نهاية الدولة الأيوبية
اتفقت شجرة الدرِّ مع فارس
الدين أقطاي وركن الدين بيبرس وغيرهما من المماليك الصالحية البحرية على
قتل (توران شاه)، وبالفعل تمت الجريمة في يوم 27 من المحرم سنة 648 هجرية،
أي بعد سبعين يومًا فقط من قدومه من حصن كيفا واعتلائه عرش مصر،
وكأنه لم يقطع كل هذه المسافات لكي (يحكم)بل لكي (يُدفَن)!!
وهكذا بمقتل (توران شاه)انتهى حكم الأيوبيين تمامًا في مصر،
وبذلك أُغْلِقَتْ صفحة مهمة من صفحات التاريخ الإسلامي.
لقد أسَّسَ البطل الإسلامي العظيم صلاح
الدين الأيوبي دولة الأيوبيين في سنة 569 هجرية، وظل يحكم هذه الدولة عشرين
سنة إلى سنة 589 هجرية, ووَحَّدَ في هذه الفترة مصر والشام, وتَزَعَّمَ
الجهاد ضد الممالك الصليبية باقتدار، وحقَّقَ عليهم انتصاراتٍ هائلة، والتي
من أشهرها موقعة حطين الخالدة في ربيع الآخِر سنة 583 هجرية، وفَتْحِ بيت
المقدس بعد حطين بثلاثة شهور فقط في رجب من نفس السنة، وترك صلاح الدين
الأيوبي - رحمه الله - دولة قوية عظيمة تبسط سيطرتها على مصر والشام
والحجاز واليمن وأعالي العراق, وأجزاء من تركيا, وأجزاء من ليبيا والنوبة،
وحُصِرَ الصليبيون في ساحل ضيق على البحر الأبيض المتوسط في الشام.
لكن ـ سبحان الله ـ بوفاة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله
تَقَلَّصَ دور الجهاد ضد الصليبيين، وفُتِنَ المسلمون بالدولة الكبيرة،
وكَثُرَتِ الأموال، وانفتحت الدنيا، واتسعت البلاد، وكان من جَرَّاءِ هذه
العوامل وغيرها أن حدثت انقسامات شديدة في الدولة الأيوبية، وتَفَكَّكَتِ
الدولة الأيوبية بعد وفاة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.
ولسنا بصدد التفصيل في هذه الخلافات والصراعات والاستقلالات،
ولكن نذكر هنا أن الصراع بين أمراء الأيوبيين استمر نحو ستين سنة متصلة منذ
موت صلاح الدين الأيوبي في سنة 589هجرية، وإلى انتهاء الدولة الأيوبية في
سنة 648 هجرية، ولم يكن هذا الصراعُ صراعَ كلامٍ وسبابٍ وشقاقٍ فقط،بل
كان يصل إلى حد التقاتل بالسيوف، وإراقة الدماء المسلمة، وأَدَّى ذلك إلى
الفُرْقَة الشديدة، والتشرذم المقيت، بل كان يصل أحيانًا الخلاف
وانعدام الرؤية إلى درجة التعاون مع الصليبيين ضد المسلمين!! أو التعاون مع
التتار ضد المسلمين!! وكل هذا من جَرَّاء الوقوع تحت فتنة الدنيا الرهيبة
التي طالما حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى ابن ماجه والطبراني وابن حبان بإسناد صحيح عن زيد بن ثابت
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من كانت الدنيا همه فَرَّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين
عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتِبَ له، ومن كانت الآخرة نيته جمع
الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة".
صدقت ـ والله ـ يا رسول الله.
لقد
جعل صلاح الدين الأيوبي - رحمه الله - الجهاد نصب عينيه، وجعل له هدفًا
واحدًا هو قتال الصليبيين، وإعلاء كلمة الدين، فجمع الله عليه أمره، وجعل
غناه في قلبه، وأتته الدنيا - فعلاً - وهي راغمة، أمَّا معظم السلاطين
الذين جاءوا من بعده فقد جعلوا الدنيا أكبر همهم، فتفرق عليهم الأمر
تمامًا، فما عادوا يدركون الصواب من الخطأ، ولا الحق من الباطل، فتارة مع
المسلمين، وتارة مع الصليبيين، وتارة مع التتار، فجعل الله U
فقرهم بين أعينهم، فمنهم من مات ذليلاً، ومنهم من مات فقيرًا، ومنهم من مات
طريدًا، ومنهم من مات حبيسًا. كان هذا هو واقع المسلمين في معظم الفترة
التي تلت حكم البطل الكبير صلاح الدين الأيوبي رحمه الله[1].
وهكذا انتهى حكم الأيوبيين لمصر، وبدأت حقبة جديدة في ظل
دولة أخرى هي دولة المماليك.