الوفاء...لزمن الحب والحرب (4)
امرأة عراقية
(قصي المعتصم)
لم يكن ( أمير) إلا واحد من هؤلاء الشبان الذين نذروا أنفسهم للدفاع عن وطنه..كان والده مثله الأعلى..حيث كان ضابطا شجاعآ وبطلآ وطنيآ ، أعدم لأنه تمنى وسعى للحرية .وضحى بحياته من اجل العراق.. تخرج ضابطاً طياراً في سلاح السمتيات(الهليكوبتر).. وحين تخرجه بدأت الحرب العراقية-الايرانية..كان يحلم كغيره من الشبان أن يتزوج.. ليكون له امتداداً..وأسرة يهنأ بحنانها..ومرت السنين.....أجّل حلمه بسبب الحرب خشيةً من المجهول.....ولكن الحرب طالت وكأن لانهاية لها.....
وذات يوم...حينما كان في زيارة لأحد الأصدقاء..وجد أمامه من تمنى..خفق القلب أخيراً..تجاوز كل المحاذير.. تجاوز حذر الماضي..وتحدى المجهول !!..خفق قلب (أماني) أيضاً، فقد كان وسيماً، ورقيقاً، وبطلاً، وابن بطل....وحصلت الخطبة ....
مر شهر..شهران....وحصل ما كان يخشاه..احترقت طائرته..وأصيب إصابةً مميتةً..فقد أحد عينيه ..وتشوه نصف وجهه وإحدى أذنيه، وفقد جزءاً من ذراعه وجزءآ من اصابع اليد الأخرى..وتحول ذلك الشاب الوسيم، المتألق ، إلى كومةً من الأحزان..والسراب..وبات يحمل هموماً أكبر من عمره......وبعد أن تجاوز مرحلة الخطر..نقل إلى بيته ليكمل شفاءه..
مرت أيام عصيبةً في حياته..كان لا بد أن يتخذ قراراً بقتل حلمه، فأرسل من يخبر خطيبته..أن كل شيء انتهى..وضاع الحلم..
قررت ان تذهب اليه....وذهبت....طرقت بابه...ودخلت الى بيته ،حاملةً حقيبتها.. ..ذلك البيت الذي كان مؤملاً أن يعيشا فيه معاً...
قبّلت رأسه..وجلست تحت قدميه.. وقالت:"هل حقاً ما سمعت بأنك تنوي أن نفترق؟"
أجابها دون أن ينظر في عينيها: "نعم ..لا أعتقد أن من المناسب أن نستمر وأنا أصبحت بهذه الحالة..هذا هو قدري..فلم تظلمين نفسك معي، نحن لم نبدأ بعد مشوارنا".
صمتت للحظات، لم تقوى على الرد بعد أن انهمرت الدمعوع من عينيها، وخانتها العبرات...ثم..قالت: "لو كنا تزوجنا وعشنا سنةً، أو سنتين ، وحدث ما حدث، هل تتصور أن أتخلى عنك ؟ لو كان ما حدث لك، أصابني أنا، هل كنت تتخلى عني؟".
أجابها: "هذا هو قدرنا ..ما ذنبك أن تشاركي إنساناً قسى عليه الزمن هكذا"
(لم يحاول أن يجيب على سؤالها وكم هو يحبها ..حتى لا تشعر بأي ذنب إذا ما ذهبت في سبيلها ، ولا يريد أن يؤثر في القرار الذي ستتخذه ، لكي تعيش حياتها بصورة طبيعية، لأنه كان يعشقها) ولكن الوفاء كان حاضراً..
غادرت الغرفة ، وتوجهت إلى الغرفة الثانية، فتحت حقيبة ملابسها، بدأت بوضعها داخل دولاب الملابس وبعد أن أكملت عادت إليه لتقول له: "لقد دفعت ثمن دفاعك عن شرف الوطن ...وشرفي ، أفلا تسمح لي أن أوفي معك؟!..اعتبرني ممرضةً، أعالجك حتى تشفى..وحينها قرر ما شئت..لم يجد أمام إصرارها هذا سوى السكوت..كان يتمنى أن تقول ذلك، كان يتمنى أن يعيش معها كل حياته..ولكن ..حبه لها ، جعله يتخذ مثل هذا الموقف لأن سعادتها....ستسعده..
مر شهر ..شهران..وثلاثة..كانت تستيقظ قبله، تحضر له إفطاره..تطعمه بيدها..تمسح فمه ووجهه ..ويداه..ولا تفارق الابتسامة وجهها..وتبدو أسعد منه حينما تقدم له كل ما يحتاجه..كانت شعلة ً من الحب... والحنان..والعطاء..كأنها جاريةً تخدم مليكها..
لم تترك ذرةً من الشك في قلبه ، بحبها ، وعشقها له ، بالرغم ما هو عليه..حاول بشتى الطرق أن يجعلها تمل منه..أن تتعب... أن تتثاقل ..لكن شيئاً من ذلك لم يحدث..
لم تكن قد ذهبت يوماً إلى أهلها منذ ان دخلت بيته....ولم تفارقه لحظةً واحدةً.
مرت الشهور وتماثل( أمير) للشفاء وبدأ حياته الطبيعية، وتأقلم مع إصاباته..ولكنها ما زالت تقدم.. وتقدم ..كل شيء ..بلا مقابل...كانت امه واخوته قد احرجهم وجود خطيبته كل تلك الفترة ، من دون أن يضع حدآ لتلك العلاقة...كانوا يعرفون مقدار حبه لها ...ويعرفون حبها له ..ولكن.. لابد من نهاية لهذا الوضع ...
وكان يوماً ..جميع الأهل والأحبة مجتمعين بمناسبة العيد..كان لا بد أن يحسم الأمر..كانت جالسةً قرب قدميه، كما هي دائماً، بانتظار أن يحتاج شيء لتلبي مطلبه بكل حب..
كانت والدتها ضمن الحاضرين وكذلك اخيها ، الذي كان صديقآ له ..، جاءوا لزيارتها كعادتهم، بين الحين والآخر..وفي المناسبات ..فتكلم وقال: "ما دام كل الأهل حاضرين، أود أن احسم امرأ طالما شغل بالي، وآلمني..ثم توجه بنظره إلى (أماني) ليقول لها: "آن الأوان لتعودي إلى بيتك..لقد تعبت ، وقدمت ما لم يقدمه أحد لي.....كنت أماً ....وأختاً....وصديقةً..لا أعرف كيف أرد لك جميلك ..فلولاك لكنت محطماً..لقد سهرت الليالي..وضاع من عمرك الكثير..اذهبي في سبيلك لتعيشي حياتك..فأنا كما ترين..لن أكون ملائماً لك..فمن حقك أن تعيشي مع إنسان على غير الذي أنا فيه".
مرت لحظات صمت ....كانت أنظار الجميع شاخصةً صوبها..بانتظار الرد......دموع....وألم ، ارتسمت على محياها....تمالكت نفسها..لتقول له:" قرر ما شئت ..فلن أغادر بيتي... لن أحيد عن قدري....لن أترك من أحببت... إن لم تقبل بي زوجةً..سأبقى..خادمةً لك طوال حياتي...لا أريد منك شيء..فقط رضاك عني..لا تحرمني من سعادتي بوجودي قربك..لا تحكم عليّ بالموت..فأنت أصبحت كل حياتي..ولن أعيش لغيرك..أو بعيدةً عنك..مهما حاولت ..ولن أسمح لنفسي أن أعيش لحظةً واحدةً دون رؤيتك..الموت أهون عليّ من ذلك..فأرجوك أن تبقيني تحت أي مسمى ترغب..زوجة..صديقة..خادمة!..أيآ تختار سأكون ..أي خيار.....ولن أغادر هذا البيت إلاّ .....إلى قبري.."
ساد صمت طويل...كانت دموعها تنهمر وهي ممسكة قدميه..ولم تكن مشاعره اقل منها فاغرورقت عيناه بالدموع وهو يرى كل هذه التضحية ...كل هذا الحب ..ولأول مرة....مدّ يده ليلمس رأسها..ويداعب خصلات شعرها....ليقول: "هل تقبلين بي زوجاً لك؟!"............
كان مشهداً لا يمكن تصوره..الدموع تنساب من عيون كل الحاضرين دون كلمةً واحدةً..
سحبت أماني يده من فوق رأسها..واحتضنتها براحتيها وغطت وجهها بها..وهي تقبلها....لتقول: "هذه أغلى أمنية في عمري..وما تمنيت يوماً رجلاً غيرك..ولن أكون لأحد غيرك..فأنت أول وآخر أحلامي".
في تلك اللحظة تعالت الزغاريد..متقطعةً من فرط العبرات ..ونهض الجميع ليحيطوا بهما..وتنهال التهاني..والقبل..
ساعات..وصل المأذون ... وتم زواجهما..وعاشا سويةً..وما زالا..ولكنهم اصبحوا الان ،عائلةً من خمسة أشخاص..ومازال الحب..وما زال الوفاء..حتى كتابة هذه السطور.....فأي امرأة أنت؟..أيتها العراقية الأصيلة.....كنت ، وستظلين مفخرةً لكل نساء الدنيا..
تمنيت أن يكون هناك وساماً للوفاء..لكنت أول من يستحقه.....ولأكون منصفاً.....هناك أخرى ستشاركك ذات الوسام....ولكن في القصة القادمة..
لبعض من الوفاء....لزمن الحب والحرب...(5)
قصي المعتصم