فتح تستر مقدمةبعد القرار الذي اتخذه سيدنا عمر بن الخطاب بعدم تَوَغُّلِ المسلمين داخل الأراضي الفارسية أصبح
للمسلمين حامية في منطقة "رَامَهُرمُز" شرقي منطقة الأهواز، وحامية في
مَناذر، وحامية في تِيرَى. أما المنطقة التي تقع شرقي نهر تِيرَى والمنطقة
التي تقع شرقي رامَهُرمز، فهي تحت سيطرة الفرس بقيادة الهرمزان لكنها تدفع
الجزية للمسلمين على ألاّ يقاتلوا المسلمين، وعلى أن يمنعهم المسلمون إذا
حدثت حرب على أهل فارس، وذكرنا أن يزدجرد كسرى فارس بعد هروبه الثالث من
المدائن إلى مدينة "مرو" في أقصى شرقي المملكة الفارسية، ظل يحفز الجيوش
الفارسية لقتال المسلمين الذين سيطروا على أرضهم، حتى بدأت الجيوش الفارسية
تتجمع وتتجه نحو مدينة تسمى "تُسْتَر"، وتقع هذه المدينة على نهر كارون
الموجود في منطقة الأهواز، وكان الهرمزان قد أعطى عهدًا ثالثًا للمسلمين،
وكان العهد الأول قد أعطاه النبيَّ ثم نقض العهد ودخل القادسية في حرب ضد المسلمين، ثم
عاهد المسلمين ألا يقاتلهم على أن يدفع الجزية، ثم نقض العهد مرة أخرى ودخل
مع المسلمين في معركة في "سوق الأهواز" وانتصر عليه سيدنا حُرْقُوص بن
زهير السعدي من صحابة النبي ، ثم طلب العهد الثالث فقبل منه سيدنا عمر بن الخطاب
على ألا يقاتل المسلمين ويبقى في مكانه، وبعد أن استنصر يزدجرد كل الفرس
نقض الهرمزان العهد للمرة الثالثة وغدر بالمسلمين، وجهَّز جيشه وبدأ بإعداد
العُدَّة لقتال المسلمين مرة ثالثة، ولم يتعلم الهرمزان من الدروس
السابقة؛ فكل مرة يغدر بالمسلمين ويدخل في معركة معهم ويُهْزَم، فجهز جيشه
وبدأت الجيوش في شرقي المملكة تتجمع حتى تقاتل المسلمين في معركة فاصلة
كبيرة، واختارت مدينة "تُسْتَر" أحصن المناطق الفارسية على الإطلاق؛ فهي
أكثر حصانة من المدائن ومن جَلُولاء التي كانت من أشد المعارك مع المسلمين
في هذه الفترة.
ولما وصلت سيدنا عمر الأنباء التي تؤكد نقض الهرمزان للعهد مع
المسلمين، وأن يزدجرد يشجع الفرس لقتال المسلمين في معركة فاصلة، يصدر
سيدنا عمر بن الخطاب أوامره، ويضع خطة الجيش الإسلامي في فارس من المدينة،
فيأمر سيدنا عمر بخروج جيش كثيف من الكوفة عاصمة المسلمين في أرض فارس على
رأسه النعمان بن مُقَرِّن أحد صحابة النبي ، ويتوجه من الكوفة رأسًا إلى الأهواز ليقاتل
الهرمزان وفرقته، ثم يُتْبِع جيشَ النعمان بن مُقَرِّن بجيشين: على أحدهما
سويد بن مقرن، وعلى الآخر جرير بن عبد الله البجلي وهو من الصحابة أيضًا،
وهو الذي جمع قبيلة "بجيلة" بعد تفرقها، وكانت أول معركة تخوضها قبيلة
بجيلة هي معركة القادسية.
وما زال على جيش الأهواز سيدنا حُرْقُوص بن زهير من صحابة النبي ، وتحت إمرته أربع فرق: سلمى بن القين وحرملة بن
مُرَيْطة (وهما من صحابة النبي )، وغالب الوائلي وكليب بن وائل (وهما الداخلان في
عهد المسلمين من سنة ماضية)، ومدينة البصرة القريبة من الأهواز تخرج جيشًا
كثيفًا على رأسه سهل بن عدي أخو سهيل بن عدي فاتح الجزيرة كما ذكرنا في
المقال السابق، ويوصي سيدنا عمر بن الخطاب سهل بن عدي بأن يصطحب معه خمسة من فرسان المسلمين في
جيشه وهم: البراء بن مالك، ومَجْزَأَة بن ثور وهما من صحابة النبي ، وكعب بن ثور وهو من كبار التابعين، وسيدنا حذيفة بن
محصن قائد الجيش الثامن من جيوش الردة لحرب عُمان، وسيدنا عرفجة بن هرثمة
قائد الجيش التاسع من جيوش الردة لحرب مهرة، وهما في اليمن، ويوصيه ألا
يولِّي البراء بن مالك إمارة الجيوش؛ فقد كان سيدنا البراء بن مالك من
الشجاعة الفائقة بما يجعله يلقي نفسه في أمور قد يصعب على المسلمين أن
يتحملوها، فينهى سيدنا عمر بن الخطاب عن توليه قيادة الجيش رغم كفاءته خشية
هلاك المسلمين، ومن الكُمَاة المهرة سيدنا مَجْزَأَة بن ثور، وكان من أتقى
الصحابة. ومن المقربين إلى سيدنا عمر بن الخطاب سيدنا كعب بن ثور هذا
التابعي الجليل، ومن مواقفه مع سيدنا عمر بن الخطاب أن امرأة قالت لسيدنا
عمر بن الخطاب: إن زوجي يصوم النهار ولا يفطر، ويقوم الليل ولا ينام. فقال
لها سيدنا عمر بن الخطاب: نِعْمَ الزوجُ. فاستحيت السيدة وانصرفت، فقال كعب
بن ثور لسيدنا عمر بن الخطاب: لماذا لم تُجِبْ لها مسألته؟ فقال سيدنا عمر
بن الخطاب: وأي مسألة في صيام زوجها وقيامه؟! فقال سيدنا كعب: ما أرى إلا
أنه يهجرها في الفراش. فقال سيدنا عمر بن الخطاب: أوَترى ذلك؟ فأرسل إلى
السيدة مرة أخرى، فعرض عليها ما قاله سيدنا كعب بن ثور، فصدّقت المرأة ما
قاله كعب، وقالت: والله إنَّ لي لرغبة كما للنساء. فتعجب سيدنا عمر بن
الخطاب من سيدنا كعب بن ثور وفَهْمه للمسألة بسهولة وببساطة، فقال له سيدنا
عمر: اقضِ في الأمر. فقال: أنت أمير المؤمنين، فَلْتَقْضِ أنت. فقال: إذا
كنت عرفت الأولى فلك أن تعرف الثانية. فقال سيدنا كعب بن ثور: لو كان هذا
الرجل من حقه أن يتزوج بأربع نساء فلكل واحدة منهنَّ ليلة، فيكون القضاء
بأن يقضي هذا الرجل ثلاث ليالٍ مع ربه يقوم ويصوم كما يريد، وليلة مع
زوجته. فقال له سيدنا عمر: ما رأيك الأول بأعجب من رأيك الأخير؛ اذهب فأنت
قاضي البصرة. فكان سيدنا كعب قاضي القضاة في البصرة، ومع ذلك كان من
المجاهدين المقاتلين في صفوف المسلمين. وهذا يدلِّل على أن العابد أو
العالم ليس دوره أن يمكث في المسجد فقط منصرفًا عن الجهاد، بل نذكر قصة عبد
الله بن المبارك لما بعث برسالة إلى عابد الحرمين الفُضَيْلِ بنِ عِيَاض
يبين له فيها أن العبادة التي يقوم بها في مقابل الجهاد لعب، وكان الجهاد
وقتها فرض كفاية، فكيف وهو فرض عين!!
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا *** لعلمت أنك في العبادة تلعب
تحركت هذه الجيوش العظيمة؛ جيش الكوفة والأهواز والبصرة في اتجاه واحد
نحو مدينة تُسْتَر لحرب الفرس، على رأس كل الجيوش سيدنا أبو سبرة بن أبي
رهم، الذي استطاع أن ينقذ المسلمين في موقعة طاوس، فأرسل سيدنا عمر بن
الخطاب بتولية أبي سَبْرَة بن أبي رُهْم الإمارة على كل الجيوش، وكل هؤلاء
القادة من الصحابة: النعمان بن مُقَرِّن، وسويد بن مقرن، وسهل بن عدي،
والبراء بن مالك، ومَجْزَأَة بن ثور، وحرقوص، وحرملة، وسلمى؛ وذلك لما له
من مهارة في القيادة، أَدَّتْ إلى أن يتبوَّأ هذه المكانة العظيمة عند
المسلمين، وبدأت الجيوش الإسلامية بالتحرك في الاتجاه الذي ذكرناه.
تحركات الجيوش الإسلاميةمن الكوفة يخرج جيش النعمان ويخترق سواد الجزيرة ويعبر نهر دجلة، ويتجه
جنوبًا ويعبر نهر "كارون" ناحية الأهواز، ومن البصرة يخرج سيدنا سهل بن عدي
بجيشه، وكان جيش سيدنا النعمان بن مقرن أسرع من جيش سيدنا سهل بن عدي؛
فاخترق السواد في سرعة رهيبة جدًّا حتى وَصَل إلى منطقة سوق الأهواز،
فعبرها حتى وصل إلى مدينة "رَامَهُرمُز" وعليها الهرمزان، فحاصرها وخرج له
الهرمزان فالتقى معه في موقعة سريعة انتصر فيها على الهرمزان. ويرجع
الانتصار الذي حققه النعمان على الهرمزان لعدة أمور من أهمها: سرعة النعمان
بن مقرن، ومباغتته لعدوه قبل أن يجهّز الهرمزان جيشه، وقبل أن تصل القوات
الإسلامية من البصرة.
ولما انهزم الهرمزان جمع فلول جيشه وانسحب به متجهًا نحو مدينة
"تُسْتَر" حيث الحصون العظيمة للفرس، وعلم سيدنا سهل بن عدي وهو في طريقه
إلى رامهرمز أن سيدنا النعمان بن مقرن انتصر على الهرمزان في رامهرمز،
واتجه نحو تُسْتَر فغيَّر سيدنا سهل بن عدي اتجاهه من منطقة الأهواز رأسًا
إلى تُسْتَر ليحاصرها مع سيدنا النعمان بن مقرن ، وتوجهت جيوش الأهواز إلى مدينة تُسْتَر وكان على
رأس هذه الجيوش سيدنا حرقوص بن زهير، وسلمى، وحرملة، وغالب، وكليب تحت إمرة
سيدنا حرقوص بن زهير، ولا يكتفي سيدنا عمر بن الخطاب بذلك، بل يأمر سيدنا
أبا موسى الأشعري أن يخرج بنفسه على رأس جيش من البصرة مددًا للمسلمين،
فيخرج سيدنا أبو موسى الأشعري على رأس جيش من البصرة، ويتوجه بهذا الجيش
إلى تُسْتَر أيضًا، وبوصول سيدنا أبي موسى الأشعري إلى تُسْتَر يكون سيدنا
أبو موسى على رأس الجيوش التي خرجت من البصرة، ويبقى النعمان على رأس جيوش
الكوفة، ويظل أبو سبرة بن أبي رهم على كل الجيوش حتى على سيدنا أبي موسى
الأشعري.
وتصل الجيوش الإسلامية إلى مدينة تُسْتَر، بينما تختبئ الجيوش الفارسية
داخل الحصون، وكما ذكرنا أن مدينة تُسْتَر من أعظم الحصون الفارسية على
الإطلاق، ويقال: إنها أقدم مدينة في بلاد فارس، وبها أول سور بُنِيَ على
وجه الأرض، وبُنِيَتِ المدينةُ في منطقة عالية وحولها سور ضخم عالٍ، وعلى
السور أبراج عالية، وهذه الأبراج لم تكن متوفرة في حصون فارس، وهذه ميزة
للفرس فباستطاعتهم رمي المسلمين بالسهام من فوق الأبراج ولا تصل سهام
المسلمين إلى أعلى البرج، فكانت هذه في صف الفرس؛ بالإضافة إلى خندق حول
المدينة كعادة الفرس، لكن الفارق بينه وبين الخنادق الأخرى أن هذا الخندق
مملوءٌ بالماء مما يُصَعِّبُ على المسلمين اجتياز المدينة، وكان سور
المدينة من طبقتين وبينهما فراغ والماء حول المدينة من معظم الجهات، وهناك
منطقة واحدة لم يكن بها ماء ولكن على رأسها جيش كبير من الفرس، والأسهم
تُلْقَى من فوق الأبراج على من يُحَاوِل اجتيازَ هذه المنطقة، فكانت
المنطقة في شدة الحصانة، ولها سور ضخم عالٍ يحيط بالمدينة كلها، وبداخل
المدينة الزروع والطعام وخارجها نهر بجوارها؛ فأقاموا الشواديف والروافع
لرفع الماء من النهر إلى داخل المدينة، وبذلك كانت لديهم قدرة كبيرة على
الصبر على حصار المسلمين.
وبدأ المسلمون في حصار الفرس، وكان هذا الحصار من أشد أربعة حصارات
حاصرها المسلمون، وكعادة الفرس الخروج من داخل الحصن لقتال المسلمين من وقت
لآخر كما فعلوا في جَلُولاء وفي تكريت وفي المدائن، فتخرج فرقة لقتال
المسلمين وسرعان ما تعود إلى داخل الحصن، وتكررت هذه الزحوف ثمانين مرة،
ودام الحصار لمدينة تُسْتَر قرابةَ ثمانية عشر شهرًا (ما يقرب من عام
ونصف)، وكانت هذه أطول مدة تُحَاصَر فيها مدينة في التاريخ، ورغم طول المدة
لم يستسلم الجيش الفارسي المحاصَر ولم ييأس الجيش الإسلامي من الحصار،
وكان أمرًا شاقًّا على المسلمين فَهُم مُعَرَّضون لسهام الفرس، وبداخل
الحصن أعداد كبيرة من الجنود وعلى رأسهم الهرمزان، وكان من أشد قادة الفرس
قوة في ذلك الوقت بعد مقتل رستم في موقعة القادسية؛ فيصبر المسلمون على
الحصار الشديد، وكان النصر في كل ما قام به الفرس من مهاجمة المسلمين حليفَ
المسلمين، لكن كان الفرس يلجئون إلى الحصون في كل زحف قبل تحقيق النصر
الكامل، فَشَقَّ الأمر على المسلمين، وشق الأمر أيضًا على الفرس، ثم تذكر
المسلمون أن معهم رجلاً قال عنه النبي : "كَمْ مِنْ أَشْعَثَ
أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ
[1] لاَ
يُؤْبَهُ لَهُ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ مِنْهُمُ
الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ"
[2]. والبراء هو الذي أوصى به سيدنا
عمر بن الخطاب أن يكون في جيش المسلمين، فذهب المسلمون إلى البراء بن مالك
قائلين له: يا براء، ألا ترى ما نحن فيه؟! أَقْسِمْ على ربك. فيقول: أقسمت
عليك يا رب أن تمنحنا أكتافهم، وتملكنا رقابهم، وتلحقني بنبيك.
[1] الطمر: الثوب البالى.
[2] رواه الترمذي (3854)، وقال الألباني: صحيح. انظر حديث رقم (4573) في صحيح
الجامع.