرت لنا الأوامر بالتحرك الى شرق البصرهلمشاركة القوات المتواجده من الفرقه الحاديه عشرة بمعاونة الفرقه الثامنهوالقوات المتجحفلة معها للاستعداد لصد هجوم واسع النطاق من قبل القواتالايرانيه في محاولة منها لاحتلال مدينة البصرة .
كانت القوات المتواجدة قد صدت عدة هجمات خلال الأيام التي سبقت وصولنا ،وتطلب الموقف الميداني تحريك عدد من القطعات العسكريه المتواجدة بقواطعأخرى لتعزيز و تقوية الدفاعات أمام الهجمات الواسعه التي حشدت لها ايرانأفضل قواتها ،كما وتستعد لشن هجوم واسع خلال الساعات القادمة وكنا نحنجزءآ من تلك القطعات التي وصلت لدعم دفاعاتنا.
تحركنا بعد سدول الليل لاستطلاع مواقع انفتاح وحدتنا وكانت ارض المعركةكقطعة من الجحيم تتساقط عليها القذائف والصواريخ كالمطر ، امضينا قرابةالساعتين لتحديد المواضع ، بعدها تحركنا مسرعين لاستغلال الوقت ونقلوحداتنا الى مواضعها الجديده قبل حلول الضياء الأول ، وهو الفجر ، لأنهحينذاك لن نستطيع الحركه بشكل آمن وستكشف مواضعنا امام المدفعيه الايرانيهونتكبد خسائر كبيرة ، ونحن في طريقنا وحال وصولنا لنقطة سيطرة خلف تلكالقوات حاولنا ان نستمر بطريقنا دون توقف استغلالا للوقت ولكون العجلهالتي نركبها معروفه للسيطرات بانها تقل ضباط ، ولايمكن لضابط ان يتحرك بهاالا لظروف تتطلبها المعركه ، كأن تكون تبليغات مهمه للقيادات او توجيه بعضالقطعات لمواقعها الجديدة ، وغيرها من الأمور التي يعرفها العسكريون بخصوصذلك
لكن فوجئنا بمجموعه من الجنود يشهرون السلاح بوجهنا ويأمروننا بالتوقفوبلهجه صارمه وخشنه ، حتى بعد أن عرفوا اننا ضباط استطلاع وعائدون لجلبوحداتنا وان التأخير ليس في صالحنا ، لكنهم رفضوا السماح لنا بالمرور الاّبعد التاكد من القيادة العليا ، وعند الاستفسار من البعض منهم ،عرفنا انهمفرق اعدام تتواجد خلف القوات المقاتله ومهمتها اعدام اي عسكري مهما تكنرتبته اذا ماتبين انه منسحب من أرض المعركه او ترك موقعه لاي سبب كان عدامن كان مصابا اصابة خطيره تتطلب نقله الى الوحدات الطبيه أو مستشفياتالميدان، انتظرنا قرابة ربع ساعة ، عرفوا خلالها اننا فعلا مجموعة استطلاع، والحقيقة اننا فوجئنا بهكذا موقف وشعرنا بالقلق من ان يحدث اي خطأ فيتفسير تواجدنا ، مما يؤدي لعواقب وخيمه علينا جميعا دون ذنب اقترفناهوحمدنا الله ان الأمور سارت بشكل طبيعي وواصلنا طريقنا لننقل وحداتنا الىمواضعها الجديدة ..

بدأنا بنقل وحداتنا الى مواضع انفتاحها الجديده ، وبالرغم من الظلام ،والطقس البارد ، وكثافة القصف المدفعي على تلك المنطقة فقد واصلنا عملنابهمة ودون توقف وسط مصاعب جمة لايعرفها الا رجال المدفعية انفسهم من صعوبةتحديد المواضع والاستدلال عليها الى انفتاح المدافع ونقل وتامين اكداسالعتاد وتوجيه المدافع وتحديد اماكن الرصد وتسجيل الاهداف المحتمله لتقربالعدو ، كل ذلك حصل بساعات قليلة وهذا مالم يحدث في تاريخ الحروب الحديثة، ولكن سنوات الحرب الطويلة وحرصنا على سلامة ارضنا واهلنا ،اكسبتنا خبرةعالية لااعتقد ان جيشا في العالم توفرت له ، او مر بمثل الظروف التي مررنابها ، لذلك اكتسبنا خبرة واسعه في التعامل مع اصعب الحالات والمواقف ،وبات بعض من الجنود لديهم من الخبرة ماتوازي خبرة ضباط كبار في جيوش اخرى، وبات اصغر ضابط يمتلك من الخبرة ماتجعله قادرا على تبوأ اي منصب كبيرلايتناسب وصغر رتبته لان خبرته فاقت مايكتسبه اي ضابط في اي جيش في العالمعشرات المرات ...
مع بزوغ فجر العاشر من كانون 2 كنا قد انهينا كل الاعمال المطلوبه واصبحناجاهزين لتلبية طلبات النيران وبأعلى مستوى من الدقة والكثافة ، كانانفتاحنا بمنطقة لم تكن محصنه تماما ، بل كانت هناك مواضع حفرت سابقاللدبابات وجراء الظروف الجويه وتركها لفترة طويله باتت شبه مندرسه فقمناببعض الاصلاحات لتهيأتها بالحد الأدنى لاستيعاب وحداتنا على أمل تطويرهالاحقا وهذا مايحدث لكل القطعات التي تدخل المعركه بصورة سريعه لدعم قطعاتاخرى سواء في الدفاع او الهجوم وهذا ماكنا فيه نحن ، حيث ان شدة الهجماتالتي تشنها القوات الايرانية ، وحجم القوات المهاجمه ، تقابلها قواتناالمدافعة ، جعلت من هذه المنطقة ( شرق البصرة ) تشهد واحدة من اشرسالمعارك التي دارت خلال سنوات الحرب ، مابين اصرار القوات الايرانيه علىاستثمار التطور المفاجيء الذي حدث باحتلالها لمدينة الفاو ومحاولة استغلالالحالة المعنوية للقوات العراقية بعد تلك الانتكاسة ، ومحاولة احتلالمدينة البصرة لفرض واقع جديد قابل للتطوير والامتداد باتجاه المحافظاتالجنوبيه صعودا نحو بغداد لاحتلالها كما كان قادتها يصرحون به قبل بداالحرب ، وماسمي انذاك بمنهج تصدير الثورة ...
كانت مواضع المدافع التي تم الانفتاح فيها تبعد بحدود كيلومترين عن خطوطناالاماميه من الجهة الشماليه الشرقيه لمنطقة عمليات شرق البصره لانه كانتهناك بحيرة بيننا وبين القطعات الايرانيه ( بحيرة الاسماك )بعمق 3 الى 5كيلومتر، أما من ناحية الشرق لمواضعنا فكنا نبعد بحدود 5 الى 7 كيلومتر عنالخط الأمامي لقطعاتنا في تلك المنطقه ، وكانت كل تلك القوات المتواجده فيشرق البصره تتخذ مواقعها على الأراضي العراقية بالكامل وضمن حدودناالدولية المتعارف عليها ...
منذ طلوع الفجر وحتى الضياء الأخير اعدنا النظر بكل الأعمال والتأكد منعدم حصول خطأ ما وتحسين موضعنا من كافة النواحي ، وانتهى ذلك اليوم دون ايحادث مهم يذكر حتى تجاوزت الساعة الواحدة صباحا ، كانت قد مضت 44 ساعةلاأتذكر انني تناولت شيئآ من الطعام ولم أسترح أو أنام لساعة واحدة ،وخلال ذلك اتصل بي آمر البطرية ( ملازم أول جمال جخيور عينس ) والذي كانموقعه ضمن الخط الأمامي لقطعاتنا المواجهة للعدو ، واطمئن على سير الاموروان كانت هناك أية مصاعب أو احتياجات ، طمأنته بأن كل شيء يسير بشكل طبيعيونحن جاهزون لأي واجب ، كنت أكن كل الاحترام والتقدير لهذا الرجل البصراويالأسمر ، الوسيم ، الشجاع ، البطل الذي لايهاب الموت ، كان من فئة الرجالالمؤمنين بوطنهم ، وبحب أرضهم ، بسيطآ ،طيبآ ، ذا خلق عال ، لايغضب ،لايتجاوز على الآخرين ، أحببناه جميعآ ،ضباطآ وجنودآ ، عزيز النفس ،ولهموقف رجولي يتصف بالكرم والرجوله والثقة بالنفس لاينسى ( فقبل ايام حينانهينا واجبنا بصد الهجوم الايراني على جزيرة ام الرصاص ، حيث كانالايرانيون قد دخلو الى الجزيرة وباتت شبه ساقطه بايديهم ، كان لوحدتنادور مشرف بتغيير الموقف لصالحنا واجبار العدو على ترك المنطقة والهروبباتجاه اراضيهم ، حينها قال له قائد القوه المدافعة عن الجزيرة ( العقيدمحمد ) بأنه سيطلب تكريما خاصا له لدوره بصد ومنع الايرانيين من احتلالالجزيرة ، فأجابه جمال ، لاياسيدي هناك من يستحقها أكثر مني ويتقدم علي ،انه الضابط المسؤول عن النيران التي أدت الى صمودنا وانتصارنا فقد بذلومعه الجنود جهودآ جبارة لتأمين النيران بكثافة ودقه جعلت المعركه تحسملصالحنا ، ربت الرجل الذي لايقل خلقآ وشجاعة على كتف جمال وقال له باركالله فيك هكذا هم الرجال الحقيقيون الذين لاينسون اخوتهم والرجال الذينيعملون معهم ) ، كما اخبرني جمال لاحقآ عن موقف لاينسى لهذا الرجل ، فبعدانتهاء المعركة ، خرجوا بجولة حول المواضع الدفاعية ، وكانت هناك أعدادآمن شهدائنا وكذلك قتلى ايرانيون ، كان هذا الرجل البطل ، المؤمن ، يقفلقراءة الفاتحه ، أمام كل جثة يصادفها ، ايراني كان أم عراقي بلا تمييز ،بل وأمر بدفن القتلى الايرانيين بشكل لائق ووضع علامات تشير اليهم للتعرفعلى اماكنهم لاحقا ، تلك كانت اخلاق المقاتلين العراقيين ، وكيف تصرفالايرانيون بموقف مشابه ، كما سياتي لاحقا ......


بدأ الهدوء والصمت التام يلف كل المنطقة التي نحن فيها وبشكل غير طبيعي ،استمر بحدود نصف ساعة ، وفجأة رن الهاتف المرتبط مع المقر وكان تبليغآبوقف النيران بالكامل وذلك لدخول
قوات خاصة عراقية لتاخذ مواقعها ضمن قطعاتنا ومن شأن الرمي على العدو مندون ضرورة قصوى سيجعلها ترد على مصادر النيران مما قد يربك انفتاح تلكالقوات ويوقع بها خسائر ....كان ذلك بمثابة فرصة لالتقاط الأنفاس وأخذقسطآ من الراحه بعد عناء يومين ، علمآ لم نغتسل او نخلع أي جزء من ملابسناطيلة تلك الفترة ، ومازال امامنا وقت عصيب حال بدء الهجوم المتوقع ....
لم تمض سوى دقائق معدودة ، وقد قارب الوقت الثانية صباحآ ، حيث سمعنا أصوتخطوات ثقيلة لعدد من الأشخاص بموازاة موضعنا أخرجت رأسي من الموضع الذيلايتجاوز ارتفاعه المتر بقليل وتم تسقيفه بالصفيح نتيجة ضيق الوقت ،وناديت عليهم ، وكانوا يرتدون الملابس العسكريه العراقيه التي يرتديهارجال القوات الخاصه، لم يبالوا بندائي وواصلو طريقهم ، فناديت عليهم مرةثانية ، وحينها نادى أحدهم على المجموعه ( هنا ...هنا ...جماعتنا) ومنلهجته العراقية الخالصه وملابسهم تأكدت من ان هؤلاء لابد ان يكونوا جزءآمن القوة التي ابلغنا بوصولها ، وبسبب الظلام الدامس الاّ من بعض مشاعلالتنوير بالجو فلابد انهم لم يستطيعوا تحديد أماكنهم بالضبط أو ظلّواطريقهم ، لحظات ، تقدم نحوي أحد أفراد المجموعه مستدلآ طريقه على اتجاهالصوت الذي صدر مني ووجود مشعل تنوير في الجو فيما بقي أفراد المجموعةمستمرين بسيرهم بشكل طبيعي ودون اية فعاليه او اشاره لشيء يبعث على الشكاوالريبة ، وحينما وصل على بعد مترين مني ، قلت له : ( اخي من ايّ وحدةأنتم ؟ والى أين ذاهبون ؟ فهذه المواضع تعود للمدفعيه ، ولايجوز لكم انتسيروا فيها بهذا الشكل وهذا خطر عليكم ، ان كنتم قد أضعتم طريقكم فسندلكمعلى المكان الذي ترغبون بالوصول اليه ) فقال :ممكن تخرج من الموضع وتكلمني، فقلت له : اخي اخبرني عن اي شيء تبحث لاعينك ،كنت أكلمه وانا حاني الرأسبسبب قلة ارتفاع الموضع وبرودة الجو بالخارج وحالة الارهاق التي تتملكنينتيجة يومين من التعب وعدم النوم ، وخلال تلك اللحظة انطفأ مشعل التنويرفي الجو ، وساد المكان ظلمة حالكة ، خلال تلك اللحظة احسست بأنه تقدم خطوةنحوي واذا به يطلق رصاصة من بندقيته باتجاهي ، أصابتني في كتفي ، صعقت منهول الصدمة ، وكرد فعل تراجعت الى الوراء للاحتماء بأكياس الرمل واذا بهيطلق باتجاهي رصاصه ثانيه وأصابتني ايضا ، حدث ذلك بلمح البصر ولم أكنأتوقع ذلك ، وقد كان تأثير الرصاصة الأولى مؤثرآ جدآ لأن جسدي كله تقلصوكأن صعقة كهربائية قوية أصابتني ، وللحظات حاولت استرداد سيطرتي على نفسي، حاولت سحب مسدسي للرد عليه ، ولكني لم اقوى على سحب المسدس لأن أصابعيدي اليمنى كانت شبه مشلوله وعرفت أن الرصاصة الثانية أصابت يدي اليمنى ،حاولت باليسرى واذا بذراعي الأيسر كله لايتحرك ، يبدو انه فر بعد اطلاقهالنار فخرج اثنان خلفه بسرعة ، وسألت الثالث من جنودي ،الى أين ذهب ؟ فقاللي لقد هرب وأعتقد انه رمى شيء قبل هربه ! وحالما أنهى كلامه واذا بانفجارقوي قرب قدمي اليمنى ، يبدو انها كانت قنبلة يدويه ، وشعرت وكأنها بترت منالساق، وألم الاصابة الثالثة أنساني الاصابات التي قبلها ...
حاولت تحريك جسدي ، ولكني لم أستطع ،يبدو ان الرصاصة الأولى أصابتني فيكتفي وخرجت من ظهري وأدت الى شلل تام بذراعي اليسرى بالكامل وكأنها مبتورةوغير ملتصقة بجسدي ، أما الرصاصة الثانيه فقد اخترقت ساعدي الايمن واصابتالعصب الرئيسي بضرر كبير ادى الى شلل الأصابع باستثناء حركة بسيطه في اصبعالخنصر فقط ، أصبحت عاجزآ عن تحريك جسدي ولم يستطع الآخرون معرفة مدى شدةاصابتي بسبب الظلام وعدم استطاعتنا فتح أي نوع من الاناره ، فقد ايقنا انهؤلاء لابد أن يكونوا ايرانيون ومعهم أدلاء عراقيون ، خانوا وطنهم ...
بدأت أشعر ببرودة الدماء التي كانت تنزف من كتفي وظهري ويدي وقدمي ، شعرتببرد شديد نتيجة نزف الدماء من الظهر ، وقد ساد الصمت المكان للحظات ، ثمبدا أن اشتباكآ بالأسلحه الخفيفه بدأ يدور بالخارج ، طلب مني الجنود أنأستعد ليحملوني الى وحدة الميدان الطبية لمعالجة اصابتي بعد أن حاولناالانصال بالمواقع الأخرى ، ولكن لم يكن هناك اي رد .
لم أعد حينها قادرآ على تحريك أي عضو من جسدي ، وشعرت حينها بأنني اذاوافقتهم على حملي لتلك المسافة الطويلة ، وسط تغلغل قوات العدو ،والاشتباكات بالأسلحة الخفيفة التي تدور بمحيط موضعنا قد يعرض حياتهمجميعا للخطر ، أما من دوني فسيستطيعون المناورة والاختباء والدفاع عنأنفسهم بشكل أفضل ونسبة نجاتهم ستكون أكبر بالاضافة الى أن اصابتي تبدوشديدة والنزف مستمر وأيقنت أنني أقرب الى الموت ، فلماذا أتسبب بموت آخرينمن أجلي ، فأمرتهم بالانسحاب الى مقر الكتيبه الذي يبعد مسافة كيلومترينتقريبا خلف موضعنا ، وأن يتركوني في مكاني وهذا اكثر أمنا على حياتهم ،أصروا على عدم الخروج الآ وهم يحملوني ولن يتخلوا عني ، فتكلمت معهم بلهجةصارمة بتنفيذ الأمر الصادر لهم ، وبأني باق هنا ، وأوصيتهم بالحفاظ علىحياتهم وايصال الموقف الى القوه الخلفية لتتخذ الحيطة والحذر وتتصرف طبقاللمعلومات التي ستنقلونها ، بعد أن شعروا أنني مصرآ على عدم السماح لهمبحملي معهم ، انصاعوا للأمر ، ووعدوني بالعودة سريعآ لنجدتي ، وهم يهمونبالخروج ، استوقفتهم ، وقلت لهم : حافظوا على أنفسكم ، وأوصيكم اذا ماكتبالله لكم النجاة ، فلاتتركوا جثتي مرمية هنا وحاولوا أن توصلوها لأهليمهما تكن الظروف ، والآن توكلوا على الله ووعدوني انهم عائدون لي باذنالله ، خرجوا واحدا تلو الآخر ، وأنا أنظر اليهم متمنيآ سلامتهم ...
كنت متيقنآ تمامآ ان انقاذ حياتي بات مستحيلآ وأنا بتلك الحالة ، فالنزفمستمر من دون توقف ، ولا أظنه سيتوقف الآ بعد أن ينظب من جسدي .
قاربت الساعة الثانية والنصف صباحآ ، بدأ السكون يلف المكان مرة أخرى ،لاشيء حولي غير ظلمة دامسه وسكون ،وصمت ،كصمت القبور ....بقيت وحدي ،بآنتظار الموت الذي يدا قادمآ لامحاله ، ولكن.... يبدو أنه سيكون موتآبطيئآ ومؤلمآ ، أيقنت أن هذا هو قدري ....
( نبض الحياة )

هدأ كل شيء حولي ، وساد الصمت والسكون ، ولاشيء هناك لأتطلع اليه بسببالظلمة الحالكة ، شعرت بعطش شديد ولسيكارة انفث دخانها ، لتؤنس وحدتي ،ولكن جسدي أصبح كقطعة جليد صلب لاأقوى على تحريك اي جزء منه سوى ضغطيلظهري باتجاه جدار أكياس الرمل الذي استند عليه ، محاولآ وقف نزيف الدم ،أخذت نفسآ عميقآ ، ونسيت الم كل الجروح ، فقد أيقنت ان اللحظات القادمة هيالفصل الأخير من حياتي ، وأن الموت قادم لامحاله ، وان نجاتي او انقاذيبات مستحيلآ ولاحتى بمعجزة ......لم أشعر برهبة الموت ، أو الخوف منه...لأني كنت أتوقعه بأية لحظة منذ أن بدأت تلك الحرب الظالمة ، ولأني لمأسلك في حياتي طريقآ يغضب الله أو يخالف ضميري ، وانسانيتي ، وعاملت كل منحولي بمثل ماتمنيت أن يعاملوني ، لذلك كنت مستعدآ للموت من دون ذرة خوف.....ولكن ....عدت الى نفسي للحظة ...كيف لااهتم لموتي .....كيف نسيتالشعور بالألم ومعاناة كل من عرفتهم في حياتي عندما يسمعون خبر موتي....عندما تتوسطهم جثتي ....
كانت اول من فكرت بهم ، زوجتي ..تلك المرأة التي أحببت ...وتزوجت ، عام مضى على زواجنا
قضّت أكثر من نصفها تعالج مابين المستشفى والبيت نتيجة كسور أصيبت بهابانقلاب سيارتنا ، لم نختلي ببعض الآايام معدودة طوال تلك السنة ، لم أشعرأنني تزوجت فعلآ ، كانت تظن أني غير مبال بما حدث لها ، ولم أبدي الاهتمامالكافي بها وهي راقده في المستشفى ، ذلك الموقف كان له مبرراته التي ستكونفي القصة الثانيه ، وحينها قد تعذرني ، لانها ستدرك اني كنت من يحتاجللمواساة .....
، وانني لم اقصر بحقها ....

لقد كان عام 1986 واحدا من أقسى أعوام الحرب ، وهو العام الذي تزوجت فيه ،شاركت بمعارك عديده من الفاو الى مندلي الى زرباطيه ، وكنا نصد الهجمة تلوالاخرى لمنع الايرانيون من احتلال أراضينا ، وتلك المعارك وحجم الشهداءوالجرحى الذين مروا بي تركت بنفسي ألمآ شديدآ وشعورآ باليأس من الحياة ،ولم أستطع وأنا بتلك الظروف النفسية الصعبة أن أوصل أيا من مشاعر الودوالحب تجاه كل من حولي وأولهم زوجتي ، لأنني كنت من يحتاج للمسة حب وحنان، ليس وحدي من كنت بحاجة لذلك فحسب ، بل كل المقاتلين الذين كانوا يمرونبنفس ماأمر به من مواقف ، وتلك كانت واحدة من الامور التي لم ينتبه اليهازوجات وأهالي المقاتلين الذين كانوا يواجهون الموت في كل لحظه خلالتواجدهم في ساحات المعارك ، خاصة وان الحياة في المدن العراقيه ، باستثناءمدينة البصرة ، لم تتأثر بما كان يجري على جبهات القتال ، ولم يكن هناك ايشيء يجعل الناس تشعر بما يعانيه ابناءهم ، كنت كلما التقيتها في اجازتيالدوريه ، كما نسميها ، في حين كانت حسب الظروف التي تسمح بها أوضاعالجبهات التي كنا نعمل فيها ، كنت اما خارجا للتو من معركة ضاريه ، اوبالاستعداد لاخرى قادمة ،ولم اكن اتحدث عمّا أعانيه كما هو حال الكثير منالضباط والجنود ، لكي يجنبوا عوائلهم وأحبتهم القلق عليهم ، وكنا نهونالامور وندعي اننا باماكن امنه ،ذلك الامر سبب لي ، ولكل من نهج هذاالسلوك متاعبه جمة......
فالاخرون يعيشون حياة طبيعية ، ونحن نواجه الموت في كل لحظه من حياتنا ،ويتوجب علينا حينما نتواجد مع اهلنا واصدقاءنا ان نتصرف بشكل طبيعي ، واننشاركهم افراحهم ، ومناسباتهم ، وبنفس الوقت ان نوازن بين الالم الذي نشعربه في داخلنا ونخفيه عن الاخرين ، وبين التظاهر بالضد من ذلك ... انهامعادلة صعبة التطبيق ، بل ومستحيلة ...لذلك لم يستطع الاخرون ان يفهمواالكثير من تصرفاتنا وسلوكنا خلال الحرب، ولم يتمكنوا من تفسير بعضالقرارات التي كنا نتخذها ..
ادت كل تلك الامور الى الكثير من الجفاء والقطيعة تجاه هؤلاء الرجال الذينكانوا مشاريع استشهاد لاشرف مهمة ....الدفاع عن الوطن ، عن الارض ، عنالعرض ، ولجعل الابتسامة دائمة على شفاة اهلهم واحبتهم ، حتى لو كان ذلكعلى حساب مشاعرهم وامالهم ....بل وحتى حياتهم ....فهل اوفيناهم حقهم..؟........

المني ان وقع استشهادي بعد كل مامررت به ، سوف لن يكون له الاثر الطبيعيعلى زوجتي ، كما يكون عند باقي النساء الذين فقدوا ازواجهم ،بل وافرحنيذلك بنفس الوقت واشعرني بالراحه ....
لانني مغادر هذه الدنيا لامحاله ، وحبي لها يجعلني اطمئن ، بان موتي لنيسبب لها الما كبيرا ، ولم يكن قد رزقنا الله بطفل يذكرها بي ، ولم استطعان اجعلها تشعر بما في اعماقي من حب وعشق ، لذا فلن يمر وقت طويل حتى اكونبالنسبة لها في طي النسيان ، وكان شيئا لم يكن ....شعوري هذا في تلكاللحظات خفف من المي ، وشعرت بالراحة لان من احب لن يعانوا من بعدي....وهكذا كان قدري ...
مرت امامي كل لحظة عشتها في حياتي منذ صغري وحتى اللحظة التي انا فيها...استذكرتها بكل دقائقها ، حلوها ومرها ...بكل تفاصيلها ...تذكرت اهليفردا فردا ...تذكرت اصدقائي ومن استشهد منهم ، تذكرت اصدقاء اعزاء فيجامعة الموصل قسم اللغة الفرنسيه (حيث درست ) عام 1981 وكيف استقبلوني بكلالحب وانا عائد توا من المستشفى اثر اصابتي في احدى المعارك انذاك تذكرتطيبتهم وكرم اهل الموصل معي ككرم اهل البصرة الشرفاء ،مع من هب للدفاععنها ، كيف كانت مضايفهم تمتد على طول خطوط القتال لتقدم للمقاتلين كلمايحتاجونه وهم في طريقهم للدفاع عن مدينتهم البطله واهلها الطيبين...تذكرت من استشهد من اصدقائي البصريين ..رعد ..وقيس ...وموسى ...وغيرهم.....تذكرت اخوة لي يعز علي فراقهم ... رافد ...وليد ...هاني ...طلال ....كرم...ووووو فما اعزهم من اصدقاء ...وكيف سيتلقون خبر موتي ....
مرأمامي كل من أحببت ، وأحبوني ، أهلي ...أخوتي ...أصدقائي ..زوجتي...وانسابت الدموع من عيني بلا توقف .....لاأدري ، هل كانت تلك الدموعلفراق أناس أحببتهم .....أم هي .... دموعآ لدموع .....ستنساب ....من عيونمن أحببت.....
مازالت الظلمة الحالكة ، والصمت الرهيب تكتنف المكان الذي أنا فيه ، بدأتأشعر بالوهن والضعف ، وتراودني حينا سكرات الموت ، تيبست شفتاي ، وبدأنفسي يضيق ، أدركت أنني بدأت أقترب من النهاية ، ومازال الليل ، يخال ليانه لن ينجلي أبدآ ، ولن أرى النور ثانية ،
واجهت صعوبة في فتح عينى ، وأجفاني بدت وكأنها ستارة ثقيلة تغلق عيني ،جسدي يتصلب أكثر فأكثر ، الدنيا كأنها تدور من حولي ، شعرت أنني أصبحت غيرقادر على أن أبقى صاحيآ ....
ودّعت من كانوا يحومون حول ذاكرتي ، ورفعت رأسي ....لأقول آخر كلماتي .....شكرآ لك ربي ،
لأنك منحتني حب الناس ، والأهل ...شكرآ لأنك كنت معي طوال حياتي ، شكرآلأنك وقفت معي حتى آخر لحظات عمري ، أتمنى أن تخفف على من أحببت ، عذابوألم فراقي لهم ، وليسامحوني فلم أكن أتمنى أن أسبب لهم الألم .....
بعد تلك اللّحظات من التأمل والدعاء ، أحسست أني لم أعد قادرآ علىالمواصله ...وكانت الدموع الأخيرة ...حاولت قدر امكاني أن أغير مكانيلأكون مواجهآ للقبلة ....أسندت رأسي على أكياس الرمل ، شعرت حينها بفرحةغامرة ، وكأن الله استجاب لدعواتي ، تراءت أمامي وجوه كل من أحببت فيحياتي ، وكأنهم جاءوا لوداعي .....في عيونهم دمعة ، وعلى وجوههم ابتسامة.....
قابلتهم بابتسامة أخيره ......ونطقت الشهادتين .....وأغمضت عيني ....فقد انتهى كل شيء .....

نداء الروح والعودة

هل أنا في حلم أم حقيقة...أشعر كأن أحد ما يوقظني من نوم عميق ،وأسمع ضجيج أصوات حولي ، فتحت عيني ...واذا بضوء النهار يتسلل الى موضعي ،نظرت يمينآ وشمالآ ، لاأحد غيري هنا ، ولاأحد قريب مني ، اذآ أصوات منكانت تلك .....بقيت لوهلة ، أحاول استعادة وعيي ولم شمل أفكاري ...نعم انهضوء النهار ، انه حقيقي ، أنا لاأحلم ، نظرت الى ساعتي ، كانت السابعةوالنصف صباحآ، أيقنت أنني مازلت حيآ ، وان جراحي توقفت عن نزف الدماء ،ولكن جسدي كله كقطعة من الجليد ، لان الجو كان قارص البروده وأنا ممدد منذخمس ساعات بلا غطاء أو تدفئة ، وأنا في العراء ، ولكن شعرت بألم شديد فيقدمي المصابه ، ويبدو ان شظايا القنبله التي اصابتها قد جعلتها تتورموأحسست ان حجمها قد زاد وبات الحذاء لايستوعبها ، وبدوره جلد الحذاء القويبات يضغط بشدة على الجروح ... في تلك اللحظه وقع بصري على جهاز المخابرةالذي لم يكن يبعد عني سوى مترين ، ولكن بيني وبينه بعض أكياس الرملبارتفاع كيسين الى ثلاثه ومبعثره نتيجة الارباك الذي حصل مساء أمس ، ووسطذهولي بما أنا فيه ، وان أملآ لاح لي بالنجاة بعد أن انقضى الليل ، فكرتبأن أحاول الوصول الى الجهاز ، عسى أن أستطيع ايصال صوتي لأحد ما، ولكنالمسافة التي بيني وبينه بالرغم من قصرها ، لم أكن واثقآ أنني سأصل اليه ،لأن قدمي اليمنى والذراعين شبه مشلوله ولايمكنني الاستناد على أيآ منها ،فقط قدمي اليسرى غير مصابه ، ولكن كان لابد من المحاولة ، انه الاصرار علىالتمسك بالحياة ، الفرصه التي اتاحها لي الله ، لقد أعانني وغمرني برحمته،فلم لاأعين نفسي ....حاولت ، وحاولت ، وحاولت .....وبعد ثلاث أرباعالساعه من الصراع مع الألم والاحباط وفشل محاولة تلو أخرى بآجتياز أكياسالرمل البسيطه .....وصلت أخيرآ...كان الأمل ضعيفا بل ومستحيلآ أن أجد منيسمعني ، ولكن الاصرار على الحياة والتشبث بالأمل ولو بأقل مايمكن ، تستحقالمحاولة ....أمسكت سماعة الهاتف باصبعي الوحيد الذي بقي يتحرك ، وضغطتعلى زر الاتصال ، وناديت ...ثم ناديت ...ثم ناديت ......ولكن ليس من مجيب....أخذت نفسا عميقا ، وكمن يحاول أن يخدع نفسه ، ويتأمل المستحيل ، كررتندائي ، مرة ، مرتان ، وثلاث ، وأيقنت ان معاناتي بالوصول الى الجهاز كانتبلا فائدة ، وكنت أهم برمي السماعة ، واذا بي أسمع صوت قرقعه من خلالهاوكأن هناك أحد ما يسمعني ولايريد الرد ، كررت النداء وتجاوزت بندائيالأخير سياقات المخابرة ، بعد أن يأست ، كنت أنادي بأسماء أعرف أنها ممكنأن تتواجد على الجانب الثاني من الاتصال، فأذا بي أسمع صوتا أعرفه ، انهصوت أحمد في مقر الكتيبه ، يقول لي من انت ؟حينها نسيت كل آلامي ،ومعاناتي ، أجبته أنا (سلام ) ، رد علي : اي (سلام) ؟ممكن تعرفني بنفسك ؟أجبته هل نسيتني ياأحمد ، وذكرت له اسمي كاملا ، وطلبت منه أن يبعث بطلببعض جنودي الذين يعرفهم جيدآ ، حينذاك شعرت بالفرحة بصوته وهو يقول : ظننتانك استشهدت ، الحمدلله على سلامتك .... فجأة دخل شخص ثالث على الهاتفوسألني : أين أنت ياسلام دلنا على مكانك لنأتي لأنقاذك !!! صاح أحمدلا...لا...لاتعطيه أي معلومه ، هؤلاء ايرانيون ، حاول أن ترشدني لمكانكبطريقتك الخاصه ، قلت له من حضر عندك من جنودي ؟ قال حضر فلان وفلان . قلتله ان مكاني لم يتغير لعدم استطاعتي الحركه نهائيا ، وأنا بين موضع فلانوفلان والى الامام بمسافة عدة امتار ، واسال فلان اذا وصل اليك فقد كانمعي بنفس الموضع ، طبعا لم أشر بأي شكل الى موضع مدافع أو أوحضائر جنود أواتجاهي وبعدي عنه بالرغم من معرفتي ذلك بدقة خشية أن يتمكن الايرانيون منالأستدلال على مكاني وخاصة وأنني عرفت أنهم في مكان ما حولي بعد أن احتلوامواقعنا ويعرفون الأسلحة الموجوده ، وممكن لو أشرت لذلك فسيعرفون مكاني ،وفي تلك اللحظه سمعت أصواتهم وبأعداد كبيرة خلف موضعي بمسافة 15-20 مترافبادرت باخبار أحمد بمكانهم ، وأنا متأكد أنه عرف مكانهم بالضبط ، لأنلديه خرائط مواضعنا واحداثياتها ، وقلت له : ان كانت عندك الامكانيةلضربهم فلاتتردد ولاتنسوني ياأحمد مهما يكن ، قال : ابقى في مكانك واحتميجيدآ فسنضرب المنطقة التي حددتها بقوة ، ولايوجد حل اخر ، فقلت له : هذاماأردته ، مهما يكن لن أغادر موقعي حتى لو قتلت فيه برمي قطعاتنا ،وستجدوني بمكاني حيا او ميتا واكرر رجائي لاتنسوني والله معكم ، وكان ذلكاهون عندي من ان اقع اسيرا بايديهم ، في تلك اللحظه انقطع الأرسال نهائيآ، وبدأت أنصت جيدآ لما يدور حول موضعي وأنا جالس في مكاني ، مرت لحظات منالصمت ، سمعت حديثا يدوربين شخصين أو أكثر لم أستطع أن أفهمه ،كان يبدوبعيدآ بعض الشيء و كانوا يتكلمون الفارسيه التي أجهلها ، فعرفت انهمايرانيون يقتربون من أماكن المدافع ومواضع جنودنا ، وأصبحت بمواجهة خطرجديد ، لأن القادمين اذا مروا بجانب الموضع الذي أنا فيه ، فسوف يرونيحتما ، لأن مكاني صار مواجهآ لباب الموضع المفتوح ، وسأكون بمواجهتهم ،سمعت صوت اطلاق رصاص متقطع يبدو قادمآ من اتجاه الموضع الذي على يساري،كان بنفس اتجاه الصوت الذي سمعته قبل لحظات ، تحاملت على نفسي بشده لكيأتطلع من الباب الى مايجري ، فأذا بي أشاهد اثنين من الجنود الايرانيينوهما يقومان بأطلاق النار على أجساد ممدده على الأرض وهؤلاء بالتأكيد اماشهداء وهم يكررون اطلاق النار عليهم للتأكد من موتهم نهائيا أو جرحىويقومون بقتلهم ، لأن تلك كانت طريقتهم مع الشهداء والجرحى خلال الحرب ،ولايأخذون أسرى الاّ نادرآ وخاصة في السنوات الأخيرة من الحرب ، وبعد أنأنتهوا من اطلاق النار أستداروا بأتجاه موضعي ، حيث لم يبقى غيره وموضعآخر بعده الى يميني ، كانوا يبعدون عني مسافة 30 مترا تقريبآ ، أدخلت رأسيالى الموضع ، ورميت بجسدي على أكياس الرمل لأسقط بمكاني الأول الذي كنتفيه ، وبات عليّ أن أواجه صراعآ جديدآ من اجل البقاء ......
، لابد من معجزة لأنجو من هذا الموقف الجديد ، يجب أن أفكر بسرعة وأقرر...

وقررت أخيرا على حيلة قد تنجيني من هذا الموقف مع قليل من الحظ والكثير من عون الله
قمت بفتح سحاب حذائي الأيمن لأخراج قدمي الممزقة منه ، وخلعت جواربيبصعوبة لكي تبدو حجم الأصابة الشديدة عليها ووضعتها على أكياس الرملالمواجهه للباب بحيث ستكون أول شيء يرونه حال اقترابهم من الموضع ، قمتبنزع رتبتي وسحب المسدس ووضعهما تحت لوح كان امامي ، لأنه أذا ماشاهدوارتبتي وعرفوا أني ضابط فسيدققون بالأمر عسى أن أكون حيا ليستفيدوا منيويقتلوني بعدها ، ولم يكن ذلك كافيآ ومقنعآ ، ولابد من أمور أخرى أقوم بهاللتمويه والخداع ، لذا قمت بسحب كيس من الرمل بأصبعي الوحيد الذي يتحركوبأسناني ، سحبته ليقع فوق صدري ليغطيه ، وبنفس الطريقه سحبت كيسآ آخروقبل أن يسقط وضعت رأسي تحته ليغطيه ، أصبح الكيسين أحدهما يحمي رأسيوالثاني يحمي منطقة الرقبه الى منتصف البطن ، ولحسن حظي كنت أستطيع أن أرىالنور الداخل من الباب على الجدارمن خلال المجال الذي بين الكيسين ، وهذامن شأنه ان يعلمني بأقتراب أي شخص مني حيث أنّ ظله سيكون على الحائط وسيقلالضوء كثيرا داخل الموضع لضيق فتحة الباب ووقوف أي شخص أمامها سيحجب الضوءالى حد كبير وهذا سيعينني أيضآ بعدم تركيز القادم وصعوبة الرؤيه خاصة وهوقادم من مكان مضيء جدا الى مكان يكاد يكون مظلمآ له حينما سيحجب النورالداخل الى الموضع بجسده ، والعين تحتاج بعض من الوقت لتتكيف من المكانالمضيء الى المكان المظلم ، لذلك وضعت قدمي الممزقة والمضرجة بالدم أمامالباب حتى يكون أول شيء يراه وقد يصعب عليه التدقيق بجسدي الذي يبدو تحتأكياس الرمل ، وسيظن أن وضع الجسد بهذا الشكل وتلك الدماء لابد أن يكونصاحبها ممزق أيضآ و دفن تحت اكياس الرمل ، وفكرت انهم اذا ماأرادوا أنيطلقوا النار على جسدي فلا يستطيع الرمي الاّ بشكل مائل وبوضع غير مناسببشكل كامل نتيجة اختياري لوضعية جسدي المائله ، فحينما يسدد رصاصاته نحويقد تصيبني من منتصف البطن والى أسفل وهي اصابه أسهل مما لو كانت في الرأساو القلب ، كل ذلك دار في ذهني وانا بانتظار وصولهم لي ، لم يكن لي خيارآخر ، فعلت مابوسعي ونفذت مااقتنعت بأنه ممكن أن ينقذ حياتي ....بعون الله
بقيت ساكنا ، أنصت لوقع خطواتهم التي باتت تقترب مني رويدا رويدا ، كنتساعرف مدى اقترابهم مني حالما يظهر ظل أحدهم على الحائط الذي كنت أركّزنظري عليه ، تباطأ تسارع خطوات القادمين نحوي وباتت على بعد خطوات قليلةمني ، حبست أنفاسي ، وهيأت نفسي لتحمل ألم الرصاصات التي سيطلقوها علىجسدي شبه الميت كليآ ، وتوقف صوت الخطى فجأة ، وبدا كأن حوارآ يدور بيناثنين منهم لم أفهمه ، لحظة صمت ، ثم ، يتقدم أحدهم أمام الباب ، بدأالضوء داخل الموضع يقل ، تسارعت أنفاسي وأنا أحاول حبسها ، كانت لحظاتلايمكن تخيلها ، أو التكهن بما سيحدث خلالها ، أقترب أكثر فأكثر حتى قلّالضوء لأقصى حد لأن جسده غطى مدخل الباب ، حبست أنفاسي تلك اللحظة ، أحسستبه وهو يتكيء على الأكياس المحاذيه لرأسي ويحاول الميل قليلا ليدخل ضوءأكثر ليستطيع أن يتبين المكان جيدآ ، أحسست بأنفاسه المتسارعه وهو يقرّبرأسه من رأسي الذي كان مغطى بكيس الرمل ، يبدو أنه كان يحاول أن يتبين وضعجسدي ويتأكد من أن هذا الشخص المدفون تحت الأكياس ليس فيه روح ، لحظتهاقطعت نفسي تماما خشية أن يتحرك الكيس الذي على صدري من جراء تنفسي ويجعلهينتبه أنني مازلت حيآ ......لحظات كانت كأنها سنوات ، أنتظر اطلاق النار ،ولاأدري ماذا سيكون عليه رد فعلي حينما تخترق جسدي المتعب .....
فجاة ، سحب نفسه وبدأ الضوء يعود شيئآ فشيئآ الى الموضع ، لم أكن مطمئنا ،سحبت نفسآ سريعآ ، وبقيت ساكنآ ، كنت أتوقع أن يأتي الآخر ليتطلع أيضآ أويقوم بأطلاق النار ، ولكن لم يحدث شيء من ذلك ، هل نجحت خطتي بأيهامهمبأني ميت ، هل أستحال عليهم التأكد من موتي ، أومخاطر الدخول وصعوبة عمليةرفع الأكياس هي التي منعتهم ، أم أصوات أطلاقات المدفعية التي بدأت في تلكاللحظة ، جعلتهم يسرعون بالأنتهاء من تفتيش المواضع وقتل من فيها ....انهاارادة الله التي أعمت بصيرتهم , لتنقذ انسان كان يدافع عن بيته ، وعرضه ،وأرضه ، ولم يعتدي على أحد ..
مالذي سيحدث الآن ، الايرانيون سيطروا على مواضعنا ، وهذا يعني حتى لوكانت نية قطعاتنا أن تعيد تلك المواضع الساقطه ، فلن يكون ذلك قبل فجراليوم التالي ، أصبح لي أمل بالنجاة ولو ان نسبته لاتكاد تذكر ، على الأقلأنني مازلت حيآ ، ومصيري وماسيحدث مازال مجهولا ، لاأعلم لماذا لم تباشرمدفعيتنا بأطلاق قذائفها نحو الأماكن التي حددتها لحد الآن ، لابد أن هناكشيء ما يتم ترتيبه ، أما لو بدأوا بالرمي الآن ، فذلك سوف لن يؤدي سوى الىابتعادهم عن موضعي قليلآ ، أو قد يلجؤون لدخول موضعي للأحتماء من القصفبعض الوقت ، وتلك ستكون ورطة أخرى ، أفكار وأفكار ، تجول في خاطري ،لاأعرف لها نهايه ......أبعدت أكياس الرمل عن جسدي لأستطيع التنفس بشكلطبيعي ، حاولت أن أجد بعض الماء لأني أشعر بعطش شديد ، ولكن دون جدوى ،فكل حاويات الماء كانت ممزقه من جراء الشظايا ولاتوجد قطرة ماء .....بدأتأفكر بما سأعانيه في الساعات القادمه والتي ستمتد حتى فجر اليوم التالي مندون شك ، لم يكن أمامي سوى الأنتظار ، أنتظار المجهول .... قاربت الساعةالثانية بعد الظهر ، كان قد مر على أصابتي 12 ساعة ، مع البرد ، والنزف ،والعطش ....مع الظلمة ، والوحدة ، والمصير المجهول ....
فجأة ومن دون مقدمات ، بدأ وابلآ من قنابل المدفعية والهاونات تتساقطبكثافة على اليسار والى الخلف من موضعي ، كنت أعرف أن الايرانيون مازالوامتواجدين بتلك المواقع ، شيئا فشيئا ، بدات الانفجارات تقترب من موضعي ،حتى بدا لي انه لابد من ان احداها ستسقط على موضعي فاحتميت بأكياس الرمللأحمي نفسي من الشظايا التي دخل منها الكثير الى موضعي من الباب ودمرتماتبقى من مواد وأغراض بجانب المدخل ، في تلك اللحظه تجمع بعض الجنودالايرانيون خلف الساتر الترابي الملاصق لموضعي ، وبدءوا باطلاق النيرانباتجاه قطعاتنا .....كانت هناك فتحة صغيرة مابين حائط الموضع المقابلللباب والسقف المكون من صفيح مضلع بطبقة واحده ولم يلتقيا عند الزاوية ،من خلال تلك الفتحه ، شاهدت اثنين منهم مستترين خلف الساتر الترابيويطلقون النار باتجاه قطعاتنا ، حتى ان الظروف الفارغة لاطلاقاتهم كانتتسقط من تلك الفتحة التي كنت اتطلع منها اليهم ، كان بيني وبينهم ، مسافةلاتتجاوز 4 امتار اواقل بقليل ، تسمرت في مكاني دون حراك ، لانهم اذا مادققوا النظر من تلك الفتحة فقد يتمكنوا من رؤيتي ، ولكنني طمأنت نفسي ،لكوني داخل الموضع والضوء أقل منه في الخارج والشمس كانت بمواجهتهم تقريبا، فبالتأكيد سوف لن يتمكنوا من ملاحظة وجودي اذا مابقيت ساكنآ ، ابتعدالقصف عن المكان الذي أنا فيه ، ثم عاد بشكل أقوى من ذي قبل ، وبدأ يقتربمني اكثر فاكثر ، حتى ان الموضع امتلآ بالتراب الذي بدا يتساقط من كل جهة، بدا لي أن الموضع سينهار فوق رأسي ، كنت أتوقع مثل هذا الأمر لأنالمتعارف في الحرب أن المواقع التي تسقط بيد العدو يتم قصفها بشدة لحرمانالعدو من الاستفادة منها ولكونها معلومة الاحداثيات بدقة ، وكنت أنا منأعطيت المعلومات حول سقوط موضعنا بيد العدو ، وحددت احداثياته ....ثم بدأتأصوات الأنفجارات تبتعد شيئا فشيئا عن موضعي ، ذلك سمح لي برفع رأسي لأسمعمايدور في الخارج ، سمعت صياح جنود ، وأصوات خطى وكانها تبتعد باتجاهمعاكس لقطعاتنا ، وبدأت أشعر أن قصف قواتنا بدأ بالأبتعاد باتجاه القواتالايرانية ، وكأنها تطاردهم ، قلت في نفسي ، هل أن رمي قطعاتنا كان مؤثرآ، هل دفع الايرانيون بالأنسحاب قليلا الى الخلف وتركوا مواضعنا ، للتأكدمما يدور حولي ، كان لابد أن أخرج رأسي من الموضع لمعرفة ماحدث ، بدأتأسمع صراخهم وبدت كانها صيحات استغاثة وارتباك ، كان القصف قد أبتعدبمسافة 200 -300 متر ، وذلك يجعل اخراج جسدي من الموضع آمنا بعض الشيء ،لأني لايمكن أن أتحمل الأنتظار دون أن أعرف مايجري بالخارج ، حتى لو كانفي ذلك خطرآ على حياتي لكون البعض من الايرانيين قد يكونوا مختبئين حولموضعي ، ولكن لابد من المجازفة ، استعنت بقدمي اليسرى وبصعوبة بالغة رفعتراسي لأرى مايدور خلف الساتر الترابي ، والذي كان بعض الايرانيين يحتمونبه قبل مدة قصيرة ويطلقون النار باتجاه قطعاتنا ، فوجئت بشيء لم أكن أتخيلحدوثه بتلك اللحظة ، شاهدت عربة ايرانية شبيهه بسيارة حمل ( لوري ) ولكنهاواطئة الارتفاع ومسرفة ، كانت خفيفة الحركه جدآ ، وشاهدت الايرانيونيركضون في محاولة الصعود اليها فيما هي تتجه نحو مجموعة منهم وهم يحملونمصابين او قتلى كما بدا لي ، وكانت تلك العجلة تقل أعداد ليست بالقليله ،بدا وكانهم عشرات وكان اتجاه سير تلك العجلة باتجاه القطعات الايرانيه ،يبدو وكانهم يفرون من أرض المعركة ، في الوقت الذي مازالت مدفعيتنا تنهالعليهم بالقذائف ، من هول المفاجأة نسيت أن مكاني مكشوف من جهة قطعاتناوممكن ان يتصوروا أني أحد الايرانيين المختبئين داخل مواضعنا ، وقد أتعرضللرمي من قبل قطعاتنا ، أدخلت رأسي الى الموضع ورميت جسدي باتجاه الحائطالمقابل للباب حيث مكان جهاز المخابره ، قلت في نفسي ، ممكن أن يكونالايرانيون قد أنسحبوا ، وحتى لو أنسحبوا فمن غير الممكن أستعادة مواضعناوالوقت ظهرآ ، تشبثت بأمل أن يكون هناك اتصال مع ايا كان ، عسى أن يعرفوامكاني ومن أنني مازلت حيآ في مكاني ، أسندت جسدي الى الحائط ورفعت سماعةالهاتف ، وناديت .....ثم ناديت ...ولكن ...مامن مجيب ....
تجاوزت الساعة الثانية والنصف ظهرآ ، وعاد الصمت من جديد ، دقائق قليلةمرت ، واذا بي أسمع هدير دبابات او ناقلات جنود مسرفة ياتي من بعيد ، وعلىالأغلب من الغرب حسب تقديري ، وكان جسدي قد أنهك ، وليس بأمكاني أن أتحركلأي مكان ، بعد الجهد الذي بذلتة خلال الوقت الذي مضى ، لم يعد بمقدوريالعودة الى مكاني الأول لأحتمي به كما كنت سابقا ، وأدركت أنني سأواجهالقادم الآن وجها لوجه ، سمعت صوت خطوات متسارعة باتجاه باب الموضع ، فكرت، هل ان الايرانيون رأوني عندما اخرجت راسي وعادوا الى مكاني ، هل عادتعجلة أخلاء الخسائر الأيرانية وهي الان متوقفة قرب موضعي ؟ ..لحظات وبداأن تلك الخطوات بدت قريبة مني جدآ ، لم يكن أمامي أية طريقة للخلاص من هذاالموقف ، قررت أن أرمي سماعة الهاتف وأميل برأسي جانبآ وأتظاهر أني ميتآفي مكاني ، ولم أحضّر أي شيء لما سيحدث ، يبدو أنها النهاية التي حاولتتجنبها لساعات طويلة ، لابد لي من مواجهة قدري ، بعد أن أحسست أن نجاتيبات فيها أمل ، أتخذت الوضع الذي يوحي بموتي في اللحظة التي شعرت ان شخصآما جلس بمدخل الباب بمواجهتي ، مرت لحظات ، كأنها ساعات ، قررت بعدها أنأحاول فتح عيني في محاولة لمواجهة مصيري أيآ كان ، فلم أعد أقوى على أيشيء ، رفعت رأسي باتجاه الشخص الذي كان جالسا أمامي ويتطلع بي............وكانت المفاجأة التي لم أحلم بها أبدآ .....رأيت وجهآ ليسبالغريب عني ....نعم
انه أحد منتسبي وحدتي ، انه رأس عرفاء محسن ،( ابن الناصرية ) حافيالقدمين ، ويحدق بي ، غير مصدق بأني مازلت حيآ ، كنت قد أنقذت حياته ذاتمره منذ عدة أشهر ،