المعراج.. الرحلة العلوية السماوية في عالم الملكوت إن الكون
الذي يستطيع الإنسان أن يبصر بعض أطرافه كون فسيح ضخم، بالرغم من أنه بكل
ما يحتوي لا يمثل سوى السماء الأولى فقط، فلا نعلم ولا يعلم أحد مهما أوتي
من العلم -إلا أن يكون نبيًّا أو رسولاً يتلقى الوحي- عن غير هذه السماء
شيئًا، سواء كانت السماء الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو... إلخ.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن فكرة الإله الذي يحتل مكانًا محددًا
من الكون فكرة لا تتفق مع العقل الصحيح أو المنطق القويم، بل ربما نعتبر
-نحن أهل الكوكب الأرضي- أناسًا في سماء أخرى بالنسبة لمخلوقات غيرنا تعيش
في كوكب أو مكان لا نعلمه نحن في مجرتنا أو في مجرة أخرى من مجرات الكون
الفسيح...!! إذن فالخالق العظيم، أي: الله الواحد المالك المدبر، له قوة
مطلقة ولا يستطيع أحد أن يحدد له سبحانه مكانًا أو زمانًا، بل هو سبحانه
موجود قبل أن يكون هنالك زمان أو مكان. وقديمًا ذهب
الناس إلى أن ما يرونه فوق رءوسهم عبارة عن سموات تسكنها الملائكة، ولكن
العلم الحديث توصل إلى أن هذا ما هو إلا ظاهرة ضوئية تحدث في جو الأرض
نتيجة لتشتت وتناثر ضوء الشمس الأزرق بوفرة فيه... وتوصل العلم الحديث بعد
الخروج من الغلاف الجوي والتجول في الفضاء الكوني، أن الأرض ما هي إلا كوكب
موجود في مجموعة تابعة للشمس، ولا يزيد سمك غلاف هذا الكوكب 1000 كيلو
متر، بما فيه تلك "القبة الزرقاء" التي ظنها الناس قديمًا مسكن الملائكة،
ولكنها ظاهرة ضوئية تحدث في طبقة من الغلاف الجوي للأرض لا يزيد سمكها عن
200 كيلو متر. والأمر الثالث هو أن تحول المادة إلى
طاقة، ثم عودة الطاقة إلى المادة، هو أمر معلوم الآن بالكشوف العلمية
الحديثة، وهو وإن كان أمرًا نظريًّا، فإنه مستحيل التنفيذ عمليًّا. إذن،
فإذا قلنا بتحول جسد الرسول -وهو مادة- إلى ضوء -وهو طاقة- أو ما هو أعلى من
الضوء، حتى يخترق آفاق الكون وما بعد الكون في ساعات قليلة بحسابنا البشري،
فإننا بذلك نكون قد قدمنا اقتراحًا لتقريب مفهوم الحدث، وإن كنا لا نجزم
بما نقترحه. ولعل مما يدل على قصر مدة الرحلة بجانبيها
-الإسراء والمعراج- هو ما رواه الرسول بعد عودته لأم هانئ -ابنة عمه- وما
رواه لكل الناس بعد ذلك، ومن هذه الرواية أنه صلى العشاء مع أصحابه، ثم عاد
وظهر وقت الفجر فصلى الفجر معهم...!! هذا مدخل ندخل
منه إلى موضوع "المعراج"، وهو الصعود (أو آلة الصعود) من سطح الأرض إلى
طبقات الجو العليا، إلى حيث الاختراق والنفاذ من أقطار الأرض وغيرها من
الكواكب والنجوم، إلى حيث لا يعلم الإنسان حتى الآن. ولكننا
نرى من الأفضل أن نعجل بقراءة آيات المعراج الواردة في القرآن الكريم، وهي
الآيات التي لم تذكر "المعراج" صراحة، بل يفهم منها: {وَالنَّجْمِ
إِذَا هَوَى
* مَا ضَلَّ
صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى
* وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى
* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى
* عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى
* ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى
* وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى
* ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى
* فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى
* فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى
* مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى
* أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى
* وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى
* عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى
* عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى
* إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى
* مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى
* لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى{ [النجم: 1-18].
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]هكذا بدأت سورة "النجم "بالحديث عن معراج النبي ، أي المعجزة العظيمة التي حدثت لرسول الله تكريمًا
له، وقد رأى فيها عجائب صنع الله وغرائب خلقه في ملكوته العظيم الذي لا
يحده حد. ولقد اقتضت حكمة الله أن يكون أول ألفاظ السورة جرم سماوي، أي:
"النجم"، وهو إحدى الآيات الكونية التي خلقها الله، والله سبحانه يقسم
بسقوط النجم أو أفوله أو انفجاره أو احتراقه، وهو قسم بشيء عظيم إذا فكر
فيه الناس. وجاءت الآية الثانية لتؤكد لأهل مكة وقت
تنزل القرآن بين ظهرانيهم أن رسول الله (أي: المبعوث فيهم) لم يضل ولم يختل
ولم يزل؛ لأنه رسول مختار من قبل الله سبحانه، فلا بد أن ينطق الصدق ويقول
الحق ويخبر بما رأى ويحكي ما سمع، ويبلغ ما أمر أن يبلغه..
كيف يضل وكيف يزل وهو الأمين على القرآن -كتاب الله- إلى الناس
جميعًا؟! إنه الوحي الذي يوحيه الله إلى رسوله ، حيث كان يأتيه جبريل -عظيم الملائكة– به، ويقرئه
إياه. وجبريل هذا هو ذو قوة شديدة، وذو حسن ونضارة، وقد (استوى)، أي: ظهر
على صورته الحقيقية لرسول الله محمد بن عبد الله في (الأفق الأعلى)، فاقتربا وكادا أن يتلامسا، ولكن
جبريل فارق الرسول عند موضع لا تتعداه الملائكة، وقال له: إذا تقدمتَ -أي:
يا محمد- اخترقتَ، وإذا تقدمتُ -أي: أنا- احترقتُ. وبعد عبور هذا الموضع
تجلَّى الله لرسوله محمد بالإنعامات والتجليات والفيوضات، وأوحى إليه وحيًا
مباشرًا، وكانت الصلاة المعروفة لنا هي ما أوحى الله به. ولقد
أقسم الله على أن ما يحدث به رسوله بعد عودته من هذه الرحلة هو الحق
والصدق وليس بالكذب؛ لأنه لم يكذب قط طوال حياته... ولقد رأى رسول الله الآيات الكبرى لعظمة الله وقدرته المطلقة.
وعلى الرغم من أن "الإسراء" و"المعراج" حدثا في نفس الليلة (ليلة
السابع والعشرين من شهر رجب قبل الهجرة بعام واحد)، فإن موضعي ورودهما في
القرآن الكريم لم يترادفا، بل ذكر الإسراء أولاً (في سورة الإسراء)، وتأخر
الحديث عن المعراج إلى سورة النجم التي وضعت بعد سورة الإسراء (في ترتيب
سور القرآن). وقد تكون الحكمة في هذا هي جعل الإسراء (وهو الرحلة الأرضية)
مقدمة للإخبار بالمعراج، وهي الرحلة العلوية التي ذهل الناس عندما أخبروا
بها، فارتد عن الإسلام وقتها ضعاف الإيمان، بينما ظل على الإيمان أقوياؤه.
والمكذبون بهذا الحدث -قديمًا وحديثًا- لا عقل مدركًا
واعيًا لهم؛ لأنهم لو قرءوا التاريخ لعرفوا أن أحداثًا قبل هذه الحادثة
وقعت، منها مثلاً حادثة نقل عرش بلقيس من اليمن إلى الشام في ملمح البصر،
التي أشرنا إليها سابقًا. فكيف بهم يكذبون رحلة الإسراء..؟! ولو أنهم قرءوا
التاريخ لعرفوا أن أحداثًا قبل هذه الحادثة وقعت، منها مثلاً: رفع إدريس
إلى السماء، ورفع إلياس إلى السماء، ورفع عيسى بن مريم إلى السماء... وكلها
أحداث قبل رفع رسول الله محمد بن عبد الله إلى السموات العُلا، ولكنه عاد
بعد الرفع ولم يمكث كما حدث لهؤلاء الأنبياء والرسل... عاد ليكمل رسالته
وينشر الهدى والحق والعدل في ربوع الكرة الأرضية. هذا
من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن هؤلاء المكذبين بـ"الإسراء والمعراج "لو أنهم
قرءوا التاريخ لعلموا أن الأنبياء والرسل جرت على أيديهم المعجزات وخوارق
العادات، وأوقف الله لهم القوانين الطبيعية والسنن الكونية، ليكون هذا وذاك
أدلة على صدق دعواهم للناس. والأمثلة في هذا الشأن كثيرة، منها النار التي
ألقى فيها إبراهيم توقفت فيها خاصية الإحراق، وكانت بردًا، بل وكانت
أيضًا (سلامًا)، أي: أمانًا... وانفلاق البحر لموسى حتى ظهرت اليابسة، وعبر موسى وقومه فرارًا من بطش
فرعون مصر الجبار الآثم... وانقلاب (تحول) عصا موسى إلى ثعبان ضخم ابتلع
حبال وعِصيّ السحرة فأخزاهم الله، وعلى التوّ ثابوا إلى رشدهم وتحولوا إلى
الإيمان واتباع موسى ... وتسخير الظواهر الطبيعية لسليمان وكذلك الجن والدواب والحيوانات والطيور... وإحياء
الموتى على يدي عيسى ، وإخراج الطير من الطين على يديه أيضًا... كل هذه
وتلك معجزات وخوارق أجراها الله لأنبيائه ورسله؛ ليصدقهم الناس ويتبعوا
الهدى الذي جاءوا به.