عوائق الاتباع:
هناك عوائق كثيرة تمنع العبد من الاتباع الصحيح للنبي -صلى الله عليه وسلم-، من أبرزها:
1- الجهل:
الجهل من أعظم عوائق الاتباع، بل هو أعظم أسباب الوقوع في المحرمات جميعها من كفر وبدع ومعاص [109]،
سواء أكان الجهل جهلاً بالنصوص بعدم الاطلاع عليها، أم كان جهلاً بمنزلتها
في الدين وكون التقدمة لها وبقية المصادر تبعاً لها، أم كان جهلاً بدلالات
الألفاظ، ومقاصد الشريعة، وقواعد العلوم وأصولها: كالمطلق والمقيد، والعام
والخاص، والناسخ والمنسوخ، والمجمل والمبين [110].
ونظرا
لخطورة الجهل الكبيرة نجد القرآن الكريم والسنة الصحيحة حافلين بالنصوص
التي تحذر من الجهل وتبين خطورته، وتحث على العلم وتبين فضله، ومنها:
قال الله تعالى: ﴿
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا
بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا
بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ
مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴿33﴾﴾ [الأعراف: 33]، يقول السعدي: ﴿ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ في أسمائه وصفاته وأفعاله وشرعه » [111]،
ويقول ابن القيم: « وأما القول على الله بلا علم فهو أشد هذه ال محرمات
وأعظمها إثما؛ ولهذا ذكر في المرتبة الرابعة من المحرمات التي اتفقت عليها
الشرائع والأديان ولا تباح بحال، بل لا تكون إلا محرمة، ثم انتقل منه إلى
ما هو أعظم منه، فقال: ﴿ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾
، فهذا أعظم المحرمات عند الله وأشهدها إثما، فإنه يتضمن الكذب على الله
ونسبته إلى ما لا يليق به، وتغيير دينه وتبديله، ونفي ما أثبته، وإثبات ما
نفاه، وتحقيق ما أبطله، وإبطال ما حققه، وعداوة من والاه، وموالاة من
عاداه، وحب ما أبغضه، وبغض ما أحبه، ووصفه بما لا يليق به في ذاته وصفاته
وأقواله وأفعاله، فليس في أجناس المحرمات أعظم عند الله منه ، ولا أشد
إثماً وهو أصل الشرك والكفر، وعليه أسست البدع والضلالات، فكل بدعة مضلة
في الدين أساسها القول على الله بلا علم... » [112].
وقال -عز وجل-: ﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴿36﴾﴾ [الإسراء: 36]، يقول سيد قطب: « والعقيدة الإسلامية عقيدة الوضوح والاستقامة والنصاعة، فلا يقوم شيء فيها على الظن أو الوهم أو الشبهة... ﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ [الإسراء: 36]
ولا تتبع ما لم تعلمه علم اليقين وما لم تتثبت من صحته: من قول يقال: أو
رواية تروى، من ظاهرة تفسر، أو واقعة تعلل، ومن حكم شرعي ، أو قضية
اعتقادية » [113].
وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: (
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا
ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً
اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلو) [114].
وعن علي -رضي الله عنه- في صفة الخوارج قال: (سمعت
النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان،
سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يقرأون القرآن لا يجاوز
حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية... ) [115] .
ومن أقوال السلف في ذلك:
عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: « اغد عالماً أو متعلمًا أو مستمعًا، ولا تكن الرابع فتهلك » [116].
وعن
سلمان الفارسي -رضي الله عنه- قال: « لا يزال الناس بخير ما بقي الأول،
حتى يتعلم الآخر، فإذا هلك الأول قبل أن يتعلم الآخر هلك الناس » [117].
2- اتباع الهوى:
اتباع
الهوى وما تشتهيه الأنفس من أعظم عوائق الاتباع وأسباب الانحراف والزيغ عن
الحق، بل إن جميع البدع والمعاصي إنما تنشأ من تقديم الهوى على النص
الصحيح، وذلك لأن من طبيعة النفس البشرية أنها تميل وترغب إلى ما تهوى
وتحب، ويصعب على صاحبها صرفها عن ذلك وبخاصة إذا كانت قد تعودت عليه ما لم
يقو إيمانه ويصلب يقينه، بل إن كل من لم يتابع الرسول -صلى الله عليه
وسلم- ويستجب له فيما جاء به: فإنه لم يذهب إلى هدى، وإنما ذهب واتبع
الهوى [118]؛ ولذا: نجد النصوص قد توافرت في ذم اتباع الهوى والتحذير منه، ومن ذلك:
قال الله تعالى: ﴿
فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ
أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى
مِّنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿50﴾﴾ [القصص: 50].
وقال الله -عز وجل-: ﴿
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى
عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ
غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴿23﴾﴾ [الجاثية: 23].
وعن معاوية -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ( وإنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب لصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله) [119].
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخاف من الأهواء، ويتعوذ بالله منها قائلا: (اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء) [120].
وليست
الإشكالية في وجود هوى في نفس العبد يدعوه إلى مخالفة الرسول -صلى الله
عليه وسلم-؛ فإن ذلك ميدان للاختبار والامتحان، وقد لا يملكه العبد، وإنما
الإشكالية في اتباع العبد للهوى، وأخذه لما يحب ، وتركه لما يبغض، وجعل
ذلك هو الباعث والدافع إلى القول والفعل ، سواء وافق ذلك محبوب الله
–تعالى- أم خالفه [121].
وقد يدخل الهوى على
من له تعلق بالنصوص وارتبط بها؛ بحيث لا يدعوه هواه إلى ترك النصوص
بالكلية والإعراض عنها، وإنما يجعله يقرر ما يريده أولاً ثم يذهب إلى
النصوص ليأخذ ما وافق هواه منها، يقول محمود شلتوت: « وقد يكون الناظر في
الأدلة ممن تمتلكهم الأهواء فتدفعه إلى تقرير الحكم الذي يحقق غرضه، ثم
يأخذ في تلمس الدليل الذي يعتمد عليه ويجادل به، وهذا في الواقع يجعل
الهوى أصلاً تحمل عليه الأدلة، ويحكم به على ا لأدلة، وهو قلب لقضية
التشريع، وإفساد لغرض الشارع من نصب الأدلة » [122].
3- تقديم آراء الآباء والشيوخ والأكابر على النصوص الثابتة:
من عوائق الاتباع الكبرى: تقديم آراء الآباء والشيوخ والأكابر على النصوص الصحيحة؛ يقول الله –تعالى-: ﴿
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى
الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ
كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ ﴾ [المائدة: 104]،
قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: أي: إذا دعوا إلى دين الله وشرعه وما
أوجبه، وترك ما حرمه: قالوا يكفينا ما وجدنا عليه الآباء والأجداد من
الطرائق والمسالك؛ قال الله –تعالى-: ﴿ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا ﴾ [المائدة: 104] أي لا يفهمون حقاً، ولا يعرفونه، ولا يهتدون إليه، فكيف يتبعونهم والحالة هذه ؟! لا يتبعهم إلا من هو أجهل منهم وأضل سبيلاً » [123].
وقال -عز وجل-: ﴿ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ ﴿66﴾ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا ﴿67﴾ رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ﴿68﴾﴾ [الأحزاب: 66- 68].
قال
الشوكاني: « والمراد بالسادة والكبراء هم الرؤساء والقادة الذين كانوا
يمتثلون أمرهم في الدنيا ويقتلون بهم، وفي هذا زجر عن التقليد شديد، وكم
في الكتاب العزيز من التنبيه على هذا والتحذير منه والتنفير عنه، ولكن لمن
يفهم معنى كلام الله ويقتدي به وينصف من نفسه، لا لمن هو من جنس الأنعام
في سوء الفهم ومزيد البلادة وشدة التعصب » [124].
وقد وردت آثار كثيرة عن السلف تحذر من ذلك، ومنها:
قول
ابن عباس -رضي الله عنهما- لعروة بن الزبير حين قال له في مسألة: أما أبو
بكر وعمر فلم يفعلا: « والله وما أراكم منتهين حتى يعذبكم الله، نحدثكم عن
النبي -صلى الله عليه وسلم- وتحدثونا عن أبي بكر وعمر » [125].
وقول
ابن مسعود -رضي الله عنه-: « ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً، إن آمن آمن
وإن كفر كفر، فإن كنتم لابد مقتدين فبالميت؛ فإن الحي لا يؤمن عليه الفتنة
» [126]، وفي رواية عنه: « لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً، إن آمن آمن وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشر » [127].
وقال عمر بن عبد العزيز: « لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- » [128].
وقال
الشافعي: « أجمع الناس على أن من استبانت له سنة عن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس »، وصح عنه أنه قال: «
لا قول لأحد مع سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- » [129].
وقال ابن خزيمة: « لا قول لأحد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا صح الخبر عنه » [130].
ولابن
تيمية كلام نفيس حول ذلك، إذ يقول: « فدين الله مبني على اتباع كتاب الله،
وسنة نبيه، وما اتفقت عليه الأمة، فهذه الثلاثة هي المعصومة، وما تنازعت
فيه الأمة إلى الله والرسول, وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصًا يدعو إلى
طريقته، يوالي عليها ويعادي، غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة،
بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصا أو كلاما يفرقون به بين
الأمة، يوالون به على ذلك الكلام أو تلك السنة ويعادون » [131].
ويدل
على مبلغ الجنابة التي يوصل إليها تقديم آراء الرجال أيا كانوا على النص
الصحيح قول الكرخي عفا الله عنه: « كل آية تخالف ما عليه أصحابنا فهي
مؤولة أو منسوخة، وكل حديث كذلك فمؤول أو منسوخ » [132].
قلت:
وهذا هو ما عليه كثير من أبناء زماننا الذين قدموا رأي شيوخهم أو جماعاتهم
أو أحزابهم على النصوص الصحيحة الثابتة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم.
4- تقديم العقل على النقل الصحيح:
كرم الله الإنسان وفضله بالعقل ، وامتدح في كتابه ذوي الألباب والعقول المستنيرة ، قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ ﴾ [الرعد: 19]، وقال سبحانه: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ ﴿29﴾﴾ [ص: 29]
ولكن كثيرًا من الناس لم يبقوا العقل في المكانة التي وضعه الله تعالى
فيها، بل زلوا فيه على صنفين: صنف عطله ولم يقم له وزنًا، وصنف بالغ فيه
وجعله مصدرًا للتشريع وقدمه على النقل الصحيح، حيث بنوا لأنفسهم ضلالات
يسمونها تارة بالحقائق واليقينيات، وتارة بالمصالح والغايات التي تهدف
النصوص إلى تحقيقها وإن لم تنص عليها، ثم يأخذون النصوص الثابتة والتي
يسمونها بالظنيات، فيعرضونها على تلك الضلالات، فما وافقها قبلوه وما
عارضها ردوه، اعتمادًا منهم على قاعدة: اليقين لا يزول بالشك!!
ولم يعلم هؤلاء أن للعقول حدودًا تنتهي في الإدراك إليها، وأن الله –تعالى- لم يجعل لها سبيلاً إلى إدراك كل شيء [133]،
كما لم يعلم أولئك أن الله حافظ دينه، وعاصم نبيه -صلى الله عليه وسلم- من
الزلل والانحراف في تبليغ دينه، وبالتالي: فما جاء به حق لا مرية فيه، كما
أن ما يسمونه حقائق ويقينيات هي عين الباطل؛ بدليل اختلاف العقول والأفهام
في تعيين الحقائق والمصالح من إنسان لآخر، وبدليل أن الله –تعالى- أمرنا
بالتسليم لحكمه وحكم رسوله، تسليماً مطلقاً، لا بمحاكمة النصوص إلى العقول
قبل التسليم بها، كما في قوله -عز وجل-: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ
حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65].
وما
أحسن كلام ابن أبي العز الحنفي حين شرح قول الطحاوي: « ولا تثبت قدم
الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام »، فقال: « أي: لا يثبت إسلام من
لم يسلم لنصوص الوحيين، وينقاد إليها، ولا يعترض عليها، ولا يعارضها برأيه
ومعقوله وقياسه، روى البخاري عن الإمام محمد بن شهاب الزهري -رحمه الله-
أنه قال: « من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم » [134].
5- التعليق بالشبهات:
دين
الإسلام قائم على تسليم العبد المطلق بالوحي، ولكن كثيرًا ممن قلت معرفته
بالوحي تعلق بالشبهات وبضروب من الخيالات وتوهم المصالح، ظنا منهم أنها
طريق معرفة الحق وسبيل الوصول إليه، ولذا: تجد من هذا حاله إذا جاءه من
أخبره بالحق الثابت بالنص: تعلق قلبه بما سبق إلى قلبه من شبهات وضلالات،
فلم يؤمن بالحق في ذاته نفسه، وأخذ يُلبس على الناس الحق بما في قلبه
وذهنه من باطل، فضل وأضل، ونتيجة لهذا الأمر الخطير فقد حذر النبي -صلى
الله عليه وسلم- أمته من هذا الصنف، فقال فيما ترويه عائشة -رضي الله
عنها-: (... فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم ) [135]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (سيكون في آخر أمتي ناس يحدثونكم ما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم؛ فإياكم وإياهم) [136]،
وتواترت أقاويل أئمة السلف في التحذير من الشبهات وأصحابها، ومن ذلك قول
عمر: « إنه سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنن؛ فإن أصحاب
السنن أعلم بكتاب الله » [137]، وقول أبي قلابة: « لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تحادثوهم، إني لا آمن أن يغمروكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون » [138]، ويقول ابن سيرين محذرا: « إن هذا العلم دين، فانتظروا عمن تأخذون دينكم » [139].
6- سكوت العلماء:
بسكوت
العلماء عن نشر الحق والتحذير من الباطل يرتفع صوت الباطل، ويضعف صوت
الحق، ويظن كثير من الناس أن أصحاب الباطل نتيجة كثرتهم وفشوهم هم أصحاب
الحق؛ بدليل ظهورهم وإلا لما برزوا وظهروا، وينتج عن ذلك قلة أتباع الحق.
ولذا جاءت النصوص بالتحذير من كتمام العلم وعدم نشره، قال الله تعالى: ﴿
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ
وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ
أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ﴿159﴾ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿160﴾﴾ [البقرة: 159 ، 160]،
قال الشوكاني في تفسيره لهذه الآية: « اختلفوا في المراد بذلك، فقيل:
أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين تركوا أمر محمد -صلى الله عليه وسلم-،
وقيل: كل من كتم الحق وترك بيان ما أوجب الله بيانه، وهو الراجح؛ لأن
الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما تقرر في الأصول، فعلى فرض أن
سبب النزول ما وقع من اليهود والنصارى من الكتم، فلا ينافي ذلك تناول هذه
الآية كل من كتم الحق، وفي هذه الآية من الوعيد الشديد ما لا يقادر قدره ،
فإن من لعنه الله ولعنه كل من يتأتى منه اللعن من عباده قد بلغ من الشقاوة
والخسران إلى الغاية التي لا تُلحق ولا يدرك كنهها » [140].
وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من سئل عن علم علمه ثم كتمه أُلجم يوم القيامة بلجام من نار ) [141] وفي رواية لابن ماجه: (ما من رجل يحفظ علماً فيكتمه إلا أُتي به يوم القيامة ملجما بلجمام من نار) [142].
7- مجالسة أهل البدع والمعاصي:
من
أعظم عوائق الاتباع مجالسة العبد لأهل البدع والمعاصي، حيث يزين أصحاب
السوء لجليسهم ما هم عليه من باطل ويرونه إياه حقاً، فإن لم يستطيعوا أن
يقبلوا الحق في ذهنه ويغيروا مفاهيمه حاولوا إجباره على فعل باطلهم، إما
مجاملة لهم، أو خوفًا من استهزائهم ونقدهم، فإن لم يستطيعوا ذلك فلا أقل
من أن يداهنهم بترك الإنكار عليهم، أو بعدم القيام بعمل الحق الذي لا يتفق
مع أهوائهم.
ولذا اشتد نكير السلف وعظم تحذيرهم لأهل السنة من مخالطة
جلساء السوء، ففي قصة عمر مع صبيغ قال أبو عثمان الراوي: « إن عمر كتب
إلينا أن لا تجالسوه، قال: فلو جلس إلينا ونحن مائة لتفرقنا عنه » [143]، وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: « لا تجالس أهل الأهواء فإن مجالستهم ممرضة للقلب » [144]، وقال مصعب بن سعد: « لا تجالس مفتونًا، فإنه لن يخطئك منه إحدى اثنتين: إما أن يفتنك فتتابعه، وإما أن يؤذيك قبل أن تفارقه » [145]،
وقال مفضل بن مهلل: « لو كان صاحب البدعة إذا جلست إليه يحدثك ببدعته
حذرته وفررت منه، ولكنه يحدثك بأحاديث السنة في بُدُوِّ مجلسه، ثم يُدخل
عليك بدعته فلعلها تلزم قلبك، فمتى تخرج من قلبك؟! » [146]،
وقال رجل لابن سيرين: إن فلانًا يريد أن يأتيك ولا يتكلم بشيء، قال: « قل
لفلان: لا ! ما يأتيني ؛ فإن قلب ابن آدم ضعيف، وإني أخاف أن أسمع منه
كلمة فلا يرجع قلبي إلى ما كان » [147].
8- الاعتماد على النصوص الضعيفة والموضوعة:
من
أعظم عوائق الاتباع: الاعتماد على النصوص الضعيفة والموضوعة، وإثبات
الأحكام بها، والقيام برد الحق الثابت بالنصوص الصحيحة بها، سواء أكان ذلك
بسبب جهلهم وعدم قدراتهم على التمييز بين الصحيح والضعيف والموضوع منها،
أم بسبب الاغترار بمقولة بعض أهل العلم بجواز العمل بالحديث الضعيف في
فضائل الأعمال، متناسين أن لذلك شروطاً، أهمها: ألا يعتقد عند العمل ثبوت
الحديث؛ لئلا ينسب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ما لم يقله، وألا يكون
الضعف شديداً، وأن يكون الحكم الذي يثبته الحديث الضعيف مندرجًا تحت أصل
عام، ليخرج بذلك ما لا أصل له والذي يمتنع تأسيس الأحكام وإثباتها عن طريق
ما كان كذلك [148].
هذه نظرات في حقيقة
الاتباع، وأهديها لأحبتي في الله –تعالى- ؛ لتجريد المتابعة الحقة للحبيب
المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، ولتظهر حقيقة أدعياء المحبة من المبتدعة
والطرقيبن وغيرهم ومدى انحرافهم عن الجادة: ﴿ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [هود: 88].
2