يعتبر هذا الموضوع من المواضيع المثيرة للجدل لانه يتناول شخصية فلسفية كثيراً ما جعلتها الناس رمزاً لهم او قدوة فلسفية يقتدون بها لانها وحسب والتأريخ الذي وصلنا تمثل بحد ذاتها مدرسة او مذهب فلسفي قائم بحد ذاته , لكن الذي اود ان ابينه هنا اعتقد كثير من القراء لا تعجبهم الاراء الذي يحتويه هذا المقال , لكن لندع العلم يتكلم والبحث يتكلم ونرفع عقولنا عن القديم الذي وصلنا واصبحنا نسوق له ونصقل له كل الاوجه ونرفع به الى السماء من غير دراية او دراسة لذلك سوف اعتمد في مقالي هذا على المقارنه بين الفيلسوفين سقراط وافلاطون ونبين توجهات كل منهم واهتماماتهم لذلك سميته سقراط وافلاطون والحقيقة الغامضة ..
ولنبدأ بالفيلسوف العظيم سقراط , فهو الشخص العظيم الذي تنكر للآلهة وكفر بالاصنام والهياكل المزيفة عند المجتمع الاغريقي , والذي ضل يناشد التوحيد والتكلم بأسم الله وضرب عرض الحائط جميع قيم الاديان عند قدماء الاغريق وكأن مسيرته مسيرة رسول يدعو للتوحيد ومعرفة الله , فأنطلق يبشر بدعوته الاصلاحية وضحى بكل شئ في سبيلها , حتى انه اهمل جميع سؤونه العائلية والشخصية من اجل دعوته ومن اجل الانسان وقدسيته ورفع احجب الظلم عنه ورفع احجب العتمه وابراز الحقيقة في مجتمعه آنذاك , لذلك كان ذا شخصية فذة مبشرة للخير والتوحيد مما يندر ان نجد مثيلاً له بين عامة الناس وقتها , فكان ثائراً باصلاحاته ومتمرداً على تقاليد مجتمعه البالية واطوارها المنهمكة بالجهالة والابتعاد عن الحق سبحانه ...
وقد وجدنا في كتب التأريخ سقراط يقدم الى المحاكمة ( التي يترأسها اصحاب القيم المتخلفة والافكار الهدامة ) بتهمة الالحاد وانكار الالهة , فحكمت عليه المحكمة بشرب السم القاتل , فشربه وهو مطمئن حيث آمن بأنه سينقل من هذا العالم الفاني الى العالم الباقي .
مات سقراط ولكنه ترك بعده دوياً هائلاً , واخذ الناس يرجعون الى ذكراه فيشيدون به وبفضله ويحيكون عنه الاساطير ويغالون في تمجيده ... شأنهم شأن جميع الناس في جميع الازمان لايقدرون رموزهم وقيمتها الا بعد موتها وبعد فوات الاوان ... لكن بعد ماذا ؟؟
فبعد موته ظهر شخص آخر اسمه افلاطون كان يدعي انه تلميذ سقراط الامين , وبدأ يؤلف الكتب ويدعي انه يسجل فيها تعاليم سقراط , ويميل كثير من الباحثيين في هذا المجال وفي عصرنا هذا بأن افلاطون كان يدون في كتبه تعاليمه الخاصه به وينسبها الى سقراط , فكان يكتب أراءه ويقول ( قال سقراط ) .
والظاهر ان افلاطون اراد ان يستغل اسم سقراط في سبيل مصلحته الشخصية وربما حاول ان يتخذ من مقتل سقراط ذريعة للبروز , ومما ساعد افلاطون على هذا , هو ان سقراط لم يسجل تعاليمه في كتاب بل كان يبثها بين الناس شفهياً .. فجاء افلاطون واخذ يسجل تلك التعاليم حسب مزاجه الخاص واعتبر نفسه الممثل الوحيد لرسالة سقراط .. ونحن لا ننكر عبقرية افلاطون وذكائه لذلك كان اقدر على التحريف من غيره ... ونحن الشعوب البائسة نقرأ ونصدق بكل ماجاء الينا من غير دراسة وتمحيص وحتى من غير مجادلة ونعتبر ما وصل الينا لهو الحق المبين او قوانين لايمكن دحضها .
ولابد لي هنا ان اذكر بعض المقارنات بين سقراط وافلاطون قرأتها عند بعض المختصين بالامر وفلاسفة القرن المنصرم وابين فيها منشأ وطبيعة البيئة التي عاش كل منهم :
* كان افلاطون يختلف عن سقراط في مزاجه وتكوين شخصيته , حيث كان سقراط ديمقراطي المنشأ والعقيدة يؤمن بالجماعة والمجتمع , وافلاطون نشأ منشأ أرستقراطي وكان من اصحاب العبيد واعتقد ان افلاطون انتهز فرصة وجود العلم بيده وحده فأخذ يصور لنا سقراط وكأنه كان مثله نبيلاً يكره عامة الناس ويميل الى التعالي عليهم , لان افلاطون كان كذلك .
* كان سقراط ذا نزعة شعبية قلباً وقالباً , فقد كان فقيراً ومن عائلة فقيرة , فأبوه نحات وامه قابلة , وظل فقيراً حتى مات , وكان على اتصال دائم بالشارع والناس مهتماً بمصلحة هذا الشارع لانه هو قالب المجتمع ولبّه .... وقد امتاز بهذا عن افلاطون حيث كان افلاطون نبيلاًَ في نسبه وتصرفاته ومزاجه وثرياً ويملك من العبيد الكثير وكان يكره العامة ويكره الديمقراطية كرهاً شديداً ويدعو الى سحق النظام الديمقراطي الذي كان سائداً في بلاده ويدعو بحكم الاقلية من اصحاب العقل العالي والنسب الرفيع المميز وكان عنصري النزعة وله مقولة يقول فيها " أحمد الاله الذي خلقني اغريقياً لابربرياً , حراً لاعبداً ,رجل لا أمرءة , وحيث خلقني فوق كل شئ في عصر سقراط " , وكانه اراد من الفقرة الاخيرة ان يبين للعالم انه وسقراط من نمط واحد وهذا خلاف للوقائع وتبين مقولته كيف كان عنصري النزعة والفكر ...
ومما يروى ان افلاطون شيد مدرسة خاصه به تطل على بستان أكا ديموس فسميت لذلك بأسم " الاكاديمية " , واقام فيها معبداً خاصاً وكرسها للشعر والفلسفة وهو بهذا يختلف عن سقراط الذي كان يعلم الناس في الاسواق وينكر الالهة القديمة بشتى انواعها .
* كان سقراط اصلع الرأس غائر العينيين والذي يراه يتصوره من الحمالين ذو ثياب رثة مرقعة وبالية حاله حال عامة الشعب , اما افلاطون فكان انيقاً مترفع عن الرعية جميل الوجه لايلتقي بعامة الشعب ويحتقرهم شأنه شأن ابناء الذوات في كل زمان .
* كان الفلاسفة الذين عاشوا قبل عصر سقراط منهمكين في البحث وراء الحقائق الكونية التي لاتمس مصالح الانسان ومشكلاته وهمومه , فكان انشغالهم بأوهام العالم الاعلى حيث اهملوا بها مشكلات العالم الاسفل من الناس ... وجاء سقراط فأنزل الفلسفة من السماء الى الارض واخذ يدعو الى البحث في الانسان وفي مصلحته ورفعته بدلاً من التأمل في الحقائق المثالية التي لاتنفع الانسان بشئ .
اما افلاطون فقد ارجع الفلسفة الى البحث في السماء مرة اخرى واهمل الانسان وابتكر لذلك " عالم المثل " الذي عرف به وبمدينته الفاضلة التي لايمكن تحقيقها الا في الخيال , واعتقد ان الاراء المثالية التي نسبها الى سقراط هي من بنات افكاره ليس لها علاقة بسقراط لامن قريب ولامن بعيد ولاتزال تسمى ب " مثل افلاطون " .
* كان افلاطون مصاباً بالأنحراف الجنسي ( والعياذ بالله ) ولم يتزوج طيلة حياته حيث كان يكره المراءة وحتى بعض كتاباته عنها وعن الحب كان يقصد بها غلمانه وتلامذته وليس المراءة بالذات .... بينما كان سقراط متزوج ولديه اطفال ثلاثة وكان يحارب الانحراف الجنسي الذي كان سائداً بشكل كبير في المجتمع الاغريقي , حيث كان وقتها من العيب على الرجل النبيل صاحب الحسب والنسب لايكون له محب من الرجال (استغفر الله ) !!!
فأين افلاطون من سقراط الذي كان يحارب ماشياً وجالساً هذا الانحراف ويدعو قومه الى الاصلاح والالتزام بتعاليم الله الواحد ...
فمن الاجحاف ان نجعل هذا العظيم (سقراط) , وافلاطون في كفة واحدة او مكمل له , فأين الثرى واين الثريا !!!
مثنى الشلال