خلافة
الأمين والمأمون
خلافة محمد الأمين بن هارون الرشيد
تولى
محمد الأمين الحكم من جمادى
الآخرة 194هـ حتى من محرم 198هـ، وعمره 23 عامًا، وعهده كان قاصرًا على حادثة
شنيعة فرقت الأمة، وذلك ما كان بينه وبين أخيه
المأمون.
أسباب الفتنةوسبب
هذه الأحداث أن
هارون الرشيد ولّى عهده أولاً محمد الأمين، والمأمون أسن
منه، ولم يكن ما يزيد الأمين إلا أنه ابن
زبيدة (زوجة الرشيد عالية النسب
والحبيبة إلى قلبه).
أراد
الرشيد بعد ذلك معالجة هذه الغلطة ففعل ما يزيدها شرًا بتولية المأمون العهد بعد
الأمين، ولم يقتصر على مجرد تولية العهد بل أعطاه من الامتيازات ما يجعله مستقلاًّ
تمام الاستقلال بمنطقة
خراسان و
الري عن أخيه الأمين.. فأصبح لكل من
الأمين والمأمون جيشًا يتصرف فيه، ولم يقتصر الرشيد على ذلك بل أعطى أخًا لهم
ثالثًا امتيازات أخرى وهي
الجزيرة و
أرمينية فأحس الأمين كأنه مقصوص
الجناحين منزوعًا من سلطان أعظم بقاع الإسلام وأكثرها أعوانًا وجندًا.
وزاد
الأمر اشتعالاً وجود
الفضل بن الربيع الذي جرّأ الرشيد على إفساد ملكه وقتل
البرامكة... فكان في فئة الأمين
وهو الذي أغراه بأخيه المأمون ولم يكن الأمين ينوي قتاله إنما فعل الفضل ذلك خوفًا
على مصالحه.لقد
وصل الخلاف بين الأخوين إلى الاقتتال، والحقيقة لم يكن للأمين حسن تدبير بل كان
مشغولاً باللهو والعبث، وكان عنده ثقة أنه سيقهر أخاه، بينما كان المأمون مشغولاً
بتدبير أمره يجمع إلى مجلسه العلماء والفقهاء ويجلس معهم، حتى أُشرِبت قلوبُهم
محبته، وباختصار فقد انتهى الأمر بمقتل الأمين على يد أحد قواد المأمون وبايع
الناس المأمون.
خلافة المأمون بن هارون الرشيدلقد
تم الأمر للمأمون من محرم 198هـ حتى رجب 218هـ
بالعراق على يد قائدين مخلصين
عظيمين هما:
طاهر بن الحسين و
هرثمة بن أعين.
من فتنة واحدة إلى فتن أخرى
وكان
الذي يدبر الأمر مع المأمون
بمرو الفضل بن سهل والذي يرى لنفسه
الفضل الأكبر في تأسيس دولة المأمون، فأراد أن يستفيد من هذه الدولة فيستأثر بنفوذ
الكلمة فيها، وليس يتم له ذلك والعراق بين يدي طاهر وهرثمة، فاحتال حتى عزل طاهر
على لسان المأمون عن العراق وما حولها، وتعيين
الحسن بن سهل فاستجاب طاهر،
واستصدر أمرًا إلى هرثمة بالحضور إلى خراسان فاستجاب.
استمر
المأمون في خراسان إلى منتصف ولايته كما سنرى حتى سنة 204هـ، ثم قدم بغداد بعد
ذلك.
شاع
بالعراق بعد خروج طاهر أن الفضل بن سهل قد غلب على المأمون، وأنزله قصرًا حجبه فيه،
وأنه يبرم الأمور على هواه، فغضب لذلك أهل العراق واستخفوا بالحسن بن سهل، وهاجت
الفتنة في الأمصار، ولم يجد الحسن بن سهل حوله أحدًا ينصره فأرسل إلى هرثمة بن
أعين -الذي كان قد توجه إلى خراسان- يستنجد به فاستجاب هرثمة فقدم بغداد سنة 199هـ
في شعبان واستطاع بعد عدة معارك أن يعيد الأمر إلى ما كان عليه في محرم سنة 200هـ.
كانت
أغلب الفتن التي حدثت بسبب
العلويين؛ فخرج
بالكوفة محمد بن
إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن على، وفي مكة كان
حسين
بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي يشيع العذاب في كل من له علاقة ببني
العباس،
حتى اتخذ دارًا سماها دار العذاب يعذب فيها الناس، فلما علم أن هرثمة قضى على
العلويين بالعراق والكوفة اجتمع حسين وصحبه إلى
محمد بن جعفر الصادق وكان
شيخًا ورعًا محببًا في الناس مفارقًا لما عليه أكثر أهل بيته من قبح السيرة
فأرادوا أن يبايعوه بالخلافة فأجاب بعد تردد وحشر إليه الناس فبايعوه طوعًا وكرهًا
وسموه أمير المؤمنين... فأقام على ذلك أشهرًا وليس له من الأمر إلا اسمه، وابنه
علىّ وحسين بن حسن أسوأ ما كانوا سيرة وأقبح ما كانوا فعلاً في الناس حتى تعدوا
الأموال إلى الأعراض.
فلما
جاء بعث هرثمة استطاع أن يهزمهم، وطلب محمد بن جعفر الأمان له ولمن معه حتى يخرجوا
من مكة ويذهبوا حيث شاءوا، فأجيبوا وأمهلوا ثلاثة أيام فلما انتهت دخلت جنود هرثمة
مكة، وذهب كل فريق من العلويين في ناحية.
لما
فرغ هرثمة من تلك المهمة أراد أن يتوجه إلى المأمون بمرو ليطلعه على حقيقة الحال،
وما ينكره الناس عليه، واستبداد الفضل بن سهل على أمره... ولكن الفضل كاد لهرثمة
القائد المخلص، فأفهم المأمون أن هرثمة قد أفسد البلاد، وكان المأمون قد كتب إلى هرثمة
وهو في الطريق إليه أن يرجع ويلي
الشام و
الحجاز فأبى هرثمة أن يرجع
حتى يرى أمير المؤمنين... فلما اقترب من مرو خشي هرثمة أن يكتم عن المأمون خبر
قدومه فضرب الطبول كي يسمعها المأمون فلما سمعها سأل فقالوا: هرثمة جاء يرعد
ويبرق. ولم يكن هرثمة يعلم أن المأمون قد تغير من ناحيته، فلما دخل على المأمون لم
يسمع منه كلمة وأمر به فوجئ عنقه وديس بطنه وأخذوه إلى الحبس، ثم دسوا إليه فقتلوه،
وقالوا إنه مات.
لما
بلغ أهل بغداد ما صنع بهرثمة، هاج الجند بها وثاروا على الحسن بن سهل واستخفوا
بأمر المأمون واختاروا
منصور بن المهدي أميرًا عليهم، ولأن بغداد كانت
خالية من جيش قوي يأخذ على أيدي المفسدين، فانتشر الفساد الشديد على يد فساق الجند
والشطَّار، وأظهروا الفسق وقطعوا الطريق وأخذوا النساء والغلمان علانية وأخذوا
يفرضون الإتاوات قهرًا.. ولا أحد يمنعهم!
رأى
الناس شدة هذا البلاء وضعف السلطان عن حمايتهم فقام صُلَحاء كل منطقة فمشى بعضهم
إلى بعض، واتفقوا على قمع هؤلاء الفساق، فقام رجل اسمه
خالد الدريوش فدعا
جيرانه وأهل محلته إلى أن يعاونوه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأجابوه
إلى ذلك، وشد على من يليه من الفساق والشطار فمنعهم مما كانوا يصنعون، فامتنعوا
عليه فقاتلهم وهزمهم، وأخذ بعضهم فضربهم وحبسهم ورفعهم إلى السلطان، وكان لا يرى
من حقه الاعتداء على السلطان، وقام آخر اسمه سلامة بن سلامة الأنصاري ففعل مثله..
كل
ذلك والمأمون في مرو لا يصل إليه شيء من أخبار بغداد بفعل الفضل بن سهل، ومن عجيب
ما فعله المأمون في تلك الآونة أنه اختار لولاية عهده واحدًا من آل بيت
على،
هو
على بن موسى بن جعفر الصادق وسماه الرضا من آل محمد، وأمر الجند بطرح
السواد شعار
العباسيين، ولبس ثياب الخضرة كشعار جديد للدولة، ويبدو أن ذلك
من تدبير الفضل بن سهل (فارسي الأصل) لأن الفرس يعجبهم أن يكون إمام المسلمين
علويًا.. وساعد على ذلك ما كان يراه المأمون نفسه من تفضيل على على غيره من
الخلفاء
الراشدين، وأنه كان أحق بالخلافة منهم.... وهي فكرة اختمرت في رأسه نتيجة
نشأته فقد كان في أول أمره في حجر
جعفر البرمكي[1]ثم انتقل إلى الفضل بن سهل، وكلهم ممن تشيع.
لم
يرض ذلك آل العباس ببغداد فاتفقوا على مبايعة
إبراهيم المهدي عم المأمون
بالخلافة، وذلك سنة 202هـ.
وأخيرًا
وصلت الأخبار على حقيقتها إلى المأمون، ويقال إن الذي أبلغه بها ولي عهده على
الرضا، فإنه أخبره بما فيه الناس من الفتنة منذ قتل أخوه، وأن الفضل بن سهل يستر
عنه الأخبار وما كادوه من قتل هرثمة وغيره.
لما
تحقق المأمون أن الفضل قد كذَبه وغشَّه أمر بالرحيل إلى بغداد وقُتِل الفضل بن سهل
في الطريق..ثم قُتِل على الرضا!!ولما وصل المأمون إلى
النهروان، خرج إليه
أهل بيته والقواد فسلموا عليه ووافاه طاهر بن الحسين القائد المعزول.
استقرار الأمور
وفي
صفر سنة 204هـ دخل المأمون مدينة بغداد وقد فرَّ عمه واختبأ؛ خوفًا منه ولكنه عفا
عنه، ونستطيع القول إن الملك الحقيقي للمأمون بدأ منذ عودته إلى بغداد... فقد تجلت
مزاياه العالية وأخلاقه، وساس الناس سياسة لين لا يشوبه ضعف، وقوة لا يشوبها عنف،
وأخذت بغداد تستعيد نضرتها التي كانت لها في عهد أبيه وعظمت بها الحركة العلمية
كما سنرى إن شاء الله.
وزراء المأمون في بغداد
عيّن
المأمون وزيرًا جديدًا له هو:
أحمد بن أبي خالد، وأصله شامي فكان من خيار
الوزراء وأخلصهم للمأمون.
ذكر
المأمون يومًا عمرو بن مَسْعَدة فاستبطأه وقال: يظن أني لا أعرف أخباره وما يحبب
إليه وما يعامل به الناس.
وكان
أحمد حاضرًا هذا المجلس فذهب إلى عمرو وأخبره بما قاله عنه الخليفة.
فأسرع
عمرو إلى المأمون، فلما دخل عليه وضع سيفه بين يديه وقال: يا أمير المؤمنين، أنا
أقلّ من أن يشكوني أمير المؤمنين إلى أحد، أو يُسِرَّ لي ضغنًا، يبعثه بعض الكلام
على ظهاره ما يظهر منه، فقال المأمون: وما ذاك؟ فأخبره عمرو بما بلغه ولم يُسَمِّ
له المخبر، فقال له المأمون: ليس لك عندي إلا ما تحب، فليفرج روعك، وليحسن ظنك..
وظهر في وجه المأمون الحياء والخجل، فلما غدا أحمد (الوزير) على المأمون قال له:
أما لمجلسي حرمة؟! (ولم يكن المأمون يظن أن وزيره أحمد هو الذي بلَّغ عمرًا)، فقال
أحمد: نعم، فأخبره المأمون أن بعض من حضر من بني هاشم هو الذي أفشى ما قاله، فقال
أحمد: أنا يا أمير المؤمنين الذي أخبرت عَمْرًا، وليس أحد من بني هاشم، والذي
حملني على ذلك الشكر لك والنصح والمحبة، وأن تتم نعمتك على أوليائك وخدمك، أعلم أن
أمير المؤمنين يحب أن يصلح له الأعداء والبُعَداء، فكيف الأولياء والأقرباء، لا
سيما مثل عمرو، في دنوه من الخدمة وموقعه من العمل، فلما سمعت أمير المؤمنين أنكر
منه شيئًا، أخبرته به ليصلحه ويقوِّم من نفسه.. وإنما يكون ما فعلت مذمومًا لو
أشعت سرًّا فيه قدح في السلطان أو نقص تدبير قد استتب..
فنظر
إليه المأمون مليًّا وقال: كيف قلت، فأعاد عليه ما قال، ثم قال أعد فأعاد فقال
المأمون: أحسنت، لما أخبرتني به أحب إلى من ألف ألف وألف ألف وألف ألف وعقده خنصره
وبنصره والوسطى وقال: أما ألف ألف فلنفيك عني سوء الظن، وأطلق وسطاه، وأما ألف ألف
فلصدقك إياي من نفسك، وأطلق البنصر، وأما ألف ألف فلحسن جوابك وأطلق الخنصر.ومات
أحمد بن أبي خالد سنة 211هـ.
وكان
من بعده
أحمد بن يوسف وكان مخلصًا ولكن كان هناك من يحسده فلم يزل يكيد له
حتى أقصاه المأمون.. ثم استوزر المأمون بعده القاضي
يحيى بن أكثم وكان من جُلَّة
العلماء الفقهاء، وكان قد تولى قضاء
البصرة وسنه عشرون سنة، ثم عزله
المأمون سنة 215هـ.
فائدةأراد
المأمون أن يعلن يومًا حل
زواج المتعة وهو شيء نهى عنه
عمر بن الخطاب،
فدخل عليه يحيى وهو متغير، فسأله المأمون عن سبب تغيره، فقال: غم يا أمير المؤمنين
لما حدث في الإسلام من نداء بتحليل الزنا. قال: الزنا.
قال:
نعم، المتعة زنا، قال: من أين؟ قال: من كتاب الله وحديث رسول الله ، قال تعالى: {وَالَّذِينَ
هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ
*إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ
*فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ
هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 5-7]. يا أمير
المؤمنين، زوجة المتعة ملك يمين؟ قال: لا. قال: فهي الزوجة التي عند الله ترث
وتورث وتلحق الولد لها شرائطها؟ قال: لا.
قال:
فقد صار من يتجاوز هذين من العادين، وهذا
الزهري، يا أمير المؤمنين، روى عن
عبد الله و
الحسن بن محمد بن الحنفية عن أبيهما
على بن أبي طالبقال: "أمرني رسول الله أن أنادي بالنهي عن المتعة وتحريمها بعد أن كان
قد أمر بها". فسأل المأمون عن حديث الزهري أهو محفوظ، فعلم أنه رواه
مالك،
فقال المأمون: أستغفر الله. وأمر فنودي بتحريم المتعة
[2].
ثم
كان من بعد يحيى بن أكثم وزراء، ولكن في الحقيقة أنه بعد تجربة الرشيد مع البرامكة
وتجربة المأمون الأولى من الاعتماد على الوزراء، لم يعط المأمون لوزرائه صلاحيات
كبيرة، بل كان يتابع الأمور بنفسه كما كان يدقق في اختيار وزرائه.
الخرميّة
وفي
سنة 201هـ ظهرت فرقة باطنية اسمها الخرَّمية
[3]يدينون بما يريدون ويشتهون، وإنما لقبوا بذلك لإباحتهم المحرمات من الخمر وسائر
الملذات ونكاح ذوات المحارم، وداعيها بابك الخرمي كان يخيف السبل ويعيث في الأرض
فسادًا وقد انتصر بابك على جيوش المأمون في بعض المواقع، حتى أرسل إليه المأمون
عام 218هـ
إسحاق بن إبراهيم، غير أن المأمون قد توفي، ولم يعلم بالنصر الذي
أحرزه على الخرمية، إلا أن أمرهم بقي قويًا حتى قُضى على فرقته سنة 223هـ في عهد
المعتصم.
الاهتمام بالعلم في زمن المأموننشأ
علم الكلام في زمنه وترعرع، وعلم الكلام
علم يبحث في أصول الدين والعقائد ويعتمد على العقل، وظهرت
المعتزلة وشيخهم
إبراهيم بن سيار(
النظام)
[4].
ونتيجة
لذلك ظهر خلاف بين
أهل السنة والجماعة الذين يعتمدون في علوم العقائد على
النقل، وبين المعتزلة الذين يقدمون العقل على النقل ومنها المسألة المشهورة: هل
القرآن كلام الله القديم أم هو مخلوق؟
وهي
مسألة على بساطتها لكنها سبب في ابتلاء كثير من العلماء على يد المأمون، ومن بعده
على يد المعتصم، لاعتناقهما المذهب الذي يقول: إن القرآن مخلوق خلافًا لأهل السنة
والجماعة..
كان
أصحاب المذاهب المخالفة لما عليه عامة الناس لا يستطيعون أن يظهروا آراءهم خوفًا
من العامة، فلما جاء المأمون أفسح المجال للمتخالفين أن يتناظروا، فكان يجمع إليه
العلماء من المتكلمين والفقهاء وأهل الحديث، ويجعل لهم مجالس مناظرة، وكان يهدف
إلى أن يتفق هؤلاء العلماء على رأي فيما يعرض لهم من المسائل ليحمل الجمهور على
ذلك الرأي، وتتفق كلمة الأمة خاصة فيما يتعلق بمباحث أصول الدين ومباحث الإمامة.
ويُروى
أنه تناظر في حضرته اثنان من أهل التشيع، أحدهما من
الإمامية والآخر من
الزيدية، وجرى الكلام بينهما إلى أن
قال أحدهما للأخر: يا نبطي ما أنت والكلام، فقال المأمون: الشتم عمى والبذاءة لؤم،
إنا قد أبحنا الكلام وأظهرنا المقالات، فمن قال بالحق حمدناه، ومن جهل ذلك وقفناه،
فاجعلا بينكما أصلاً، فان الكلام فروع فإذا افترعتم شيئًا رجعتم إلى الأصول..
وهذه
القصة توضح لنا أن المأمون أباح المناظرات بحرية مطلقة فهذان الرجلان من أهل
التشيع، كلاهما على مذهب إن صح أحدهما فهو كفيل أن يذهب بملك آل
العباس، ومع
ذلك ترك حرية القول.
إيجابيات وسلبيات هذه الحرية في الحوار والتناظر بين
العلماء بشتى مذاهبهم:
1-
كان من إيجابيتها ثراء العلوم الدينية من خلال الحوار والمناظرة خاصة في الجانب
الفقهي الذي يتعلق بالأحكام العملية، فكانت ثروة للأمة.
2-نشوء علم الكلام في حد ذاته لإثبات العقائد بالعقل والمنطق كان مناسبًا لمخاطبة
الداخلين في الإسلام من الفرس، الذين يتحاجون بهذه الطرق، فمخاطبتهم بطريقتهم شيء
مؤثر لاشك في ذلك.
3-
ولكن اعتماد العقل وحده في إثبات العقائد يؤدي إلى انحراف، لأن العقل محدود
والعقائد تتعرض للغيبيات، والحجة فيها للنص الصحيح من القرآن أو السنة.. فحدث
انحراف في مسائل كثيرة تمذهب بها فرق وأدت إلى تفرق بعض أجزاء الأمة.
4- من هذه المسائل القول بخلق القرآن، ومن طول المناظرات اقتنع
المأمون تمامًا بالقول بخلق القرآن مخالفًا بذلك جمهور علماء أهل السنة والجماعة،
وكان يظن أنه حين يظهر رأيه للعلماء أنهم سيجيبونه إلى رضاهم بمذهبه، ولكن النتيجة
كانت عكس ذلك، فتكلموا فيه واتهموه بالابتداع وغلا بعضهم في ذلك فقال بكفر من رأى
خلق القرآن، وكان ذلك سنة 212هـ.
وما
زال الخلاف يتسع حتى كانت سنة 218هـ فرأى المأمون أن يستعين بسلطانه في إلزام
الفقهاء برأيه، وهو غير محق في ذلك، وكان في هذه السنة غازيًا في بلاد
الروم،
فبعث إلى عامله في
بغداد إسحاق بن إبراهيم أن يجمع الفقهاء،
ويمتحنهم في آرائهم في هذه المسألة، فجمع إسحاق نحو ثلاثين رجلاً من العلماء فكان
مما دار بينه وبينهم: قال
لبشر بن الوليد: ما تقول في القرآن؟ قال: أقول
القرآن كلام الله.
قال:
أسألك عن هذا أمخلوق هو؟ قال: الله خالق كل شيء. قال: أما القرآن شيء؟ قال: هو شيء،
قال: فمخلوق هو؟ قال: ليس بخالق، قال: ليس أسألك عن هذا أمخلوق هو؟ قال: ما أحسن
غير ما قلت لك، وقد استعهدت أمير المؤمنين ألا أتكلم فيه وليس عندي غير ما قلت، فبعث
إسحاق بإجابات العلماء عالمًا عالمًا فاغتاظ المأمون منها، فأمره أن يأخذهم
بالتهديد ففعل إسحاق فأجابوه جميعًا أن القرآن مخلوق، إلا
أحمد بن حنبل و
محمد
بن نوح.
يروي
ابن كثير: "لما انتهت النوبة إلى امتحان أحمد بن حنبل قال له إسحاق:
أتقول إن القرآن مخلوق؟ فقال: القرآن كلام الله لا أزيد على هذا" إلى أن قال:
"وكان من الحاضرين من أجاب إلى القول بخلق القرآن مصانعة مكرهًا لأنهم كانوا
يعزلون من لا يجيب عن وظائفه، وإن كان له رزق من بيت المال قُطع، وإن كان شيخ حديث
روع عن الإسماع والأداء، ووقعت فتنة صماء ومحنة شنعاء وداهية دهياء فلا حول ولا
قوة إلا بالله". فوجه بهما إسحاق إلى
طرسوس حيث يغزو المأمون الروم.
وإن
من مفاخر التاريخ أن جميع الذين تهاونوا مع المأمون في مسألة خلق القرآن، أهمل
المحدثون أمرهم وأنزلوا رتبهم وعدُّوا ذلك عيبًا من عيوبهم، لأن العالم الذي لا
يتحمل الأذى أو الجود بالنفس في سبيل اعتقاده لا يُعَدُ عالمًا.. ومن ثم رأينا
الذين ثبتوا في المحنة مثل الإمام أحمد بن حنبل نالوا من التكريم والعناية والفضل
ما لا مزيد عليه وزادته المحنة تشريفًا وذكرًا في التاريخ.
5- كان للمأمون وجهة نظر
تبدو صائبة
[5]في تعليله محاولة توحيد القوم على رأي واحد فيما اختلف فيه من المسائل، وقد كبر
الخلاف في مسألة من أهون المسائل وأيسرها حلاًّ، ولكنه كان يقول: "إن أصغر
المسائل متى كان أساسًا لنحلة أو سببًا لرياسة، فإن الخلاف يعظم بسببه، أما أعضل
الأمور فإن الخلاف الشديد لا يجد إليه سبيلاً إذا لم يكن أساسًا لنحلة، أو سببًا
لرياسة".
كان
يمكن للمأمون أن يكون من خيار الخلفاء، لولا هذه السقطة، وقوله بأفضلية على بن أبي
طالب على سائر
الخلفاء الراشدين ، قال عنه
ابن كثير بعد ذكر فضله وحسن سيرته: وقد كان فيه تشيع واعتزال وجهل بالسُّنَّة
الصحيحة.
[1] الذي قُتِل في عهد الرشيد، وهي قرينة أحرى تدل على تشيعه فهو الذي
ربى المأمون.
[2] انظر رحمك الله إلى خلفاء المسلمين وما كانوا عليه من العلم
والعودة إلى الحق حينما يتبين لهم بالدليل الناصع، وحرصهم على أمور الدين. وانظر
أيضًا إلى ذكاء هذا الوزير العالم كيف سلك مسلكًا لطيفًا في النصح والإرشاد.
[3]نسبة إلى قرية بفارس اسمها خرمة، منها زعيمهم بابك الخرمي.
[4]انظر فصل الفرق والجماعات.
[5]والحقيقة أنها ليست صائبة لأن توحيد الآراء في الأمور الفرعية،
وفيما يحتمل وجوهًا عدة هو ضرب من المستحيل، وهو مخالف لسنن الله، وقد كان أكابر
العلماء لا يمتعضون من الخلاف في الفروع، ولا يرون حمل الأمة على رأي واحد، بل
كانوا يقولون: من لم يعرف الخلاف لم يشم رائحة الفقه. أي من لم يعرف الآراء
المتعددة في المسألة ووجهة نظر أصحابها لم يكن واسع الأفق أو الفقه.