تحية طيبة بعض الحبّ عنصري ولكنه حبّ المنشأ وحب الروح المتعلقة ب...
لست إلا عاشقا للخير فحسب
حلب في شعر أبنائها المعاصرين
محمود أسد
في البدء كنت، فكان البدء والحقب
فهل يُقصَّر عنك المجد والنسب.؟!
لم أجد ما أفتتحُ به الدراسة إلاّ هذا المطلع الجميل، حلبُ التاريخ وحلبُ الخلودِ التي تغنّى بها الشعراءُ، وشدا لأجلها المنشدون، ورسم معالمِها كلُّ مفتونٍ زارها وافداً أو مقيماً.
حلبُ التي تتابَعَتْ عليها المحَنُ، وحلت بها المصائبُ، لكنها بقيت ناصعة شامخة لا تهزُّها نائبة، ولا تُضْعِفُها نازلة، بل عاد أعداؤها مقهورين يجرون أذيال الخيبة ومرارة الهزيمة. حلب التي ذكر اسمها في الآثار المصرية منذُ القرن السادس عشر قبل الميلاد، والتي تضاهي أقدم مدن العالم مكانة ووجوداً واستمراراً بالحياة، حلب التي حضنت العلماء والفلاسفة والقادة والتي خصها العلماء بدراساتهم وكتبهم وأُعْجبَ بها كلُّ من استنشق هواءها ورمى نظرة لمعالمها.
كتب عنها ابنُ شدّادٍ والطبَّاخُ وابنُ الشحنة وابن العديم والأسدي وغيرهم. وأشادَ بها المتنبي والمعرَّيُّ والبحتريُّ وابنُ العفيفِ والصنوبريّ... الذي قال فيها:
أنا أحمي حَلَباً داراً
أيُّ حسنٍ ما حوته
حلبٌ أكرم مأوى
وأحمي مَنْ حَماها
حلبٌ أو ما حواها
وكريم مَنْ أواها
في هذه الصفحات القليلة نتوقف مع أبناء حلب الذين صاغوا أحلى القصائد في مدينتهم، وسكبوا أعذب المعاني وأرق العبارات.
ومن الطبيعي أن يتواصل المرء مع الأرض التي يعيش عليها ويكحّل عينيه بمرآها. فيعشق نسيمها ويتبارك بترابها، ويحج لمعالمها. ويراها من أجمل البلاد. وهذا التعلق بالمدينة أمر وارد وحق، ولكنه يأتي من أبنائها الذين عاشوا فيها وألِفوها.
تتفرد حلب مع بعض المدن كدمشق والقاهرة وبغداد بكثرة المعجبين والواصفين من غير أبنائها وتكاد تتميّز عنهم. فهناك الكثير من الشعراء المعاصرين الذين عبّروا عن مشاعرهم تجاه هذه المدينة.. ويخيل لي بل أجزم أن لهذه المدينة سحراً و جاذبية تشدان الزائر والمحب إليها.
فقديماً جذبت القوافل التجارية، وما زالت العاصمة الاقتصادية. وتتفرد بمكانتها الاجتماعية والأثرية والجغرافية. وهذه المكانة ما زالت موجودة ومرهونة بعزيمة أبنائها الذين تفوقوا في مجالات لم يستطع أحد اللحاق بهم كالغناء والطرب والبناء والتجارة.
وهذه مفتاح السحر والجاذبية والحديث عن حلب لا يعني التعصب للمدينة، فما حلب إلا حبّة ودرّة ثمينة من درر العروبة التي نعتز بها..
هذه الدراسة محاولة وإطلالة سريعة في عالمها ومعالمها. واستعنت بالكثير من النصوص التي جمعتها من الشعراء والدواوين والصحف والدوريات.
وللمرحوم الشاعر عبد الله يوركي حلاق فضلٌ في الكثير مما قيل على صفحات مجلة الضاد التي نَشرتْ لكثير من الأدباء العرب الذين زاروا حلب وشاركوا في مهرجاناتها، إن الموضوعات التي عبرت عنها القصائد تكاد تكون متقاربة وموحدة. وهذا طبيعي ومتوقع، ولكنني وجدت قصائد خصّت حلب بجزئيّاتها، ولامستها عن قرب كقصيدة ((إلى حبيبتي حلب مع الاعتذار)) للشاعر عبد القادر مايو، وقصيدة ((قدود جديدة)) للشاعر مصطفى أحمد النجار، وقصيدة الشاعرة الطبيبة لميس حجه ((القصر المضاع)) وقد أكثر الشعراء من التعبير عن حبهم وتعلقهم بها. فذكروا محاسنها وجمالها وطباع أهلها. فالشاعر عبد الله يوركي حلاق يخص حلب في كثير من قصائده. وهذه القصائد تشكل ديواناً فيقول في قصيدة ((حلب)) من ديوان / خيوط
الغمام /:
جثم الجلال على رباها
والحسن صافَحَ أهلها
قد شعشعت فيها الفنو
فيها الكرامة رغم لؤ
أبناؤها ملؤوا البلا
والتّبْرُ لألأ في ثراها
وبثوبه الزاهي كساها
ن وموكب العلم اصطفاها
مِ الدهر لم تُفْصَم عراها
د كأنجم ملأت سماها
وللباحث الشاعر محمد قجة قصيدة جميلة ((قبلة على ثغر الشهباء)) فلم يقتصر حبه لحلب بحثاً ودراسة وكشفاً لبيت المتنبي، بل سكبه شعراً وعاطفة:
أهواك يا حلب الشهباء فاقتربي
جذلان أغْزِلُ من عينيكِ أغنيةً
من مقلتيكِ صباباتي ألملمها
وعانقيني لأرقى فيكِ للشهبِ
وأسحب المِرْوَدَ الأبهى على الهدبِ
ومن لماكِ رحيق الطّلّ والعنبِ
هذه إحدى حالات العشق والهيام. ولكنها تكشف عم في أعماق عاشقها من وله وحب. وللشاعر محمد كمال أكثر من قصيدة رقيقة تشفّ عن حب الشاعر لحلب، ففي حفل تكريم المبدعين لعام ألفٍ وتسعمائة وتسعة وتسعين ألقى قصيدة ((الشهباء الفاتنة)) وفيها يقرُّ بفضل حلب عليه وعلى المبدعين:
ليس مني بل منكِ أنتِ العطاء
أنتِ ألهمتني. فبوح يراعي
وتنادينني، فيورق غصنٌ
كيف أخشى من الزمان افتقاراً
أنت سرّ الإبداع يا شهباء
ما يشاء الإلهام لا ما أشاء
في فؤادي، وتستثار دماء
وانتسابي إلى ثراكِ ثراءُ
إننا أمام ينابيع حبًّ لا تنضب، فحلب العاشقة والمعشوقة، وحلب الموئل والإلهام. ولم يخفِ الشاعر مصطفى أحمد النجار حبه وتعلقه فأخذ يناديها نداء طفل عاشق في قصيدة ((الياذة الحب)) المنشورة في مجلة اليقظة الحلبية عام ستة وستين وتسعمائة وألف، فيراها الملعب والمنبع والحبيبة والملهمة:
شهباء يا عرس الشباب الناضر
يا ملعب الصبح ونجمات المسا
شهباء قيثاري، على أوتارها
يا بسمة الفجر ومهوى الطائر
كنتِ وما زلتِ ربيع الشاعر
قلبي يبوح الشعر بوجه سامر
هذا الحب والإعجاب والإقرار بفضلها لا تخلو قصيدة منه بل هناك تنافس بريء في كشف البوح ونوازع النفس.
مكانة حلب:
وتوقف الشعراء عند مكانة هذه المدينة العريقة، فخاطبوها أثراً عظيماً، واقتربوا منها تاريخاً يعتزون به، فالشاعر أحمد علي الهويس في قصيدته ((عروس الشمال)) يتغنى بهذه المكانة ودورها الحضاري التي خصها
الله به:
كل القوافي إلى عينيك قد كتبتْ
شمسُ الحضارة من عينيكِ طالعةٌ
أمُّ الحضارات والأحقاب شاهدةٌ
شهباء يا قلعة المجد شامخة
لكنها أطرقت، قد زانها خفرُ
تزهو على الكون في عزًّ وتفتخر
قد صاغها قدرٌ في وجهه قدر
وروضة مِنْ رياض الخلد تنحدر
ويقول الشاعر عبد الله يوركي حلاق في قصيدة ((منبت الأبطال)) مشيداً بإبائها ومكانتها في احتفال استقبال ( كبوتشي ):
تلفَّتتْ ترقب الأحقاب، كم حقب
وعفّرتْ برغام الذل مَنْ طمعوا
مرت بها، وانطوت في لُجَّها أمم
بها، وصاحت بهم كي تسلموا انهزموا
وقلت في حبها وذكر مكانتها وحسنها:
شهباءُ عِشْقي فارفعِ العتبا
لم يعرف التاريخ مولده
ما هزَّها الإعصارُ في حَلَكٍ
هذا الهوى في سِفْرِها كُتِبا
سأل الزمانَ فقال: في حَلَبا
لم تلوِ عنقا، لم تكنْ ذنبا
والشاعر هاشم عبد القادر ضاي.. من الشعراء المطبوعين الذين يمارسون طقوس الحبَّ والشعر بعيداً عن التنظير. بل يقترب منه بحواسهِ وفطرته يقول في حلب الذي يحبُّ:
تَشْتاقها النفسُ ما شَطَّتْ موارِدُها
قد صانها الله مِنْ أيدٍ تُدَنِّسها
وكمْ لها في حنايا الصدرِ أهواءُ
أو كلِّ باغٍ لهُ بالنفسِ شحْناءُ
الحنين إلى حلب:
وهذا الحب الجميل العميق يدفع أبناءها لمناجاتها عن بعدٍ، فاشتاقوا إليها وهم بعيدون عنها جسداً ولكنهم متعلقون بها روحاً.
وما أعذب الشعر نابعاً عن حبّ ومعاناةٍ! فسكب الشعراء حنينهم جدولاً رقراقاً، وصاغوا رسائل حبًّ لا تضنُّ بالتعبير والوجد والوجع. فالشاعر عبد الله يوركي حلاق لم يجد في كندا وفنزويلا والبلاد التي زارها ما يبعده عن حبه الأول والأوحد:
إنّي حَنَنْتُ إلى الشهباءِ يا كندا
ما كنتُ أحسبُ أنَّ البعد عن وطني
أبيتُ في المهجر النّائي على أملٍ
متى أراها..؟ فمنَّي الصَّبْرُ قد نفدا
و عن صِحابي يُذيب الروح والجسدا
أنّي سأشْرَبُ مِنْ ماءِ الفراتِ غدا
ماذا يقول الإنسان عن هذا الحب وهذه النجوى، إنه بوحُ العاشق المتيم، وبوح الطفل ينادي ثدي أمه، فلا عجب وهو القائل في مكان آخر:
ما غُبْتُ عنها ساعةً
إلا حنَنْتُ إلى لقاها
وهل هناك أعذب من صوت الوطن وأجمل من صورته، فالشاعر محمد محمود الحسين في قصيدته
((إليكِ يا شهباء)) وقد نشرت في صحيفة الجماهير:
صحَوتُ من حلم أغفى على هدبي
رأيت نفسي في الشهباء، والهفي
استغفر الله من عشق يُذوَّبني
مالي أعلّلُ قلباً بات تحرقُهُ
ردَّي عليَّ أيا شهباءُ يا بلدي
أحلى من الفجر في أثوابه القشبِ
والأهل حولي، والأحباب في طربِ
حتى العبادة، لا يا موطن الأدبِ
شوقاً إليك تباريحً من اللَّهبِ
ما أروع الردَّ في شيءٍ من العتبِ
إنها بوح مُتصوَّفٍ. وحالة من الذوبان الخالص الذي لا يشعر به إلاّ ملتاع وعاشق ولهان استبدَّ به العشق، وملك إرادته وخفق فؤاده، وبالمقابل يرسل الشاعر صالح سروجي رسالته الشعرية ((إلى أهلي بحلب)) وهي منشورة في صحيفة الجماهير، ولكنها رسالة نجوى وهمسة عاشق:
تلك الرياض بأحلامي أناجيها
حسب الفراق نزوحٌ عن ربا حلبٍ
فيها الجمال وفيها الحبُّ يسكنها
وهمْسةَ الحبَّ تسقيني وأسقيها
ربعِ الطفولة كم حبًّ لنا فيها
فيها الحياة ترانيم نغنيها
فأنت أمام قصائد لا تحتاج إلاّ أن تلامسها بشغاف قلبك وتحملها على أهدابك لرقتها وصدقها. ومن الجزائر يبعث الشاعر أحمد دوغان برقيته إلى مدينة حلب وبعنوان ((آتٍ إليكِ)) وقد أهداها إلى مدينة حلب، وفي هذه الأبيات يعبر عن حنينه المتوقد والجارف، وعن ذكرياته المتأججة في مرابعها، حيث الدراسة والأحباب والعيد، وقد جاء الشاعر من الجزائر مُحمّلاً بكثير من الأدب الجزائري الذي درسه، فكان رسولاً لا يختلف عن التجّار الحلبيين الذين يطوفون البلاد، ويأتون بالجديد من الأفكار والبضائع:
من يا ضياءَ العينِ مَنْ أهْواهُ
شطَّ المزارُ، ودمدمتْ ريحُ النّوى
والعيدُ مقتربٌ وشهباءُ الهوى
شهباءُ تعرف أنّني صبٌّ، ولي
شهباءُ يا كلَّ المنى في غربتي
وهواجسي حرَّى إلى لقياهُ
والقلبُ ينبضُ بالهوى يحياهُ
والصّحْبُ بدرٌ لا أرى إلاّهُ
نغمٌ أُجيدُ العزْفَ لا أنساهُ
مدَّي يديكِ، ومزَّقي أوَّاهُ
أما الشاعر محمود محمد كلزي الذي ابتعد عن حلب لسنوات عاد ‘ليها، ولكن بعد شوق ومكابدة وذكريات. في قصيدته ((الدخول إلى حلب من باب الفرج)) المنشورة في ديوانه ((قصائد عارية)). في هذه القصيدة تتضخَّم ذاتُ الشاعر المفعمةُ بالحبَّ المتأجَّج، ولكنَّها ذاتٌ مجبولةٌ بالآه والألم.
/ إِفتحي بابك الآن.. لا توصديه بوجهي/ فوجهي خرائط من مدن الحزنِ والإِغترابْ/.. ثم يقول:/ إنَّني عائدٌ مِنْ ضياعي/ ومِنْ عربات التشرُّدِ/ أحمل صبَّارةً في جبيني/ وشاراتِ قافلتي وسقوطي.../ ويتابع: / إنني عاشق من تخوم الصَّبابَةِ/ جئْتُكِ أَسْفَحُ عطري على قدميكِ/ حاملاً من ترابكِ نَخْبي../ وتاريخَ مَنْ سطَّروا سِفْرَ الخلودِ/ وأشربُ من وجهكِ البدويَّ/ وأسكر بالفُسْتُقِ الحلبيَّ/ ومن ناظريك الرُّضابْ/.. ويَخْتمها بهذا المقطع الجميل/ ألا فارسٌ مِنْ أميَّةَ يَمْسَحُ جرحي؟/ ألا فارسٌ من بني حمدان/ يكشُّ الذبابَ/ ويَفْتَحُ باب الفرجْ/ ويصدُّ الذئابْ/..
إنها قصيدة تحمِلُ في ثنايا حروفِها ألماً عاماً وقضيَّةً مصيريَّةً. فالشاعر انتقل بل مَزَجَ الخاصَّ بالعامِ. وصاغَهُ صياغةً ترسم الكثيرَ من البعدِ الجغرافي والبعدِ التاريخي الذي يَحْضُرُ ليقول أشياء...
حلب موئل الإبداع والمبدعين:
هذا الحبُّ مبعثهُ عميق، فتراه في كل خفقة قلب وفي كل مناسبة. والمحبُّ لمن يحب متابع وعاشق كلّ خطوة من خطواته وكل كلمة من كلماته، فلا عجب أن تكون القصائد حافلة بكل ما يخص حلب من مكرمات وإبداع وآثار وطباع.. فالشاعر محمد كمال في قصيدة ((تحية)) وهي مهداة إلى روح الأستاذ محمد فؤاد عينتابي في حفل تأبينه يبرز دور أبنائها في بناء مجدها التليد:
شهباء قد أصفى بنوكِ لكِ الهوى
مرّت بهم سودُ الخطوبِ فما حَنَتْ
شهباءُ ثوبكِ للخلود، ولم تكنْ
وبنوا لكِ المجدَ التّليدَ مُؤثَّلا
هامَ الرجال ولا استباحتْ منزلا
تبلي ثيابَ المكرمات يدُ البِلى
وعندما تُذكَرُ مدينة حلب تحضر الكثيرُ من المعالم والسمات التي تشتهر بها وتقترن اقتراناً حميماً بها، فهي مدينة الطرب والمبدعين النابهين المهلمين، فيقول الشاعر عبد الله يوركي حلاق:
حلب مقرُّ النَّابهيـ
أبناؤها ملؤوا البلا
إنَّ الملوكَ الصيد تحـ
ـن يشِعُّ في الدنيا سناها
دَ كأنجم ملأت سماها
ـت بروجها خفضوا الجباها
ولذلك نرى الشعراء استحضروا أعلامها الذين تركوا بصمات وخلّدوها أحسن تخليد، فأبو الطيّب المتنبي، وأبو فراس، وسيف الدولة، وغيرهم كَثُرَ ذكرُهُمْ وتعظيم دورهم ومكانتهم، فالشاعر أحمد ديبة في قصيدة ((بردة الخيلاء)) يقف بخشوع أمام جلال هذه المدينة وأعلامها:
خلّها عنك بردة الخيلاءِ
بلدٌ عطَّرَ الدهورَ بنوهُ
لم تزالي شهباءُ في وترِ الأمْـ
من قوافيها سيف حمدانَ يتلو
وإليها ابو فراس يُغنَّي
وأبو الطيَّبِ العظيمُ سوارٌ
سئل المجد عن منابته الخُضْـ
واخلع النعلَ أنتَ في الشهباءِ
وكسَوْها مآزرا من ضياءِ
ـجادِ أحلى قصيدة عصماءِ
آية النصرِ في السيوف الظّماءِ
كلَّ لحنٍ مجرَّحِ الكبرياءِ
في يديها يُعَزُّ في النظراءِ
ـرِ فاومى إلى ثرى الشهباءِ
وشخصية سيف الدولة تتوغل مع شخصية المتنبي والقلعة في ثنايا أغلب القصائد وهي مجال لدراسات مستقلة ودقيقة تحيط بكلّ جوانبها، فالشاعر فواز حجو استحضر شخصية سيف الدولة وبشكل رؤيويّ جميل لافت في قصيدة ((في رحاب سيف الدولة)) المنشورة في مجلة الثقافة الدمشقية فمنها يقول:
فَسُلّي السيف يا حلب المواضي
ونادي سيف دولتكِ المرجّى
فقد هانت على الأعراب حتى
فحدُّ السيف قد ملَّ القرابا
ليُشْرعَ حول قلعتكِ الحرابا
أحالوا صرحَ سؤدُدِها خرابا
ووجد الشاعر محمد قجة في بني حمدان مصدر الإعجاب والإكبار لما لهم من دورٍ كبير في تاريخ حلب وفي ردَّهم أطماع الروم والبيزنطيين:
هنا تهادى بنو حمدان في عُجُبٍ
وسيف دولتهم ليْث الشَّرى حنقٌ
ظلَّت به ((حلبٌ)) نجماً يشع سنى
فاقبل النصر في كفيه مزدهياً
وطوَّقتهمْ عيونُ الدَّهرِ في عَجَبِ
يذودُ كيد الأعادي عن حمى العربِ
ومعقلاً لرجال السيف والأدبِ
وأورق الفكر في ساداته النُّجُبِ
إنها إشارة إلى تلك المكانة لبلاط سيف الدولة وما قدم للشعر العربي من مبدعين، وأعظمهم شهرة أبو الطيّب المتنبي فيقول:
وفوقهُمْ نسرهم طرّاً وسيّدهُم
هذا عظيمكِ يا شهباءُ ما عرفتْ
أبو المحسَّدِ في الشعر البليغ نبي
لهُ العصور رؤى في البعد والقربِ
معالم حلب وأعماقها:
ولمعالمها البارزة حصة الأسد في كثير من القصائد، وهذه المعالم إحدى مكوَّنات المجتمع الحلبيّ، فإذا ذكرتْ حلبُ حضرت إلى الأذهان قلعتها وحضر التاريخ باعتزاز، فما زالت لها مكانة رفيعة وعظيمة، هذه المكانة أثارت قريحة الشعراء وكانت منهلاً ومبعث إلهام الفنانين والروائيين، هذه القلعة التي قال فيها ابن جبير حين زار حلب:
((لها قلعة شهيرة الامتناع، بائنة الارتفاع، معدومة الشبه والنظير في القلاع، تنـزَّهتْ حصانةً أن ترامَ أو تستطاع، قاعدة كبيرة، ومائدة من الأرض مستديرة، مفتوحة الأرجاء، موضوعة على نسبة اعتدال واستواء...))
هذه القلعة العنيدة توقف أمام بابها وجال في داخلها الشعراء، فالأستاذ خليل الهنداوي رحمه الله وهو مقلٌّ في الشعر وبمناسبة العيد الخمسين لجمعية العاديات في الشهباء وقد جرى الحفل في قاعة العرش لامسَ القلعة عن قربٍ وبحساسيّة تاريخية شفّافة:
أغار على منكبيك الزمان
وكرّت عصورٌ، ومرّتْ دهورٌ
وكم فاتحٍ دقَّ أبوابها
أراد الدَّمُسْتُقُ إذْلالها
فوارسُ حمدانَ في ساحها
بحسبكِ أنَّكِ رمزُ الإباءِ
فلّلهِ ما حمل المنكبانْ
وأنتِ مكانكِ هذا المكانْ
فما دُميتْ إلاّ اليدانْ
فعزَّ عليه اقتحام المكانْ
وخيلهمُ مطْلِقاتُ العنانْ
وأنَّكِ رمزٌ تحدَّى الزمانْ
وللشاعر المرحوم عبد الله يوركي حلاق أكثر من قصيدة يجول فيها في القلعة إعجاباً وإكباراً فمِمَّا جاء في شعره:
شاخ الزمنُ وقلعةُ
ربضَتْ على التلّ الأشـ
كم قائدٍ قد عاد عنها
والدهر نازلها فما
الشهباء ظلَّتْ في صباها
ـمَّ فروّعتْ أقوى عِداها
خائباً لمَّا بلاها
ذلَّتْ ولا وهنتْ قِواها
فاللافت أن القلعة كانت وما زالت مبعث اعتزاز وتمسّك بالثوابت، وللشاعر محمد الزينو السلوم قصيدة بعنوان ((قلعة حلب)) وقد وردت في ديوان ( ظلال الروح ) وفيها ينهج نهج معلقة عمرو بن كلثوم، وهي من القصائد التي خصت القلعة بالذكر وحفلت بالعبر والاعتبار والأمل.
وقفنا عند بابك فانظرينا
ولولا الكبرياءُ بكلّ روحٍ
وقفنا والوقوف له معانٍ
لصمتكِ ألف معنى في لقانا
نُجسّدُ في معانيكِ اليقينا
ركعنا في ظلالِكِ ساجدينا
لنسألكِ الحنين وتسألينا
وهذا الصمتُ يختصر السنينا
وتتوالى الذكريات لتحرك نوازع الشوق وتثير الأحزان وتزكي الحنين:
على زنديكِ نغفو باضطرادٍ
نزوركِ كلّما فِضْنا حنينا
ومن عينيكِ نستوحي الحنينا
إذا ما الشمس عادت أخبرينا
وفي مجموعة الشاعر مصطفى أحمد النجار ((من سرق القمر)) قصيدة بعنوان ((البراءة تسكن قلعة حلب)) والقصيدة مستوحاة من سؤال، يقول الشاعر في مقدمتها:
((سألني أحد تلاميذي الذين رافقتهم إلى قلعة حلب: إذا كانت القلعة قديمة جداً فكيف يحتفظ الدليل بمفتاح الباب إلى الآن؟..)) والقصيدة غنيّة بمضمونها وراقية بفنيتها، وجاءت على نظام التفعيلة والقصائد التي توقّفت وتناولت مدينة حلب على نظام التفعيلة قليلة، يقول الشاعر:
ويسألُ طفلٌ تفكَّرْ:
ومن أين مفتاح باب طويل
عريض قديمٍ قديمْ..؟
ويضحك قلبي
ويغمر بالحب هذي العيون الصغيرة
أكاد أطيرُ كما الطيرُ جاوز سيف المنون..
وحلَّقَ فوق المنارة..
كأنّي أراه يهزُّ حسام القتال – السلام
ويدرُجُ فوق سنامِ الوجود
وفي ناصعِ الحبرِ يُدْعى المناضلُ
بابا – المقاتل
يدقُّ ويفتح بالسيف باباً وباباً
وبالحرف يفتحُ بابا الحياةْ
إلى أن يقول:
صغيري.. صغاري
تلاميذ هذا الزمان العصيَّ العجيبِ
أودُّ جواب السؤالْ
وحالاً أريدُ التفكُّرَ في مُقْفِلاتِ الحصون..
فالشاعر قدم رؤية ولم يقدم وصفاً بل أشار إشارات ذات بعدٍ عميق. إنها دعوة لربط الماضي بالحاضر والمستقبل. ودعوة للتمسكِ بالجذور..
ولأبناء حلب في الغناء والطرب والرقص جولات وجولات، ولأبنائها مكانة يصعب على الآخرين تجاوزها، وكم من قصة تحكي عن تولُّعِ وتذوق أبناء حلب للفنّ الأصيل، فالشاعر محمد كمال يصوّر لياليها الجميلة:
لك زهوٌ يفيض في كلّ آن
ولياليكِ.. ما لياليكِ إلاَّ
والمواويل والقدود وشدْوٌ
كيف أخشى من الزّمان افتقاراً
فصباح مُنوَّرٌ ومساءُ
رجع لحنٍ وآهةٌ وغناءُ
واهتزاز موقَّعٌ وانتشاءُ
وانتسابي إلى ثراك ثراءُ
وهناك من تذمّرَ من واقع الغناء الذي ما عاد يُطربُ ولا يبعث الرضا بل يثير القلق والانزعاج، فالشاعر عبد القادر مايو في قصيدته ((حبيبتي حلب مع الاعتذار)) والتي لم يترك فيها شاردة أو واردة عن حلب إلاّ وذكرها وتوقّف عندها فيقول:
أُغرمْتُ فيكِ فكفّي عن مساءلتي
أمَّ اللَّيالي..! عداكِ السُّهدُ ساهرةً
خدُّ المحبَّ إذا فاض الهوى تربُ
مع المغنّين. ما غنَّوا، وما نعبوا
وفي هذا المنحى من إشادة في فنها وشكوى من واقع حاله قلت:
شهد الجميع لفنّها علنا
إنّ الفنون لأجلها بُعثتْ
دربُ النبوغ مصاعب، فإذا
أمُّ القدود وجسر مَنْ عبروا
إنَّ النجاح مسالك صعبتْ
أهلُ السّماع لمن أتى الطّربا
منها الثُّريّا ترتجي الحسبا
شِئْتَ النجاح فلا تقلْ كذبا
فالحبُّ مِنْ أحداقها انسكبا
لم تستقمْ إلاّ لمنْ تعبا
وللشاعر مصطفى أحمد النجار قصيدة استوحى موضوعها من الطرب التي اشتهرت به حلب بعنوان
((قدود جديدة)) وهي من شعر التفعيلة ومؤلفة من مقاطع تحمل عدّة عناون ((الزيارة)) و ((قويق)) و
((القلعة)) وفي القصيدة بوحٌ عميق وملامسة شفّافة وحزينة، ودفقة اعتزاز:
((يا حبيباً زرْتُ يوماً أيكهُ
طائر الشوقِ يُغنَّي ألمي))
إن تزرْني في مدار العام مرّة
في مدار العمر مرَّة
يسكن الطيرُ حنايايَ ويطربْ
يتمطّى في كياني الحبُّ عن أشواق زهرة.
((القراصية منين منين – يلّي سقوها بدمع العين))
أهنا باب الحديد
يستلين
تحت وهْجٍ من حنين
أم هنا باب المقام
يستفيق الشجر الغافي قليلاً
فوق طفل سوف يمضي في الزحام
أم هنا باب الغرام
أهنا باب الفرج
أتهادى تحت باب النصر جندياً خرج
لفلسطين وصومال المجاعة.
ونبقى مع حلب وأحيائها وما أوحتْ للشعراء واستدْعتْ من ذكريات وآلام ومواقف، فالشاعر عبد الله يوركي حلاق في قصيدة ((عيد الفداء)) التي ألقاها بمناسبة الذكرى العاشرة لتأسيس مجلة ((الفداء)) في مدينة كراكس بفنزويلا وفيها نغمة حزن وبوح شجن دفين لِمَا آل إليه أمرُ حلب وما جرى فيها من متغيرات عمرانيّة وطبيعيّة ولكنّها حافظتْ على كرامتها:
مسارح الأنس قد أودى الزمان بها
بساطة غيّر التجديد روعتها
حتى ((الصليبة)) لم تحفظ مهابتها
أين الرياض التي كانت تُزيَّنُها
وأين نهرٌ وأشجار تظلّلُهُ
لولا الفراتُ ومن أجراه في حلبٍ
تغيّرت حلبٌ إلاّ كرامتها
وظلّ في حلبٍ مِنْ بعضها طللُ
وكلُّ حيًّ بدا من وجهه بدلُ
لا تسألنّ إذنْ هل بُدَّلَ التّللُ..؟
وألفُ سهلٍ وسهلٍ كلُّها سُبُلُ
النهرُ غاض وقلَّ السَّمنُ والعسلُ
جفَّ النباتُ وجاع الناس أو رحلوا
فإنّها بالنجوم الزّهرِ تتّصِلُ
ونرى الشاعر عبد القادر مايو في قصيدته ((إلى حبيبتي حلب مع الاعتذار)) يذكر الكثير من معالم حلب، ويكثر من ذكر أسماء الأحياء الشعبيّة التي عاش فيها وتنقّل، ولكنها جاءت للتوثيق أكثر منها للفنَّ والتوظيف. لأن القصيدة أقرب إلى التوثيق وهنا تكمن أهميّتها:
ولابن شحنته ملك ومملكة
يستعذب الماء من ((حيلان)) أقنية
يريك حبّك من أحبته قمراً
من((قسطل الحرمي))من((بانقوسا)) ومن
وكلُّ حيًّ من الأحياء منعرج
لم يرق فيه ولا ((حيُّ السبيل)) ولا
فدرّه من عيون الدُّر مُنْتخَبُ
ولا الفرات الذي من سدَّه شربوا
الحبُّ أعمى ومرسال الهوى دربُ
((أقيول)) كم هزَّ عطفي الصفوة النُّخَب
إلى العلا ومعاريج العُلى رتبُ
أسرابُه بالصبايا العيدِ تنسربُ
هذه إحدى حالات العشق والشوق إلى الجذور، فهناك استدعاء لأيام خلت ولأحاديث مرّت ولكنها تبقى كاشفة أعماق حلب التي أحبّها الشاعر ونحبّها. يبدو هذا أيضاً وبشكل جميل في قصيدة الشاعر محمد مضر سخيطة ((شهباء.. يا أرج التاريخ)) وقد نشرت في صحيفة الجماهير:
قصَّي علينا حديث المجد.. والأدبِ
أيام عزَّكِ يا شهباء.. هل شحُبتْ
لم يبق حولك من أسوار.. وأسفا
صوني البقيَّة.. واستعصي على زمنٍ
شهباء يا عبق التّاريخ والطرّبِ
وصار جوُّك مأزوماً كمغتربِ
إلاّ الأزقّة.. والأسواق.. واحلب
ففي رحابكِ آفاقٌ بلا حُجُبِ
هذه صيحة ألم ممزوجة باللّوعة. فيها تشخيص وقلق وإيمان بقدرة حلب على تجاوز أزماتها ومجابهة أحداث الزمن وهذا عهدها عبر التاريخ.. ويبقى الشعراء والمبدعون على التحام مع حلب، ومع عبق وجوَّ وبيئة حلب. فنهر قويق له قصّة وتاريخ، وحاله يترك غصّة ويدعو للحيرة فيقول الشاعر عبد القادر مايو مخاطباً حلب:
عزيزتي في ((قويق)) ما يُحيَّرني
كيف الضفادع غابت عن مَناقِعِهِ
وهو السخيّ الشحيح الحافل النّضبُ
وما يزال لها في مسمعي صخبُ
ولكنّ الشاعر مصطفى أحمد النجار في قصيدته ((قويق)) يستنطق النهر وما آل إليه أمره. وذلك على لسان بلبلٍ حزين اعتاد ألفته ولكنه في ختام القصيدة أعاد البسمة لنا ولقويق، وبعثه حيّاً من جديد:
مرَّ يوماً بلبلٌ
من نهر شوقٍ ميّتٍ يُدعى ((قويق))
ثمّ ناسٌ غلب الوجد عليهم فرثوه
ثمّ أنفاسٌ حرار تتلظّى من لياليه الخوالي
ثم صفصافٌ تلوّى فوق أشلاء الدوالي
ودنا منه تدلّى
حول ميْتٍ فبكاه
أيُّها النّهرُ خديني وصديق الذكريات
فمتى تبعث في الموت الحياة..؟
أيها النهر أجبني
أيها النّهر الذي أضحى نُهَيْراً من رفات
وبقايا زفرات
فدنا منه كثيراً.. وتمزَّقْ
فجرى النَّهرُ ترقرق
برعاف الياسمين
وأنين العاشقين
بدموع ودماء وحنين.
في هذه القصيدة معالجة مغايرة ورؤية مختلفة وبعث لهذا النهر وكأن الشاعر يقول وعلى لسان البلبل وقد يكون الشاعر نفسه، بالحب والنقاء والودَّ نقدر على تجاوز المحن وتطهير الآثام وعودة الأمور إلى مجراها النقيّ.
وترقْرَقَ الحزن وسال من نوافذ القلب والأزقة في قصيدة ((القصر المضاع)) للطبيبة الشاعرة لميس حجة، فالحروف تنزف وهي ترسم جزئيّات الأمكنة والمعالم في حلب، في إيقاع منسجم ومتناغم مع الحالة النفسية، والقصيدة طويلة وتشكَّلُ وحدة عضوية وجاء فيها:
من بيت عزلتي التي قصدتها
سعيت في دروبها
رأيت فيما قد حسبت بابها الشرقيَّ والأصيلةْ
ورحلة الدروب والحواري
ولحمة العمارة الجميلةْ
كأنّما أدور في خميلة
من غابة لغابة
فلا أضلُّ أو أضيع
أو يقرّ لي قرارْ
رأيتني فجاءة
أمام بيت جدّي في الجوارْ
لكنني في وقفتي
من وحشتي
بَدَوْتُ ثمّ برهةً كأنَّني دخيلةْ.
في ساحة الديار ما جلستْ
من مشتل الأزهار ما قطفتْ
هرير قطّها العجوز ما يريم
قرب الجبَّ ما سمعتْ
ألاحظ النافورة الصغيرةْ
في خَرَّها البطيءْ
وباب قبو المونة الوطيءْ
ومطلع الأدراج
وزخرف الشباك والأقواس
وما امَّحى من وردها والآس..
إلى أن تختم القصيدة بهذه الأسئلة:
فما عرفت مطلقاً
أأين كان..؟ كيف كانْ
وأين سار أو اراح مدّهُ
ومن ملا بلاطه
ومن ترى الغريب دقّ بابه
ومن ترى المنكوب والمنهوب
من هو المُدينُ والمُدانْ
طوَّفْتُ ناظري
في مطلق المدينة
مسحت دمعة مِنْ مقلتي
ودمعة من خدَّ جدَّتي
وكنت قد ظننتُ أنّني دفنتها
من ألف عام
وأظلم المكان.
لقد تناهى إحساس الشاعرة وتماهت مع الحالة إلى الذروة، ساعدتها لغة سهلة وإحساس مرهف وذائقة في التصوير. ولم يتيسَّر لي سوى اسم هذه الشاعرة في دراستي.
وللفستق الحلبي مكانة وموسم في حلب، ويدخل في صنع الكثير من الحلوى والأطعمة، وقد ذكره الشعراء في قصائدهم ومَرَّ ذكره عابراً في قصيدة محمود محمد كلزي ((الدخول إلى حلب من باب الفرج)) وقد ذكره الشاعر عبد الله يوركي حلاق في أكثر من قصيدة وأشار إلى تفتُّحه في الليالي المقمرة فيقول:
فيها الجنان الزاهرات
والفستق الغيران يحكي
يخال فوق غصونه
لمّا أطلّ البدرُ شقّتْ
ورنت إلى بدر الدُّجى
وتبادلا الحبَّ البريءَ
وتعانقا فكأنما
تمدُّ للعاني جناها
في جوانبها الشفاها
كعرائس لبست حُلاها
كلُّ فستقة رِداها
فأعارها البدرُ انتباها
ولستُ أدري ما عراها
أمٌّ يعانقها فتاها
هذه القصيدة لوحة متكاملة تتناغم فيها الألوان والحركة والصوت والهمْس والخيال الجميل المعبّر عن حقيقة تفتح حبّة الفستق الحلبي وتشقُّقه ويقول الشاعر ذاته في قصيدة ثانية:
كرومنا لم تزل تزهو بنضرتها
وفستقٌ تشبه المرجان حبته
مزقزق مثلَ عصفور يُرنَّحُهُ
على هضاب حباها الحسن ما تسل
يغازل البدرَ حين البدرُ يكتمل
موّالٌ شادٍ وحقل ساده الجذلُ
والشاعر عادل الغضبان الذي ولد في حلب وانتقل إلى مصر وأقام فيها له قصيدة في وصف الفستق الحلبي جاء فيها:
الفستق الغيران أطبق جفنه
يرنو إلى الصيف الجميل فإنّه
يا حسنه متلألئاً يا لحنه
غيظاً ولاح بوجنة صفراء
يزدان فيه بقرمزيّ رداء
متشققاً في الليلة القمراء
في هذه القصائد تبرز مقدرة الشعراء على الوصف والتخييل والتقاط الجزئيات التي لا تخطر على بالٍ ولا يُلْتَفَتُ إليها..
وحلب الأطعمة من كبب ومحاشٍ و... لم أعثر عليها بما يغني وقد ذكرها الشاعر عبد القادر مايو في قصيدته المذكورة آنفاً.
وقد ذكرتُ المأكولات الحلبية في قصيدة ((حلب في القلب)) المنشورة في مجلة الضاد وفي ديوان قطاف المواسم:
لا تعجبوا من حبَّها، فلها
أفراحها أمثولة، سرقت
إكرامهم لضيوفهم حسنٌ
عرَّج على ذكر الكباب، فما
تحظى بإكبار، فإن ذكرت
قلبٌ يغازلُ روح من وصبا
نهر الدموع، ورقّصتْ نجبا
لا يقبلون العذر والسّببا
أشهى الشواءَ. فمن يذقْ رغبا
أمُّ المحاشي فاذكر الكببا
حلب والانتماء العربي:
وأين تقع حلب في الوجدان العربي..؟ وما هو انتماؤها..؟ هذا ما أجاب عنه أغلب الشعراء، لم يذكروا حلب لكونها مدينة مستقلة، بل نظموها في عقد العروبة روحاً وانتماءً ولغة.. فنراهم يشيدون بعروبتها وانتمائها العربي، وهذا أمر لا يحتاج لتفكير ومناقشة، فالشاعر عبد الله يوركي حلاق يقول:
من يَعْرب أهلي ومِنْ حلبٍ معاً
حلبٌ، ترابُ المكرمات ترابها
حرم العروبة قد تألقَ نجمه
بلدِ الأشاوِسِ والحسانِ الخرَّدِ
وعليه طاب تمدّدي وتوسُّدي
لو أنصفوه لكان ثاني الفرقدِ
وهذا الانتماء لها يذكره الشاعر محمد قجة في خاتمة قصيدته ((قبلة على ثغر الشهباء)):
إنّ فاخر القومُ في أرضٍ وفي نسبٍ
إذاً لفاخرتُ أنّي اليعربي الحلبي
ويعبر الشاعر محمد الزينو السلوم عن هذا الانتماء الذي لا شك فيه من قريب ولا من بعيد:
من صُلْبِ يعرب حطّ الأهل رحلهمُ
والعُرْبُ من طيَّب الأعراق تنحدرُ
وفي هذا قلتُ:
ذكرُ العروبة عِصْمةٌ جمعتْ
حبُّ العروبة قد جرى أمداً
أجيالها، فاستعذبوا النسبا
كالنبع منسكباً لمن شربا
هذه جولة سريعة يمكن أن تطول وتمتدَّ أكثر، لم أتوقف عند الجوانب الفنية إلاّ إشارات، ومع العلم أن تفاوت المستوى في القصيدة الواحدة واضح وكذلك بين القصائد التي قطفت منها أكثر الثمار، وهذا أمرٌ طبيعي لأن الذين تناولوا حلب المحروسة والتي نحبها من وجهة نظر خاصة، قادتها تجاربهم وثقافتهم ورؤيتهم، فقد كثرت القصائد العمودية وقلّت قصائد التفعيلة، ولكنها على قلّتها جاءت ملامسة لحلب المعاصرة وطارحة بعض القضايا التي لم تقترب منها القصيدة العمودية. وهذه القصائد تمتاز بالصدق والعفوية والشفافية رغم تفاوت الخطاب فيها من مباشر إلى همس ونجوى، وهناك قصائد ملكت مفاتيحها الفنية، وقالت مضامينها وهي محافظة على وهجها، وكثر خطاب حلب بالأنثى، فأغلب القصائد خاطبت حلب كأنثى معشوقة يبثونها عشقهم وغرامهم، ويبوحون لها بعذاباتهم وذكرياتهم، وقصائد قليلة نزلت إلى حلب وغاصت في مشاكلها وهمومها، ويبدو أن الحب يستر ويحجب العيوب ويجعلنا نحذر ونخشى هذه المكاشفة..
ولفت انتباهي غياب حلب بشكل مباشر عن تجربة أهم شعرائها في هذا القرن عمر أبو ريشة وهذا يدعو للتساؤل وهو الذي شبَّ فيها واعتلى منصب مدير المكتبة الوطنية التي كانت تحفل بالمهرجانات التي تدعو الشعراء العرب للتغني بحلب.. والجميل في هذه القصائد توفيق شعرائها بالعناوين المعبرة فجاءت بعض العناوين حاملة ما في المضمون ((إلياذة الحب)) للشاعر مصطفى نجار ((شهباء يا أرج التاريخ)) للشاعر محمد مضر سخيطة، و((إلى حبيبتي حلب مع الاعتذار)) وهذه القصيدة المتطوّلة تغوص عميقاً في جزئيات وحنايا حلب.
وقد اهتم الشعراء بمطالع قصائدهم وخواتمها، وهذا ما كان يترك أثراً في النفس ويفتح فسحة للتفكير والتأمل فمطلع قصيدة الشاعر جلال قضيماتي:
في البدءِ كنْتِ فكانَ البدءُ والحقبُ
فهلْ يُقَصَّرُ عنكِ المجدُ والنسبُ
وقفلها بقوله:
شهباءُ أنتِ وإنْ قالَ الزمانُ: ترى
مَنْ هذهِ الخودُ..؟ قلْنا: إنَّها حَلَبُ
وعبد الله يوركي حلاق يختم قصيدته ((حلب))
سُئِلَ الخلودُ بمَنْ تُبا
هي..؟ قال بالشهباءِ وتاها
ويقول الشاعر هاشم عبد القادر ضاي في آخر قصيدته:
لا أوْحَشَ اللهُ لي قلباً يُوَدَّعُها
لأنَّني درَّةٌ مِنْ جزئِها نُسِبا
ويختم الشاعر عبد القادر مايو قصيدته:
لو ألّفَ الدهرُ سِفراً عن مفاخِرهِ
لجاءَ عُنْوانهُ: عنوانُهُ حَلَبُ
وقد أشرت إلى قصيدة الشاعر محمد قجة التي مطلعها:
أهواكِ يا حلبَ الشهباءِ فاقتربي
وعانقيني، لأرقى فيكِ للشهبِ
ويقول في خاتمتها:
شهباءُ إنَّا بنوكِ الغرُّ، مُهْجَتُنا
إنْ فاخرَ القومُ في أرضٍ وفي نَسَبٍ
عِشْقٌ، ومُقْلَتُنا ترنو إلى حلبِ
إذاً لفاخَرْتُ أنّي اليعربي الحلبي
وقد وفق الشاعر الأستاذ أحمد ديبة في مطلع قصيدته ((بردة الخيلاء))
خلّها عَنْكِ بُرْدَةَ الخُيَلاءِ
واخْلَعِ النَّعْلَ.. أنْتَ في الشهباءِ
وقفلها ببيت لطيف جميل:
سُئِلَ المجدُ عَنْ منابتهِ الخُضْرِ
فأومى إلى ثرى الشهباء
ويختم الشاعر العاشق لحلب ومبدعيها محمد كمال قصيدته ((تحية))
شهباءُ ثوبُكِ للخلودِ ولم تكنْ
طابَتْ مرابعُكِ النّضرةُ مَغْرساً
لو نلْتُ في أبهى الدُّنا حرّيَّتي
تُبلي ثيابَ المكرُمات يدُ البلى
وتألَّقَتْ فِتَناً وجَلَّتْ مَوْئلا
لاخْتَرْتُ أنْ أسعى إليكِ مُكَبَّلا
رحلتنا جميلة وممتعة مع شعراء ارتبطوا بمدينةٍ أحبَّها الزائر والضيف والعربي والأجنبي فكيف لا يحبّها أبناؤها ولا يعشقونها حتّى الثمالة:
شَهْباءُ جئْتُكِ حاملاً كلَّ الجوى
أمّا القَصيدُ فإنَّهُ عِقْدٌ على
ما كنْتُ إلاّ عاشقاً حَفِظ الهوى
وعلى الجبين حكايةٌ صمّاءُ
شفةِ الزمانِ، وإنَّهُ اللألاءُ
حلبٌ إليكِ الروح والأشلاءُ
المراجع:
- مجلة الضاد أعداد ( 11/1999 ، 1 – 2 /1998 )
- كتاب حلبيات / عبد الله يوركي حلاق
- صحيفة الجماهير
- مجلة الثقافة الدمشقية
- خيوط الغمام – ديوان عبد الله يوركي حلاق
- مجلة العاديات عام 1999
- ظلال الروح – ديوان محمد الزينو السلوم
- من سرق القمر – ديوان مصطفى النجار
- قصائد عارية – ديوان محمود محمد كلزي.