السلام عليكم ورحمته وبركاته
صحوة
محمود أسد
أقمت في المشفى أياماً دون أن أعرف النهاية التي سوف تحيط بي . كل ما أعرفه أنني فتحت عيني وغشاوة عليهما . فركتهما أعدت فتحهما من جديد . فارتسمت ابتسامة على وجه أمي الشاحب الذي كان مُورَّداً في يوم من الأيام ..
وأعترف بأنني السبب في عذابها وشقائها . ها هي تذبل وقد غاصت عيناها وتجعَّد خداها وجبينها فبَدَتْ عجوزاً وهي في الأربعين وأنا بكرها لم أتجاوز الثامنة عشرة .. نظرت حولي من جديد ، فوجدت وجوهاً مستبشرة ومبتسمة يتلفتون إلى بعضهم . عيونهم تتكلم تحتضر أشياء كثيرة هم أعلم بها .
أمامي ممرضة حسناء ، تمكنت من أحاسيسي ، وشدَّتْني إليها بأسلوبها ، فكنت أسمع نصائحها وأنفِّّذها براحة تامة. غَرَسَتْ في نفسي الأمان بصوتها الرقيق والشفاف :
- ألف حمد على سلامتك . إنْ شاء الله أصبحت جيداً وقوياً يا نبيل ؟
وهَزَزْتُ رأسي بتراخٍ وذبولٍ كغصنٍ خريفي تساقطتْ أوراقه وعبثتْ به الرياح العاتية من كل جهة .. فكَّرْتُ ملياً بما حولي وبما اسمعه منها :
- أنا بخير والحمد لله طالما أنت قريبة مني .. جزاك الله كل خير . سوف أنظم لك قصيدة شعر رائعة . هل تسمحين يا آنسة حميدة ..؟
هذا أول حديث أُصرِّح به بعد فترة علاج قاسية ومريرة . آخر ما أذكره أنّني بدأت أترنَّح بلا سبب ، وقد تعاقبت عليَّ نوبات تشنُّج بين حين وآخر دون أن تعلم أمي المسكينة سبباً لحالتي ، وهي الوحيدة حولي بغياب والدي الذي يعمل في بعثة تعليميَّة خارج البلد .. كانت تفرك يداً بيدْ وتردِّد :
" لا حول ولا قوَّة إلا بالله العلي العظيم "
وتدعو الله مع مطلع كل صلاة ونهاية كل صلاة وأنا أسمع وأتألم لها ولي :
- يا إلهي أرجوك العفو والمغفرة والعافية وحسن الختام .. أرجوك يا إلهي أن تشفي نبيلاً . فلا أعرف سبباً لعلته وأنت العليم والحكيم .
بطبيعة الحال أمي بسيطة وعفوية . تمكنت من إقناعها في الدراسة خارج البيت مع زملائي وأنا في السنة الثانية الثانوي وبحجة الملل والفائدة والمناقشة ... وبدأت أتأخر يوماً بعد يوم . وأشعر بالراحة وأنا أرى .. الشلَّة .. تمرح وترمي الطرائف ويتبادلون الألغاز ، ويتحدثون عن مغامراتهم مع البنات والمقالب والكيف .. فذاك يقول :
" اشتقت للحبيبة الصغيرة البيضاء .. ناعمة كالقطن .. منعشة للقلب العليل .. "
وآخر يرد عليه :" سأبعثها إليك مجهَّزةً مع برقية مستعجلة . خذْها آخر مزاج واستمتعْ . إنه يوم العمر الذي لا ينسى . وقد لا يأتي ثانية .. "
وكأنني أمام ألغاز منها المفهوم وأكثرها غير مفهوم . في كل يوم تشمُّ أمي فمي خشية من التدخين وخوفاً علي من المشروبات . ولكنني وقعت في الشرك الذي هو أقسى وألعن ..
لقد عرضوا عليَّ حبة بيضاء , عندها آلمني رأسي وشعرت بالصداع الشديد والاضطراب النفسي .. أخذت البلعة فشعرت بعدها بانشراح ونشاط ملحوظ . ومع كل يوم كنت أشعر بحاجة إليه . وعندما استبدَّ بي دون علم أمي المسكينة التي كانت تبعث لوالدي كل أسبوع تقريراً مفصَّلاً عن أحوالي . لأنه يعتبرني الأمل والجسر الذي تعبر عليه الأسرة إلى أفق أرحب .
" نبيل بخير ودراسته منتظمة وهو الأول . وفي البيت مطيع ، ومشتاق لعودتك ، وسوف يحقق أمنياتك ويكون طبيباً ناجحاً .. "هذه التقارير تضايقني وتوخزني من أعماقي ولكن دون أن أتمكن من الخروج من البؤرة .
في المدرسة بدأت أشرد كثيراً . ضعفت مشاركاتي ومتابعتي . صرت أقصِّرُ في أداء الواجبات . علاماتي لم تكن جيدة في المذاكرات الخطية ولجأت إلى الغش أكثر من مرة . شعرت بوخز الضمير وعشت صراعاً عنيفاً ولكن ما العمل ؟
لقد سرقت خاتم أمي الغاليَ عليها وهو هدية والدي يوم خطبتها . فتلوَّعتْ وهي تبحث عنه ولا تستطيع أن ترتاب أحداً .
تغيّرت طباعي مع إخوتي الصغار ... أهملتهم ولم أتابعهم دراسياً . أخذت بالانطواء والعصبية . أُكثر من النوم في القسم، تعرضت للتوبيخ والمعاتبة ، وأخيراً استدعى المشرف التربوي والدتي .. دخل القلق إلى قلبها وارتبكت وحام حولها الشك .. ماذا عملت يا نبيل ؟ هذه بادرة جديدة .
فأجيبها متوتراً :" لا علم لي بشيء .. أموري تسير طبيعية . وأنا قلق مثلك ... "
وصلت أمي إلى المدرسة , وجدتْ ترحيباً وصدمة قاسية . فتحوا سجل الطلاب فكانت صفحتي مخجلة .. تأخر متكرر . تقصير وغياب وتسيّب .. شعرت بالخجل .. جبل ثقيل حطَّ فوق ظهري . تمنَّيتُ أن تنشقَّ الأرض وتبتلعني . وقفت أمي مذهولة . تماسكت أمام الواقع .. استدارت وأخرجت منديلاً .. نظرت إليَّ دون كلمة وكأنها تقول لي :
" ماذا أقول لوالدك . وكيف نواجهه .. ؟ يا خسارتي فيك ... ! "
في المساء أعلنت أمي موقفها بقسوة :" لا خروج من البيت بعد هذا اليوم . الدراسة في البيت وسوف أسأل عنك كل يوم " .
أنا لم أستغرب هذا الموقف بعد الذي جرى . ولم أُبْدِ ردَّة فعل . قبلته قانعاً ، ولكنني شعرت بفتور وخيبة ونعاس فأنا على موعد مع ضيف خبيث يسكن في دمي . انكففت على نفسي .. أصابتني حالات الإعياء والإقياء . وحالات من التشنُّج .
استدعت والدتي الطبيب . وكان التحليل والتشخيص وكشف العلة . وها أنا في المشفى ... حولي الممرضات والأطباء . وأمامي الورقة والقلم وديوان شعري رقيق وآلة تسجيل صغيرة ... في كل يوم يزورني أحد أساتذتي ، يمدُّني بوجبة من الثقة والاعتزاز بالنفس . كانت عينا أمي ساهرتين وقلبها ينبض مع كل حركة تبدر مني ... شعرت من جديد بعودة الرجاء والأمل .. في المساء قلت لأمي :
- أرجوك أن تسمحي عني .. أرجوك ألَّا تخبري والدي البعيد ... أريد الخروج من المشفى ما عدت بحاجة إليه ، أنا نبيل الذي تعرفينه ..، "
ارتسمتْ بسمة على وجهها ، وشعرتْ بأن شبابها قد عاد وتورَّدَ خداها . ثم استدعتْ الممرضة المشرفة لتسمع ما أقول لها :
- قم يا نبيل ، كيف ترى نفسك بعد هذه الأيام ؟ "
وبضحكة صافية وقلب متوثب رفعت يدي إلى الأعلى ووقفت على رجليَّ :
- أنا نبيل الإنسان ، أريد أن أبقى إنساناً .. فغداً سوف أعود إلى المدرسة وأتابع دروسي . وأعوِّض ما فاتني من دروس . ناوليني ورقة وقلماً سأكتب رسالة لوالدي وقصيدة لك ."
وألقيت نظرة حنونة إلى الممرضة والسرير وحديقة المشفى ووضعتها في صباح اليوم التالي على جدران المدرسة والطلاب والمدرسين معلناً مشواري الجديد . وقد كتبت حكمة اليوم على السبورة والكراس " تباً للتدخين .. تباً للسم القاتل .. تباً لرفاق السوء " ضع يدك بيدي لنحاربهم ...
* * *