واحة الأرواح
مرحبا بكم في واحة الأرواح
واحة الأرواح
مرحبا بكم في واحة الأرواح
واحة الأرواح
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

واحة الأرواح

أحمد الهاشمي
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخولeahmea@yahoo.com

 

  مقالة " نزار قباني بين مطرقة وسندان النقاد"

اذهب الى الأسفل 
4 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
محمود أسد
كبار الشخصياتvip
كبار الشخصياتvip
محمود أسد


عدد المساهمات : 188
نقاط : 566
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 18/08/2010
العمر : 73

          مقالة " نزار قباني بين مطرقة وسندان النقاد" Empty
مُساهمةموضوع: مقالة " نزار قباني بين مطرقة وسندان النقاد"             مقالة " نزار قباني بين مطرقة وسندان النقاد" Icon_minitimeالثلاثاء 7 سبتمبر 2010 - 22:12



تحية وكل عام وأنتم بخير

" نزار قباني "
" بين مطرقة وسندان النقاد "
محمود أسد
حلب ص ب 12522
لم يتعرّض شاعر للنقد في هذا القرن كما تعرض " نزار قباني ". فمنذ خمسين عاما وأكثر وهي فترة عطائه الشعري المتميّز والمتفرّد، لم يتوقف النقد. بعد كل قصيدة، نقد وهجوم وعنف. وبعد إصدار ديوان، حملاتٌ شعواء، وأقلام مرفوعة، وأصوات عالية. والرحلة الشعرية مستمرّة.
قيل عن شعره الكثيرُ منذ رحلته مع المرأة في مطلع الأربعينيات. ومع ديوانه الأول " قالت لي السمراء " عام ألف وتسعمائة وأربعة وأربعين، إلى يومنا هذا. فالنقد مستمر ولكن يحقُّ لنا أن نسأل أنفسنا : ما هي طبيعة هذا النقد ؟.
عندما عرّى المجتمع العربي من خلال علاقته مع المرأة. وهذه جرأة لم يألفها أدبنا العربي، انطلقت الأصوات تكفّره، وتُخرجه عن دينه، وتجرّده من وطنيته وقوميته. واتّهموه بالشعوبية عندما أصدر ديوانه " قصائد مغضوب عليها " ورغم ذلك يبقى الشاعر نزار قباني في الواجهة الشعرية على الساحة العربية لا يعكّر مزاجه إلا الواقع العربي السيئ. فلا يهمّه نقد ولا يكترث بالنقاد، ولا يأخذ بأقوال ونظريات الشعر. كوّن عالمه الشعري من خلال نظرة شمولية بعيدة عن الحزبية، والطائفية، وغير ذلك. فهو مستقل فكريا. فما علينا إلا أن نستجلي عالمه ورؤيته معتمدين على المقابلات الصحفيّة المنتشرة في الصحف والمجلات. فهذه اللقاءات تجلو ظواهر معيّنة من شعره، وتقرّب المسافات فيما بيننا وبين الشاعر.
إن المتتبِّع لمقابلات نزار قباني، تجذبه فيه صراحته وجرأته وسرعة بديهته. تساعده على ذلك لغة نثرية شاعرية محمولة على جناح الخيال، وكأنك تسمع شعرا. ويُلفت انتباهَك إصرارُه على إعادة وجهة نظره في المرأة والوطن، والشعر ووظيفته وموقفه من النقاد. فهذا كاف ليعطينا القناعة بأنه شاعر يعي ما يقول. وهذا ما نراه في مقدمة ديوانه طفولة نهد :
" نشأتُ على كره عنيد للشعر الذي يُراد من نظمه إقامة ملجأ .. أو بناء تكيّة، أو حصر قواعد اللغة العربية .. أو تاريخ ميلاد حيٍّ أو تعداد مآثرِ الميت على رخامة قبره ... " ويتحدى التقاليد الشعرية، والاجتماعية، والسياسية، في مقدمة ديوانه أيضا:
" إن الدعوة إلى الفضيلة ليستْ مهمّة الفن بل مهمة الأديان، وعلم الأخلاق، وأنا أؤمن بجمال القبح، ولذةِ الألم، وطهارة الإثم. وهي كلُّها أشياء صحيحة في نظر الفنان .. أريد أن يكون الفن ملكا لكل الناس كالهواء .. وكالماء .. وكغناء العصافير، يجب أن لا يحرم منها أحد .. إذن يجب أن نعمِّم الفنَّ ونجعله بعيد الشمولية، ومتى استطعنا ذلك استطعنا أن نجلب الجماهير المتهالكة على الشوك والطين، والمادة الفارغة إلى عالم أسرارُه النجوم، وأرضُه مفروشة بالبريق ..." إلى أن يقول :
" إني أحلم بالمدينة الشاعرة لتكون إلى جانب مدينة الفارابي الفاضلة، وحينئذ يكتشف الإنسان نفسه ويعرف الله.."
فالشاعر يطرح بيانا جريئا صادرا عن أفق واسع وعقل متفتِّح يؤمن برسالة الشعر.
لا شك أن بيانا بهذا الجرأة ورؤيةً متفتِّحة كرؤية نزار سوف تثير حوله الخصومات وتفتح عليه سهام النقد ضدّه، ومن الطبيعي أن يخشى أصحاب الممالك الوثنية في الشعر على ممالكهم المقدّسة. فنزار من بدايته وقف في وجه كل مألوف صدئ. وهذا ما عبّر عنه الناقد جلال فاروق الشريف في كتابه ( الرومنتيكية في الشعر العربي المعاصر " في سورية " )
" إن الموهبة الشعرية التي يتمتّع بها نزار قباني هي التي أتاحت لهذا الشاعر المخضرم الذي عاصر" أبو ريشة"، والمرحلة المتأخرة من شعر جيل الرواد الكلاسيكيين في سورية، كما عاصر المرحلة الرومنتيكية، وثورة الشعر الحديث. أن يشقَّ طريقا لنفسه مستقلا وسط أقوى التحديات على نطاق الشعر العربي المعاصر".
وكلمة حق تقال بأن الشاعر نزار قباني أخرج الشعر العربي المعاصر من سور المحلية إلى ساحته العربية بفضل جرأته وثورته شكلا ومضمونا. وهذا لم يجرؤ عليه أحد قبله.
ولذلك اعتبر النقاد ديوانه الأول " قالت لي السمراء " فضيحة شاملة في الأدب والسياسة والمجتمع بسبب تلك الموضوعات الفاحشة وغير المألوفة, وخصوصيته المتفردة بالشعر النسائي في عصر النضال الوطني، وهذا كافٍ لإعلان الخصومة والمواجهة.
في ديوانه الأول تصدّرت مقدمة الدكتور منير العجلاني الديوان. حيث أعلن تفاؤله بولادة شاعر متمكن :
" لا أسألك. لا أسأل الله إلا شيئا واحدا أن تبقى كما أنت طفلا يصوِّر .. ويغنّي.. ويعشق. كأنك ملاك يمشي على الأرض ويعيش في السماء .. " يا نزار لم تولد في مدرسة المتنبي، فما أجدك تعني بشيء من الحكمة والرثاء والمديح، وما أجدك تعنى بالبيت الواحد من القصيدة يضرب مثلا، وما أجدك بعد هذا تُعْنى بالأساليب التي ألِفها شعراؤنا وأدباؤنا. وإنما أنت شيء جديد في عالمنا ومخلوق ٌغريب ".
هذه الأحكام، وهذا التفاؤل بشاعريِّته لم يذكْره العجلاني إلا لأنه استخلص رؤية جديدة ووظيفة جديدة للشعر لدى نزار. فنزار شقّ طريقه بخطا واعية وثابتة. فلم يكن ظاهرةً تمثل مرحلة كما توقع الكثير من النقاد. وقد علّق الأستاذ جلال فاروق الشريف في كتابه " الرومنتيكية في الشعر العربي المعاصر " التعليق على ديوان " طفولة نهد " وما ورد في المقدمة التي كتبها الدكتور منير العجلاني في " قالت لي السمراء ".
" غير أن نزار قباني إذا كان رمزيا وغريزيا وعضويا. كما وصفه الدكتور منير العجلاني وكما يبدو لكل من يقرأ شعره، إلا أنه كان عقلانيا في الوقت نفسه. ولعل هذه الازدواجية في شخصية نزار من أبرز السّمات التي تميّز واقعه الشعري. فهو مهما بدا موغلا في الرمزيّة والعفوية والغريزية إلا أنه لا يكفُّ عن التفكير واستخدام عقله. وهذا تجسّد في مقدمة مجموعة " طفولة نهد ". وهذا رأي ٌللناقد جلال فاروق الشريف في كتابه السابق يبرز فيه أهمية تناول نزار قباني للمرأة في شعره :
" كان الشعراء قبل نزار قباني عندما يتحدّثون عن المرأة يسرحون ويمرحون في خيال مغلق ضمن جدران أربعة، قل أن تعرف شيئا حقيقيّا عن المرأة وعن مفاتنها الخاصة. كانت إحساساتُهم خياليّة حينا وتقليدية حينا آخر, ومصطنعة اصطناعا في معظم الأحيان. لم تعطِها التجربة ُوزنَها وثقلها. أما إحساسات نزار قباني فهي واقعية بكل ما في الواقع من قوّة على الرغم من الصور الرمزيّة المبتكرة. كانوا في ألف قصيدة يتغنّون بقصة غرام واحدة. فجاء نزار ليغوص وراء الأحاسيس الكائنة في كل نفس ليُخرِج من الجسد الواحد ألف قصيدة وفي هذا كان مخلصا ومجدِّدا "
وقد ارتدّ نزار عن وثنية الشعر وكذلك عن الوثنيّة القدسيةّ للمرأة. فلم تعد المرأة وثنا يشبه غيره من الأوثان، بل دخل إلى جوانحها وعالمها. واصطاد دقائقها، ودخل مخدعَها وحادَثَها، ووصف مفاتنها وأنوثتها وحاجاتها الصغيرة بلغة مثيرة انفعالية وتفاعلية، أثارت عَبَدةَ الأوثان خاصة، عندما دخلتْ مخدعَهم وعرَّتْهم على حقيقتهم. فنحن أمام ناقد آخر أنصف الشاعر نزار بروح موضوعية وعلمية فالدكتور إحسان عبّاس في كتابه " اتجاهات الشعر العربي المعاصر " يذكر : " إذا استثنينا نزار قباني وجانبا من شعر صلاح عبد الصبور. لا نجدُ الحبَّ يتَّخذ شكل موضوع شعري مستقل. وإنما هو ذائب في التيار الشعري جملة. وقد أكثر نزار قباني من الحديث عن الحبّ معتبرا إياه عالما له أبعاد متميزة تكفَلُ له الوجودَ المستقلَّ في شعره. حتى سماه بعضهم " شاعر الحب " وسماه آخرون " شاعر المرأة " وغير ذلك من التسميات .. كما كان البعض يرى أن نزارا شُغِل بقصة الحب حتى ألْهتْه عن القضايا الكبرى في العالم العربي ".
ويتابع الدكتور إحسان عباس فيقول :
" فنزار لم يتحدّثْ عن الحب العاطفي بمعناه الذي يظنُّه الكثيرون. إنما تحدث عنه بمعنى جديد حين جعله طرفا في قوَّتي صراع كبيرتين ".
هذه جملة من آراء تعرَّضت لتجربة نزار وهو في بدايته أو تطرَّقت لدواوينه الأولى في فترة متأخِّرة عن إصدارها. وهي آراء موضوعية تجنَّبتِ الإسفاف والمغالاة والأحكامَ الجاهزة. ولكنْ لنا وقفةٌ عند آراء نزار في بداياته وعن المرأة أيضا.
ففي كتابه " عن الشعر والجنس والثورة " يقول بصراحة وهذا ما عرفناه عنه " أرفض القول أنّني أنقل عن الذاكرة الشعريَّة العربية، أو أيَّة ذاكرة أخرى. إنني بهذا المعنى شاعر مصابٌ بفقد الذاكرة. منذ بداياتي حاولْتُ أن أخرج على الأنموذج الشعري العام في الغزل العربي. فمن خلال قراءاتي الشعريّة الأولى تنبّهْت إلى شيء خطير وهو أن كل الحبيبات في الشعر العربي هن واحدة ... ومقاييس المرأة الجسدية كانت هي الأخرى واحدة. والانفعال بجمال المرأة كان دائما صحراويّا .. كانت هذه الحقيقة ترْعبني لذلك أردْت أن أدخل إلى الشعر العربي من باب آخر, وأن أطرح عشقي الخصوصي على الورق دون استعارة عشق الآخرين ...".
إذا نجد أنفسنا أمام شاعر يسعى إلى التميُّز والانفراد بإبداعه وفنّه متجاوزا تقاليد َالشعر المتوارثة يحمل في جعبته موهبة وثقافة واعتداداً بالنفس. يقول كلمته بوضوح، ويُدلي برأيه دون تردُّد. ففي أول ملتقى للشعر العربي الحديث الذي عُقِد في كانون الأول عام ألف وتسعمئة وسبعين. في بيروت. وقد شارك فيه نزار قباني مع نخبة من شعراء الحداثة أمثال أدونيس وممدوح عدوان وأحمد عبد المعطي حجازي وبلند حيدري، وصلاح عبد الصبور وغيرهم.. وقد خصَّته مجلة الثقافة اللبنانية الصادرة في لبنان آذار عام /1970/ بعدد خاص. في هذا الملتقى أوضح موقفه من الحداثة والعملية الشعرية " أنا ليس عندي نظريَّة في الشعر. وإنما أنا عندي شعر، أنا موجود في داخل الشعر لذلك يصعب عليّ أن أراه. كل ما قيل عن الشعر وفي الشعر في هذه الجلسات وفي غير الجلسات هو في نظري عبارة عن سفسطات وهرطقات واجتهادات ... الشعرُ هو الرغيف اليومي الدافئ الذي نأكله معا. الشعر هو أخيراً السيف الذي يذبحنا .. المهم أن أكتب الشعر هذه نظريتي ".
يقيني أن نزار قباني لا يريد الجدل اللامجدي. منهجُه واضح منذ أعلن عنه في بداياته. يؤمن برسالة الشعراء ودورِهم دون أن ينخرطوا ضمن منظّمات تقلِّم أظافرهم، وتُقيِّد إبداعهم، فالعملية الشعرية في نظره ليست فُسْحة أو نزهة ثم ينتهي الأمر بصورة تذكارية. بل يعتبر الشعرَ عمليَّةَ قلبٍ في المفاهيم وترسيخ لمفاهيم جديدة :
" أنا أعتقد أن الشعر هو عملية انقلابية يقوم بها ويخطِّط لها وينفِّذها إنسان غاضب .. ولا قيمة لقصيدة في نظري لم تحدث شرخا، أو قشعريرة في جسد الإنسانية وفي جسد العالم، الشعر أربطه أنا شخصيا بالثورة وبالطفولة وبالجنون... وكل محاولة لتقليم أظافر الشعر وتحضيره وتحويله إلى حيوان أليف محاولةٌ رجعيَّة عقيمة وسخيفة، ونحن في هذه المرحلة المأساوية من حياتنا، يبدو أن الكتابة بالأظافر أصبحَتْ قدرنا الوحيد ".
هذه مفاهيم نزار الشاعر الواعي. يريد الشعر دون تنظير وتأطير ضمن مصطلحات سياسية أو أدبيّة، ولا يؤمن إلا بالشعر الصاعق، ويُعجَب بالشاعر الخارج عن القانون ويدعوه بهذا :
" فعلى الشعراء المعاصرين أن يكونوا انقلابيين بكل معنى الكلمة. عليهم أن يكونوا خارجين على القانون بكل معنى الكلمة. عليهم أن يجتازوا الطريق على الإشارات الحمراء وعليهم أن يضعوا الألغام تحت قطار التخلَّف وتحت قطار الخليفة...".
ولا يمكن أن نستوعب الأدب وفعاليَّته إلا من خلال العلاقة بين الشاعر والمتلقي. وللشاعر دور كبير في حسن هذه العلاقة وحسن توظيفها، ولا يمكن أن يؤدِّيَ هذه الرسالة إلا شاعرٌ مبدع متمكِّن نسيجُ وحده. يملك من السمات ما لا يملكه غيره ,وهذا الشاعر الذي يخاطبه نزار سيبقى مشروعا بحاجة لدربة ودراية وموهبة واستقلالية..
" ولن يؤسفَني أن أقول أنّ ثلاثة أرباع شعراء العرب يكتبون قصائد بلا مرسل إليه.
لماذا ؟. لماذا يعيد ساعي البريد في بلادنا العربية قصائد شعرائنا الشباب إليهم؟ هل لأنهم بدون عنوان ؟ أعتقد بأنها كذلك لأنهم يكتبون كما يبدو, وينسون في كتاباتِهم عنوانَ الشعب ,عنوانَ الجمهور الذي هو المحطُّ الأول والأخير لكل عمل شعري ".
هذه حقيقة فهمها الشاعر نزار قباني وسعى إليها. ولذلك قرأه الصغير والكبير والمثقَّف والعادي والرجل والمرأة وبأيَّة لغة ؟ بلغة بسيطة واضحة أنيسة واقعية عرَّضتْه للتهم والنقد. وكذلك آراؤه وتصريحاته ألَّبتْ عليه الكثير من النقاد والأقلام. هذه الآراءُ القويَّة والرؤيةالجليّة لا بد أن تثير مَن ْحوله. وسوف أعرض بعضا من هذا في حوارات جرت معه وردَّ عليها مدافعا دون وجل..
في صحيفة البعث السورية الصادرة في /3/4/1988/ وفي حوار مطوَّل وصريح سئل :
- يتَّهمونك بهلهلة المفردات الشعرية. خصوصا في شعرك السياسي إذ يقولون : أدخل نزار قباني لغةَ الشارع إلى لغة الشعر ! كيف تدفع هذه التهمة ؟
"الشعر هو الناس... وهو الشارع. لاحظ ِاللفظَ والأحرف بين الشاعر والشارع ,لفظتان متقاربتان.. الشعر هو الناس والشعر هو لغة .هو جسر نمشي عليه للوصول إلى الآخرين، ودون هذا الجسر نبقى في قعر الوادي.. ثم أنا شاعر طموحاتي كبيرة جدّا تعني : أنا لا أعتبر نفسي شاعرَ بيت, ولا شاعر قبيلة ولا مقهى.. أنا شاعرُ المائةِ والخمسين مليون عربي.. أنا لا أفرِّق بين لغة الناس ولغة الشعر.. أنا لست شاعرَ مَجْمعٍ لغويّ، أنا أصلا لا أؤمن بالشعر الأكاديمي.. أنا رجل هارب من القاموس. ويُمكنُكم أن تقولوا هذا على لساني.."
هذه الرحلة الشعرية المبدعة لم تكن مفروشة بالورد. بل تعرّض خلالها لسهام النقد اللاذع والطعن المقصود. فتناولته الدراسات من كل جانب. فمن الدراسات الجادة التي تناولت جانبا هاما من جوانب شخصيته " النرجسية في أدب نزار قباني " للدكتور خريستو نجم. وقد عرض الأستاذ فريد جحا تحليلا لهذا الكتاب على صفحات مجلة الموقف الأدبي عدد /كانون الثاني/ عام ألف وتسعمئة وسبعة وثمانين. ومما ورد في التحليل على لسان فريد جحا:
" والحق أن نزاراً ليس أشعرَ شعراء العصر الحديث كما يرى ذلك أحد النقاد، وليس الشاعرَ النصفَ المثقف كما يرى ناقدٌ آخر. بل هو واحد من شعرائنا الكبار لا في عصرنا الحديث فحسب بل في تاريخ أدبنا لعربي كلِّه. شاعر ينتظر التقويم الجدِّيَّ الموضوعيَّ الذي يضعه في المكان اللائق به دون أن يرفعه إلى السحاب، أو يضع من شأنه فتمسح به وبأدبه التراب ".
هذه وجهة نظر صائبة، وهذا حكم سديد. فالمعركة بين النقاد ونزار قباني معركةٌ ,غابت عنها الموضوعية في أكثر الأحيان. وما دمْنا بصدد الدراسة الجادة التي قدمها الدكتور خريستو نجم " فقد أشاد الشاعر نزار قباني بهذه الدراسة في لقائه مع صحيفة البعث، وقال أتمنى أن يُقْرأ هذا الكتاب ُمن قبل القراء ففيه تحليلٌ نفسيٌّ وجدِّيٌّ ودخولٌ إلى عالم نزار النفسي من خلال شعره " فخريستو " يذكر :
" كانت أحكامٌ متسرِّعة أصدرها بحقه نقّادٌ غيرُ منصفين... فمنهم ُالذين أشادوا به وأعطَوْه أكثر مما يستحقّ، ومنهم الذين هاجموه بعنف فرأوا فيه ماجنا، وشاعرا يكتب على مستوى أنصاف المثقفين " في هذه الدراسة النفسيّة اعتمد الدكتور نجم نهجا وطريقا موضوعيا. وتتبَّع ظاهرة النرجسية أيْ توثيقَ الذات في شعره ونثره ومقالاته من خلال وسامتِه وطفولته وتأثُّرِه بأسرته ودورها في ذلك .وقسَّم مراحل إبداعه إلى مراحلَ تبدأ بالعطش وتنتهي حسب رأيه بالتخمين والإفلاس, ويمثِّلها ديوان : " أشعار خارجة عن القانون " وبعدها مرحلة الهاجس الزمني، وهي الدواوين الصادرة بعد الحرب اللبنانية إلى عام ألف وتسعمائة وثلاث وثمانين.
إن الذين تعرضوا لنزار كثيرون، ولذلك لا غرابةَ أن نسمع نزارا وهو يرفع صوته في وجههم، فبعد إصدار ديوانه " قصائد مغضوب عليها " تعرّض لطعن قاسٍ فكتب هاني الخيّر في صحيفة الثورة عدد /7/5/1987/ بعنوان الوجه الآخر. وقبله تعرَّض له الصحفي اللبناني " جهاد فاضل " في مجلة الحوادث ومما جاء في مقالة "هاني الخير " يُمثِّل نزار قباني في ديوانه الأخير " قصائد مغضوب عليها " مرحلة متقدمة ًمن الشعوبيّة الحاقدة ِالتي وصلتْ إلينا عن طريق الغزو الثقافي الذي شاع في الأدب العربي المعاصر عن طريق بعض الأقلام المأجورة والنرجسيَّة الإباحيَّةِ والشتيمة والتلاعب بالعواطف وتضليل الجمهور والاستهزاء بالعقل العربي ..
/إيّاك أن تسمع حرفا من / خطابات العرب / فكلُّها نحو وصرف وأدب / ليس في معاجم الأقوام / قوم اسمهم عرب../.
فماذا نطلب من الشاعر نزار قباني الانفعالي في مرحلة مأساويّة من الواقع العربي المرير؟ فهل يستجدي الناس ؟ أيحضُّهم ويقرِّعهم أم يمجِّد وينام على الأمجاد ؟ وماذا يعمل وهو يرى أنَّ كلَّ همٍّ يحمله نحو العرب يسبِّب له التعب ألم يقل ؟ :
أنا يا صديقةُ متعب بعروبتي فهل العروبةُ لعنة وعقاب
وقال يوم اغتيلت زوجتُه الشاعرةُ بلقيس :
كلُّ الطيور تفرُّ من وطني ولا أدري السبب
كل الأساور والمرايا واللعب
وجميعُ أشياء الجمال ... جميعُها ضدّ العرب ...
فكلام نزار عبارة عن زفرة ألم وعن بوح داخلي يحمله غيور على أمَّته وقومه. فإن دعا وسخر، فدعاء الأب والأم على ابنهما من لسانهما ,وليس من قلبهما. فصرخة نزار صرخةُ يأس وأسى ً,ولكن هناك من يصطاد في المكان والماء العكر. فمعروفٌ عن نزار أنّه لم يغيِّرْ لهجته منذ نكسة حزيران " في هوامش على دفتر النكسة " إلى مقدمة ديوانه إلى مقدّمة ديوانه "إلى بيروت الأنثى " / أعطني مساحة للكتابة /فالمقدِّمة ُ كانت قاسية وقاصمة, وما زالت أشعارُه وكتاباته تلقى صدى في نفوس العرب والواعين. وأقول ذلك وأنا مقتنع : إن نزارا لعب دورا في توطيد الموقف العربي وربط الشعور القومي بين أبناء العرب أكثرَ مما لعبتْه السياسة ورجالاتُها. فشعرُه تجاوز خلافاتِهم وحروبَهم الكلاميّةَ وحدودَهم الرمليَّةَ التي لم يستطيعوا إزالتَها بل رسخوها. وقد ردّ نزار قباني على جهاد فاضل بسخرية لاذعة ومريرة :
" إذا كنتُ أقبلُ الوعظ القوميَّ والعربيَّ يأتيني من خالد بن الوليد وعقبة بن نافع وصلاح الدين الأيوبي وجمال عبد الناصر، فإنني أرفض رفضا مطلقا الوعظ القوميَّ من محرِّر أدبي... مؤهلاتُه لا تسمح له بأكثر من رتبة عرّيف، في أمسيتي الشعرية الأخيرة، كان محرِّركم( جهاد فاضل) يتقوقَعُ في مقعده كالحلزونة لأنّي الشعوبي (الذي هو أنا ) استطاع في تلك الليلة أن يهزّ الوجدان القومي لخمسة آلاف مستمع ".
وأرى ردّ نزار قد جاء في أكثر من قصيدة وقد ورد في صحيفة البعث /33/9/1988/ وجاء فيها :
ما للعروبة تبدو مثل أرملة أليس في كتب التاريخ أفراح؟
والشعر ماذا سيبقى من أصالته إذا تولاه نصّاب ومدّاح
وكيف نكتب ؟ والأقفال في فمنا وكل ثانية يأتيك سفاح
حملت شعري على ظهري فأتعبني ماذا من الشعر يبقى حين يرتاح ؟
فتهمة الشعوبية رُميَ بها كثيرا ومن أكثرَ من جهة ورغم هذا نراه بثبات ومقدرة، وفي كل جواب ترى انتماءه وغيرته على الواقع العربي.
فسئل في صحيفة البعث عدد /31/3/1988/ :
- " يقولون إن الشاعر يكتب في السياسة بلغة طوباوية بدليل أنك قلت عن الوحدة العربية إنها أجمل بكثير من واقع ملوك الطوائف وأحجار الشطرنج. كيف ترى أن يتعامل الفنان والشاعر مع هذه الشعارات ؟
- أنا في كل شعري كنتُ ضد كل هذه الكيانات الكرتونية والموزاييك التي تملأ الخريطة العربية .. بل أقول إنني ضدّ هذه المالك الكاريكاتورية التي أساءت إلى التاريخ العربي وإلى الإنسان العربي .. إنني بطبيعة تركيبي وطبيعة ثقافتي : شاعر وحدوي. وقومي ضد كل أشكال التجزئة والفئوية والمذهبية. والذي يؤلمني حين أنظر إلى الخريطة العربية أن أرى صراع مدن الرمل وحروبَ القبائل في حين أن هذا الوطن العربي الممتدِّ من المحيط إلى الخليج يملك من الطاقات البشرية والاقتصادية والفكرية والثروات الزراعية ما يسمح له بأن يكون دولة من الدول العظمى"
هذا أنموذج واضح من إجاباته ولكن نتساءل عن علاقة نزار قباني بالنقاد والحركة النقديّة والمتطفّلين عليها والمنتفعين منها ,فقد سئل في مجلة العربي عدد آذار عام ألف وتسعمائة وتسعة وثمانين في " وجها لوجه " :
- ما رأيك بالنقّاد ؟ ولماذا تخاصم النقاد ؟
- باختصار أجيب : إن النقّاد العرب لم يضيئوا زاوية في الشعر العربي فقد كان الشعر العربي كعمل إبداعي سابقا لكل عمل نقديٍّ. أما بالنسبة لي فعبرَ مسيرتي الطويلة هذه على مدى أربعين عاما لم أستفدْ من كلمة نقد واحدة.. يترك الناقدُ شعري ويتناول سيرتي الشخصية وشؤوني الصغيرة الخاصة. وأنا أفضِّل أن أقدِّم نفسي للقارئ كما أنا، وليس بالصورة التي يكون الناقد على مزاجه.. "
وفي مكان آخر يرد على سؤال ورد معه في صحيفة البعث عدد /31/3/1988/.
- هل تلغي في كتابك " قصتي مع الشعر دورَ النقاد " ؟
فجاءت إجابته تأكيدا للإجابة السابقة فموقفه لم يتغيَّر من النقاد.
- " نعم .. فأنا أقول لك إن النقاّدَ العرب لم يضيئوا زاوية من الشعر العربي فقد كان الشعر العربي كعمل إبداعي سابقا لكل عمل نقديٍّ.. لو أن الشعراء العرب اعتمدوا على توجيهات النقاد ونظريّاتهم لتحوّلوا إلى بائعي فلافل.. فمنذ أربعين سنة لم أستفد من كلمة نقد واحدة.. إذ كان النقد إمّا عدوانيّا أو شخصيّا ..."
لا يخفي الشاعر نزار قباني تضايقه وألمه من النقد ولذلك أهمله فقد ترك النقاد وآراءَهم وهجومهم منذ بدايته، وسار في الطريق الذي رسمه في ديوانه الأول والثاني. وخيَّب ظنونهم، وحطَّم تلك الأحكام السريعة التي لا تحمل بعدا ثقافيا أو موضوعيا فيتابع إجابته عن السؤال السابق ..
" فالشعر في واد والنقّاد في واد آخر يهيمون فيه. ولا جسرَ يجمع بينهم كما أنَّ الفكر التجاريَّ والنفطيَّ لعب دورا كبيرا في تشويه وجه الشعر ... "
هذا الموقف الجليُّ والواضح من النقاد جعل نزاراً الشاعر المبدع يمارس عملية الإبداع والنقد معا.وهذا شيءٌ مفيد ورائعٌ أن يكون المبدع ناقداً.فقد وصل إلى طريق شبه مغلق بينه وبين النقّاد. ولا تغالي إذا قلنا بأنه يملك الحقّ في هذا الموقف ولكن ليس لدرجة انقطاع الصلة وفقدان الثقة والتعميم فقد وجدنا دراساتٍ جادةً أخذت شعره بموضوعية دون زيف. فأعتقد جازما بأنّه لا يعنيها بل يعني أنصاف النقاد الذين يسعَون إلى الشهرة والصعود على أكتاف المبدعين.
لنزار مفهوم خاص ومحدَّد للشعر يذكره في كل لقاء وملتقى,وقد عبر عنه في مجلة الثقافة عدد تشرين الثاني عام ألف وتسعمئة وأربعة وسبعين في الملتقى الأول للشعر الحديث .. كوَّن عالمه الشعريَّ من الواقع الذي عاشه وتأثّر به في كل جوانحه فالثقافة لا تساوي شيئا بالنسبة له إذا لم يقرأْ ويعيش ويترجم الإحساس ويخوض التجربة ويعطش ويعوم في المجالات.
" الشعر سماء فيها نجوم وشموس تغيب وتظهر وتغيِّر مداراتها. سماءٌ تارة خريفية وأخرى شتائية وثالثة ربيعية. إلا أن الحقيقة السماوية تبقى واحدة يظل هناك سماء.. "
فشاعرنا لم يتركْ شيئا للنقّاد. عرض مواقفه ورؤيته دون حاجز متجنِّبا التلفيقَ والغموض الذي نقرؤه ونسمعه من الشعراء والأدباء. وهذه سمة تبقى. فهو واضح وضوح الشمس, وواسع كسماء شعره. ولا يؤمن إلا بالانفراد. والإبداع ُمطلبٌ هامٌّ في العمليات الإبداعية ولذلك اعتبر الكتابة عملا انقلابيا ,غايتُهُ التغيير. وها هو معنا على صفحات الثقافة العربية الليبية في عدد كانون الأول عام ألف وتسعمئة وأربعة وسبعين :
" إن الشعراء في عالمنا العربي هم بعدد حبّات الرمل.. في الصحراء العربية. ولكن الذين استطاعوا أن يخرجوا من المألوف الشعري إلى اللامألوف ويطلقوا في السماء عصافير الدهشة .. ويقيموا للشعر جمهورية ,لا تشبه بقية الجمهوريات. يُعدّون على الأصابع. ومهمَّةُ الكاتب الانقلابي صعبة ودقيقة .. لأنها تتعلَّق بإلغاء نظام قائم، له جذورُه الدستورية والتاريخية، والقومية واللغوية، وإعلانُ نظام يصعب على الناس في بادئ الأمر الإيمانُ به. والاعتراف بدستوريته .والاعتراف ُبالكتابة الجديدة يأخذ وقتا طويلا .. لأنّه من الصعب كسرُ عادات الناس وتغييرُ غرائزهم الكلامية المكتسبة بين عشية وضحاها، ولكن الاعترافَ بالكلام الجديد والكتابة الجديدة هو قضيّة وقت لا أكثر ".
هذا كلامُ العاقل الذي طرحه منذ بدايته، ولا يزال يحرص عليه. فنزار قباني لا يطرح نظريّة حسب رأيه ,بل يعيش همّا من حق كل أديب أن يعيشه. فلا يؤمن بجماليّة مطلقة ,ولا بنظرية فلسفية جدلية. ولا بد من التغيير وإن اختلفتِ الميول. والجديد لا بدَّ أن يجد معارضة ثم يألفُه الناس كحال أبي تمام وتجديدِه والموشحاتِ والشعر الحديث. فالقضيّة قضيةُ زمن. وهذا ما عبّر عنه ابن قتيبة في مقدمة كتابه " الشعر والشعراء " عندما أكّد بأنّ هذا الجديد سيأتي يومٌ ويصبح قديما. فما رأي النقاد والصحفيين والمعارضين وأصحاب النظريات بهذا الطرح؟. فلا يريد الشاعر أن يعتبر جمهوره نوعا من الإقطاع, يمارس عليه سلطته، ويرميه بحُممِ أفكاره .هذا مضمونُ حديث وجَّهه إلى الشاعر محمد الفيتوري في الملتقى الشعري الأول ومنه " أنا في الحقيقة أشعر أن بعض الزملاء الشعراء يمارسون إقطاعا شعريّا وفكريّا على الجماهير، لا يقل عن الإقطاع الذي كان يمارسه النبلاء في العصور الوسطى. الحقيقة طلبتُ منهم بأن يكفّوا عن هذا التعالي اللغوي والثقافي، وأن يكلِّموا الناس بلغتهم البسيطة .."
إنها وجهات نظر فيها الكثير من الواقعية التي تتطلّبها المرحلة، ولكنها توحي بقدرته على التخلُّص وحسنِ الرد. تسعفه في ذلك طبيعتُه وسرعةُ بَداهته، وأناقةُ لغته النثريةِ التي لا تقلُّ مكانة وقدرة عن شعره.
بعد كل هذا أسأل السؤال الذي طرحه الدكتور " محمد ياسر شرف " في مجلة الموقف الأدبي. عدد تشرين الثاني عام اثنين وثمانين وتسعمئة وألف.
" هل آن زمن التقاعد الأدبي لنزار قباني ؟ كما ادّعى الدكتور شرف بعد إصدار نزار لديوانه " كتاب الحب "
" واعتقدَ النقادُ أن الذي وُصِف بالجرأة في " قالت لي السمراء " و " قصائد متوحشة " و " مذكرات امرأة لا مبالية " قد انتهى. واعتبر المهتمّون بالأدب أن زمن التقاعد الأدبي صار بنزار لائقا, وأنه لا يصلح لأكثرَ من كتابة مقال في مجلة أسبوعية يثير فيها فضيحة لفظية " انتهى حديث الدكتور شرف الذي أرى فيه تحاملا شديدا. فالفارس لا يزال فوق صهوة ِجواده يقود قبيلةَ الشعراء ويحمل هم الآخرين بالرغم من سكاكين الشامتين وخناجر الحاقدين. ثم يتابع الدكتور شرف في الموقف الأدبي :
" إذا فتحْنا صفحاتِ ديوان " لا امرأة إلا أنت " قابلَنا تكريسُ نزارٍ القدرَ الأدنى من منظمه لأسلوب النثرية والبلاغة التافهة. حيث هبطَتْ مفرداتُه لضحالة معانيها. وتسطيحِها وارتباطِها بنوع من القسريّة في التعبير أبدتْها المهارة اللغوية الموظفة لإيراد صور إيهامية"
هذا الكلام وهذه الأحكام لا يتوقّف عندها نزار. لأن ما يبغيه من اللغة أكثرُ من ذلك. فلا يريد من اللغة إلا أن تكونَ وسيلة جميلة. لا يملك استعدادا بالعودة إلى الأساليب القديمة البلاغية والتي ينقَّب عنها في القواميس.وهو الذي يدعو للبساطة والنزول إلى العفويّة ومخاطبة الأكثرية ,وهذا ما خاطب به الفيتوري كما ذكرنا آنفا. فنزار قباني لا ينتظرُ نصيحة تدعوه لرمي أوراقه وأقلامِه والاعتكافِ مع الذكريات والأنا. فالمتتبِّعُ لنتاج نزار بعد هذه المقالة يرفض هذه الدعوة وهو الذي قدّم لنا قصائدَه في أطفال الحجارة وقصيدته " أصهار الله " و " سيرة ذاتية لسيف عربي ".
فالشاعر نزار قباني لا يكترث بهذه الأوامر والنصائح وقد ردَّ على أمثال هؤلاء في مجلة العربي عدد آذار عام ألف وتسعمائة وتسعة وثمانين :
" لا أكترث بما يُطلقون عليَّ وعلى شعري من نعوت، فأنا لم أقلْ في شعري سوى الحقيقة. إنّي لا أحترفُ الإثارة. لكنّني رسمْتُ حبّي بالكلمات على أشجار الحدائق العامة، وأعطيتُ الناس الحقّ في أن يشمّوا أريج هذا الحب.." ويتابع الشاعر حديثه على صفحات المجلة :
" أنا لا أُدجِّل على قرّائي وجمهوري. كنت صادقا معهم على مدى أربعين عاما دون انقطاع .. وفي جميع مراحل هذه السيرة كنت جزءا من التاريخ بعواطفه، بجنسه، بقوميته بوحدته "
هذه هوية نزار، وقد كان صادقا منذ بدايته. صراحتُه لم تتغيَّرْ. لم يرهَنْ نفسه، ولم يبعْ شعرَه لأحد. بل كان الانتماء ُالأكبر بالنسبة له هو الوطن والأمة والإنسان العربي .. ألا يكفيه هذا فخرا ؟ فلم يراهقْ سياسيا واجتماعيا .ولم يتقلّبْ متنقِّلا من مائدة لمائدة بإيعاز. ولم يتكسَّبْ بشعره. إنه لشرفٌ كبير له لم يسبقه إليه شاعر سوى " أبي العلاء المعري " وهذا موقف يضايق الكثيرين ممن يمسُّهم الشاعر بشعره الجريء وقد أجاب عن سؤال وجه إليه في صحيفة البعث عدد /3/4/1988/ :
- أنت تعرف أن الشعب أعطاك حقّّك كما أعطى الفرنسيون " بول إيلوار " ذات يوم ؟
- لا يمكن للشعب إلا أن يعطي الحقّ .. الشعب العربي لا يقبل الدجل، ولا يقبل الغشَّ، ولا يقبل شاعرا يدنِّس عليه ويتلوّن أمامه عشر سنوات أو أكثر ... وبعضُهم كما يقول : " نزار قباني شاعر الجمهور شاعر الرواج ". وهذه تهمة أصبحت مقبولة ... ولكني لا أدجِّل على شعبي العربي ,ولو كنت كذلك كما يزعم الحاسدون فإنني سوف لن أستطيع الوقوف على أقدامي أكثر من أربعين سنة، أربعون عاما وأنا أصعد من منبر إلى منبر.. جماهيري تزداد ولا تنقص.. وقد قال بعضهم .." نزار قباني شاعر قلَّة، شاعرُ مراهقاتٍ، شاعر جنس. وهذا لا بدَّ يزول " وأنا والحمد لله كنت جزءا من التاريخ العربي بعواطفه بجنسه بقوميته بوحدته. يعني لم أنمْ أبدا على مجد. وأنتم تعرفون أنَّ بعض الشعراء لم يستطيعوا أن يلبسوا ملابس عصرهم فسكتوا عن الحاضر, وهم يجتزّون الماضي ولا أريد هنا أن أُسمِّي أحدا .."
فشاعرنا لا يريد لكلمته أن تكون فقاعة ,تموت بلحظتها وتولد لتموت. يريدها مدهشة ومثيرة محركة, ولا يمكن أن تكون كما يريد إذا لم تكن صادقة. وهذا سؤال وُجِّه إليه في مجلة الثقافة العربية الليبية عدد تشرين الثاني عام ألف وتسعمائة وأربعة وسبعين.
- ما هي في رأيك أهم عوامل التأثير الشعري ؟
- تأثير الشعر يكون عبر الدهشة. الشعر هو القدرة على إحداث الدهشة، بغير الدهشة تتحول القصيدة إلى تصريح خال من المفاجآت .. الشعر هو انتظار ما لا يُنتظَر .. مهمّة الشعر أن يعلِّمنا ما لا نعلم .. القصيدة كالحبّ .. إذا فهمنا أن الحبَّ يأتي لتغيير العلاقات المكرسة.
- كل شعر حاول أن يكون مُخلصا للثوابت الاجتماعية هو شعر ساقط، وكلُّ شعر حاول أن يرشوَ ويتزلَّف المؤسساتِ القائمةَ سقط. الشعر الحقيقي قائم على الاغتصاب "
إنّه جوابٌ شافٍ ,ويمتاز بالصراحة والصفاء, فهو لا يحب أن يدور من حولنا ليشرح لنا وجهة نظرنا. يطرح أمامنا رؤيته دون وجل ودون مبررات واعتذارات وتمهيدات مسبقة الصنع. ومن الموضوعات التي أثارت المشاعر وحركت أقلام الصحفيين والنقاد وغيرهم قضيّة ُالمرأة وموقفُه الصريحُ منها.وكذلك انتقالُه من عالم المرأة ودخوله لمخدعِها وتعريتها مع الرجل إلى عالم السياسة والسّباب.
فالشاعر لا يعتبر الشعرَ جامدا أو حجرة مرصوفة لا يجوز نقلُها إلى رصيف آخرَ, فيردُّ على سؤال وُجِّه إليه في مجلة الثقافة العربية اللبنانية :
- ما هو مبرِّر تغيُّر الشاعر في طريقة وصفه أو مواقفه أو مضمونه في انتقاله من مضمون إلى مضمون آخر؟!
- هذا سؤال ليس بحاجة إلى إجابة في الحقيقة... وليس بإمكانك أن تسألني ما هو المبرِّر ؟! اسأل التاريخ. اسأل خمسة حزيران. اسأل خنجر إسرائيل المزروع َفي خاصرتنا. لذلك أنا شخصيّا لا أعترف بالتحوُّل.. فأنا نزار قباني نفسُه. المسرح هو واحد ولكن موقف الشاعر هو الذي يتغيّر.. وأريد ن أضيف شيئا آخر. وهو أنه إياّك أن تعتبر الشاعرَ شكلا هندسيا كالمثلث وكالدائرة والمربّع .."
إنّ شاعرَنا استلهم إجابتَه من الواقع, واعتمد على المنطق .فصاغها بأسلوب فنِّيٍّ بديع. فلا يمكن لشاعر أو مبدع أن يضع مشاعره في قفص أو ثلاجة لا يتجاوزها. فالظروف تتحكّم به. والشاعر يحمل روحه على جناح الحب ويطير به. حبُّ المرأة، حبُّ الوطن، حبُّ النقد، فهذه صرخة من صرخات نقده اللاذعة فصَّلها بقالب شاعريٍّ شفّاف.
الحب يا حبيبتي / قصيدة جميلة مكتوبة على الحجر /
الحب مرسوم على جميع أوراق الشجر / الحب منقوش على / ريش العصافير وحبّات المطر / لكنْ أيَّ امرأة في بلدي / إذا أحبَّتْ رجلا / تُرمَى بخمسي حجر ../
وقد أشاد الناقد محيي الدين صبحي بظاهرة الذوق لدى شاعرنا نزار قباني في مجلة الثقافة العربية الليبية عدد تشرين الثاني عام ألف وتسعمئة وأربعة وسبعين :
" والقارئ الذي يرجع إلى المقتطفات أو يقيس معظم قصائد نزار بهذا المقياس سوف يكتشف أن معظم خصائص الشخصية الشعرية لدى نزار يرجع إلى موقف المتذوِّق فقد وصف حالة الظنون .. "
لا تُسرعي، فالأرض منك مزدهرة / ونحن في بحيرة معطَّرة /
إلى صديق .. أم ترى لموعد ؟ / تائهة كالفكرة المحرّرة /
وكذلك يرى الناقد اهتمامه بالجزئيات والتنقُّلات من مكان لآخر ومن موقف لآخر. واهتمامه بالجانب اللفظي والحركة الانفعال :
انتقي أنت ِالمكان / أيَّ مقهى، داخلٍ كالسيف في البحر /
انتقي أيَّ مكان ... / إنني مستسلم للبجع البحريِّ في عينيك /
يأتي من نهايات الزمان / عندما تُمطر في بيروت / أحتاج إلى بعض الحنان /
فادخلي في معطفي المبتلِّ بالماء / ادخلي كنزة َالصوف .. / وفي جلْدي .. وفي صوتي /
كُلي من عشبِ صدري كحصان .. " ( ديوان بيروت والحب والمطر .. )
فأيْنما نظرنا في دواوينه نجدْ وصفا لقلق أو حيرة أو انفعال ,يعتمد على تلك الصور الحسِّيّة بالإضافة إلى تلك الألفاظ التي ترسم معالم الصورة. ودليلُنا على ذلك قصائدُه المغناّة " أيظنّ – ماذا أقول له ؟ - رسالة من تحت الماء ... رسالة من امرأة حاقدة .. قارئة الفنجان ..
ويمكننا القول بأن النقد انصبَّ على نزار منذ بداياته الأولى على موقفه من المرأة واهتمامه الزائد بقضاياها على حساب القضايا العامة التي تعيشها الأمة العربية. فقد اعتبرَه النقادُ شاعرَ لذَّة وشهوة وفضيحة وهو الذي قال في إحدى مقابلاته في مجلة العربي :
" حوَّلْت ُالمرأة في شعري من ذبيحة، من منسفٍ يُؤكَل بالأصابع إلى زهرة فوّاحة في حديقة المجتمع ... ولا يمكن تحريرُ مجتمع والمرأة فيه جارية .."
فشاعرنا يتأثَّر باللحظات الحاسمة والمواقف المؤثِّرة. فلا يمكن له أن يتصوَّر الصورة الجميلة، وينقلها لنا وكل ما حوله سيِّئ .فها هو يُدلي قائلا " لقد سقطتِ الجماليّات تحت إطار هذه البشاعات ".
إذا كان عصري ليس جميلا / فكيف تريدينَني أن أجمِّل عصري /
وإن كنتُ أجلس فوق الخراب / فكيف سأهديك باقة َزهرٍ ؟ /
وكيف أحبُّك ؟ / حين تكون الكتابةُ رقصا / على طبقٍ من نحاس /
وإن كانت الأرض مسرح نهر / أحبُّك برقا يضيء حياتي /
وقنديلَ زيت بداخل صدري / فكوني صديقةَ حرِّيتي /
وكوني ورائي بكلّ حروبي / وسيري معي تحت أقواس نصري ../
إذا كان شعريَ لا يتصدّى، لمن يسلخون جلود الشعبْ / فلا كان شعري / ..
فلا يمكن أن يمارس الراحة والحبَّ في عصر حافل بالجراح، تفوح منه رائحة الدم والغدر والخديعة. لذلك ألغى من ذهنه تلك المرأة التي تعيش لنفسها غيرَ مبالية بما يجري حولها فقال :
" أنا لا أستطيع أن أحبَّ امرأةً لا مباليةً تجاه هموم الوطن، وقضايا الأمة. لا تهتمُّ بقراءة الجريدة ولا تتابع أبناء ثورة الحجارة .."
وهكذا لا يفصل الشاعر بين حب المرأة وحب الوطن فكلاهما يصبُّ في نهر الآخر ويستمد من الآخر. فالمرأة ملهمة الشاعر والوطن عقد حب موثق. ولا يريد الشاعر أن يحمل الرجل هم قضيته لمفرده ويتناسى دور المرأة. وهذا موقف إيجابي يحلو لنزار أن يزهوَ به كيف لا وهو الذي سعى جاهدا لتحرير المرأة وإخراجِها من قبوِها المظلم وتأمَّلْ هذا البيان منه على صفحات جريدة البعث /31/3/1988/ :
" أنا أعتقدُ أنه خلال أربعين عاما استطعتُ أن أحفر ثقوبا في الوجدان العربي، وأحوِّلَ المرأة من ذبيحة تُؤكَل بالأصابع إلى زهرة تُشَمُّ بالأنف .. المرأة في الأربعينيات كانت منسَفا. أنا حوَّلْتها إلى دكّان بيع الأزهار.. وأنا كسرْتُ أسنان الرجال ومخالبَهم .. حتى في أعماق المثقفين كان أبو زيد الهلالي لا يزال متربِّصا.. وكنْتُ أوَّل من نادى المرأة ( يا صديقتي ). أمّا عن المعارك فلا أؤمنُ بقصيدة دون معركة. كلُّ قصيدة يجب أن تُشْعل نارا تُحدث ُزلزالا.. أنا شاعر مشى أربعين عاما على هذا الخنجر. ونام على المسامير مثل فقراء الهند. وأحرقَ نفسه مثل البوذيين على ورقة الكتابة .."
بعد هذا أستغرب موقف أولئك النقاد الذين جعلوا منه سلّما للشهرة. ألم يقرؤوا مقابلاتِه ومواقفَه ؟ ألم يرصدوا مسيرته الشعرية ؟.. ألم يتأمّلوا الوجه الآخرَ من شعره ؟
لاشكَّ أنهم جرَوا وراء حياته متناسين فكرَه ومواقفَه الجادَّة. وهم أولى بها. ويعرفون جيّدا أنَّ أبوابَ السلطة كلَّها مفتوحة له. ولكنه رفضها وهو في السلك الدبلوماسي ، وفضَّل أن يكون سفيرا للكلمة. وأراد أن يأكل من مائدته الخاصة.
ألم يقرؤوا قصائدَه في المهرجانات الأدبية ؟ ألم يقرؤوا ما كتبَه الدكتور إحسان عباس في كتابه " اتجاهات الشعر العربي المعاصر "
" فنزار لم يتحدَّثْ عن الحبّ بمعناه العاطفي الذي يظنُّه الكثيرون. إنما تحدّث عنه بمعنى جديد، حين جعله طَرَفا في قوَّتيْ صراع كبيرتين " ص183
وفي مكان آخر يقول :
" سيظل ُّنزارٌ يتحدّث عن الحب مستغلا طواعيةَ اللغة الشعرية التي مرَّن قلمه عليها, وسيظلّ يغيِّر المواقفَ فحينا يتحدَّث عن الشاعر المحبِّ، وحينا يتحدث عن المرأة المحبوبة ,وسيظل الحبُّ بمعنى رؤية الجمال وضروبِ الصراع في الحياة، والشاعرُ هو الملاذ الأخير لأنّه وحدَه رابطةُ الحياة " ص184
فالشاعر نزار قباني تمكَّن من تجديد الشكل الشعريِّ فبسط أداتَه ,وجدّد بألفاظه, وأدخل اللغة المأنوسة المطروقة والمألوفة. وهذه نقطة مضيئة في مسيرته الشعرية وقد عبّر الناقد جلال فاروق الشريف في كتابه " الرومنتيكية في الشعر العربي المعاصر "
" وقد فرض عليه أمران : أحدُهما أنه يريد أن يجعلَ الشعر كالخبز والماء عند الناس، والآخرُ موضوع المرأة بالذات الذي جعله محور شعره. فإيصال ُالشعر إلى الجميع يقتضي تبسيط َالأداء. أيَّ الخروج على لغة الشعر التقليدية. والمرأةُ كموضوع دائم يتناول أشياءها وحالاتِها ومشكلاتِها يقتضي بدوره ليس لغة ًمبسطة وإيقاعات ٍخفيفة وأوزانا لطيفة وحسب. وإنما مفردات مألوفة أيضا. وهنا يكمن سرُّ كلِّ التجديد في الشكل الذي قدمه نزار قباني " ص 112
هذه وجهات نظر نقديّةٌ مبنيّة على خبرة وتجربة موضوعية، لا يرى الناقد من ورائها إلا الموضوعيّة والتحليلَ. فهو يجتهد ويتعمّق. وقد يخطئ وقد يصيب. وقد وضّح نزار قباني علاقته مع الشكل الفني للقصيدة في كتابه " عن الشعر والثورة والجنس " ومما جاء في هذا المنحى :
" أنا أصرّ على أن الشكلَ زيٌّ يأتي ويروح. وأنا ضدُّ الوثنية الشكلية بكل أنواعها، وضدُّ كل الأشكال الهندسية التي تفرض عليذَ حصارا طرواديا. لغتي الشعريّة هي المفتاح الحقيقي لشعري. وأهم ُّمنجزاتي أنني سافرتُ من القاموس وأعلنْت عصياني على مفرداته وأحكامه البوليسية ... طبعا لم أُسقطِ القاموس كلَّه من حسابي لأنَّ اغتيال لغةٍ بأكملها هو نوع من الجرائم المستحيلة، أنا قتلْت من المفردات ما هو مقتول فعلا، أيّ المفردات التي تصلَّبتْ شرايينُها وتخشَّبت مفاصلُها. ولم تعد قادرة على المشي أو على الكلام ... إنني ضدُّ الولادات القيصرية في الشعر ومهمَّتي أن ألتقط الشعرَ من أفواه الناس وأُعيده إليهم .. ص 31
وما قاله نزار قاله أكثرُ النقاد بأن اللغة تتطوّر، ولغةُ الشعراء تنتمي لعصورهم وهذا أمر منطقيّ، وهذه الدعوة إذا تبنّاها الشاعر نزار فليس لضعف, وكلُّنا يعلم إمكاناتِه اللغويةَ ومقدرتَه الإبداعيةَ في النثر والشعر.
بعد هذا لا بدّ لنا إلا أن نُدليَ بآرائنا حول تلك الحملات التي وُجِّهت إليه بأشكالها المختلفة وصورِها المتعدِّدة من محبٍّ مقدِّر للأدب وللكلمة المؤثرة الجميلة, إلى مُبغض أو مرتزق متحامل ,يسعى وراء تنفيذ ما يُطلَبُ منه. فانشغالُ النقاد على الساحة العربية خلال أربعين عاما هو أكثرُ دليل على استمراريّة قدرته، وتفرُّد الشاعر. فهو يشكِّل تيارا شعريّا ونهجا لا ظاهرة ًعارضة سرعان ما تزول. وقد شكَّك النقاد في انتمائه القومي بسبب لهجته القاسية اللاذعة وتقريعه لأبناء جلدته بقصائدَ ,عمَّت الأرجاء ,وردَّدها العربيُّ في كل قطر. فنزار قباني دخل وجدان َكلّ عربي واع. ودخل كل غرفة وبيت ومخدعٍ دون جواز سفر رسميٍّ وتعقيدات. جوازُ سفره صدقُه وعفويَّتُه ووضوحُه. وأمامنا الكثير ُمن قصائده التي تعبِّر عن هذا الانتماء " هوامش على دفتر النكسة " إلى " بيروت الأنثى " وقصائد المهرجانات الأدبية المتعدِّدة ... فعذره أنَّه انفعاليٌّ يعبّر ويحب ّويغضب كطفل/ وهو قال ذلك في مهرجان الشعر التاسع في بغداد عام تسعة وستين وتسعمائة وألف :
عندما تبدأ البنادق بالعزف تموت القصائدُ العصماءُ
من هم الأبرياء ؟ نحن جميعا حاملو عاره .. ولا استثناء
عقلُنا، فكرُنا، هزالُ أغانيـ نا رؤانا، أقوالنا الجوفاء
زعموا أنني طعنْتُ بلادي وأنا الحبُّ كلُّه والوفاءُ
أيريدون أن أمصَّ نزيفي لا جدارٌ أنا ولا ببَّغاء
ما احترفتُ النفاق يوما وشعري ما اشتراه ُالملوك والأمراء
كلُّ حرف كتبْتُه كان سيفا عربيّا .. يشعُّ منه الضياء
أصدقائي؛ حكيتُ ما ليس يُحكى وشفيعي .. طفولتي والنقاءُ
افْهموني فما أنا غيرُ طفل فوق عينيه يستحمُّ المساء
هذا هو الطفل والمجنون الذي تدعونه وتتّهمونه. يقولها صادقة. يؤمن ببراءة الأطفال وعفويتهم. فالوطن في عينيه وإن آلمه وهجاه. ولكنّه ألمُ المحبِّ لوطنه. فنزار قباني بحاجة لمن يفهمُه وقد أطلقَها عميقة " افهموني " يشعر بتحاملهم عليه ويعرف السبب فيرمي النقاد بالتهم ويعتبرهم أُجَراء :
لأنّني لا أمسحُ الغبار عن أحذية القياصرة
لأنّني أقاوم الطاعون في مدينتي المحاصرَة
لأنّ شعري كلَّه / حربٌ على المغول، والتتار، والبرابرة /
يشتمُني الأقزامُ والسماسرة ...
إنّنا أمام شاعر حسّاس تحرِّكه المواقف ُالمثيرة .ويهوى الإثارة والدهشة. رَصَد دقائقَ الأمور ,والتفت إلى قضايا مصيرية ,تَمسُّ بناءَ الإنسان العربي. ودعا إلى حسن العلاقة مجسِّدا دوْرَ الفكر وتوظيف الثروات البشرية والطبيعية فقال :
كان بوسع نفطنا الدافقِ في الصحارى / أن يستحيل خنجرا / من لهب ونار /
ولكنَّه / واخجلةَ الأشراف من قريش / واخجلة الأحرار من أوسٍ ومن نزار /
يُراقُ تحت أرجل الجواري /.
وفي قصيدة " الممثلون " يعلو صوتُه بلا وجل من سلطان :
حين يصير الحرف ُفي مدينة / حشيشة ًيمنعُها القانون /
ويصبح التفكيرُ كالبغاء، وكاللواط والأفيون / جريمةً يَطالُها القانون /
حين يصير الناس ُفي مدينةٍ / ضفادعا مفقوءة َالعيون / فلا يثورون ولا يشكون/
ولا يغنّون ولا يبكون / ولا يموتون ولا يحيون / يسقط كل شيء .../.
أبعدَ هذا شكٌّ في شاعريَّته ومواقفه القومية. فلا بدَّ من العودة إلى دواوينه ومقابلاتِه الصريحة وقد كشفَ نفسَه وحقيقة َما يجري حوله في قصيدة " إيضاح إلى قرّاء شعري "
ويقول عنّي الأغبياء / إنّي دخلت ُإلى مقاصير النساء .../ وما خرجت /
ويطالبون بنصبِ مشنقتي .. لأنّي / عن شؤون حبيبتي ... شعرا كتبت /
أنا لم أتاجرْ / مثل غيري بالحشيش / ولا سرقت .. ولا قتلت /
لكنّني .. أحببْتُ في وضح النهار / فهل تراني قد كفرت /
ومن المناسب ان أذكِّر بقصيدة " الثقب " التي نشرت في مجلة الشراع وقدَّمها في أمسية شعرية في الأردن. وقدم بها مقدمة نثرية جاء فيها أمام الحضور :
" واعترف لكم بادئ ذي بدء. أني شاعر غيرُ منضبط وغير مريح، وغيرُ مؤدَّب .. وأنني لم أقصَّ أظافري الشعريةَّ منذ أن كنتُ في العاشرة من عمري ... عندما يختار الشاعرُ ألا يقولَ شيئا .. وألا يُغضِب أحدا .. وألاّ يعتدي على عذرية نملة .. يقولون عنه مؤدَّب. "
أعتقد جازما أنّه لم يمرَّ على أدبنا قديمِه وحديثِه شاعر ٌطرحَ ما طرحضهُ نزار، وتجرَّأ جرأة نزار. فجرأةُ نزار علنيَّة ,لا هدنة َفيها, ولا مجاملة. ويكبُر في القلب عذابُه، وتُؤلمُه جراحُ العروبة، وتُقلقُه مصائبُها وأمراضُها. فيقسو عليها ويشعر بقسوة العتاب والحساب ,ولكنّه يلتمس العذر ممّا بدر منه .وخاتمة بحثنا أبيات من قصيدة " أنا يا صديقة متعب بعروبتي " وقد بعثَها إلى جامعة الدول العربية في تونس ونشرتْها مجلة الجيل. أعتقد أن النقد والأدب والتاريخ سينصف هذا الشاعر في يوم من الأيام :
من أين أدخلُ في القصيدة ي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
جهاد أحمد الهاشمي
إدارة
إدارة
جهاد أحمد الهاشمي


عدد المساهمات : 636
نقاط : 679
السٌّمعَة : 2
تاريخ التسجيل : 27/06/2010

          مقالة " نزار قباني بين مطرقة وسندان النقاد" Empty
مُساهمةموضوع: رد: مقالة " نزار قباني بين مطرقة وسندان النقاد"             مقالة " نزار قباني بين مطرقة وسندان النقاد" Icon_minitimeالثلاثاء 7 سبتمبر 2010 - 23:07

مقال جميل وله هدف اول مرة افكر في المقارنات والمفارقات دي اشكرك استاذ محمود اسد على هذا الفكر الثاقب
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
زينب بابان
مشرفة عامة
مشرفة عامة
زينب بابان


عدد المساهمات : 10543
نقاط : 16309
السٌّمعَة : 1
تاريخ التسجيل : 04/05/2010
العمر : 52

          مقالة " نزار قباني بين مطرقة وسندان النقاد" Empty
مُساهمةموضوع: رد: مقالة " نزار قباني بين مطرقة وسندان النقاد"             مقالة " نزار قباني بين مطرقة وسندان النقاد" Icon_minitimeالثلاثاء 7 سبتمبر 2010 - 23:24

الاستاذ محمود اسد

مشكور على المقالة الجميلة

دمت مبدعا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
أحمد الهاشمي
مدير عام
مدير عام
أحمد الهاشمي


عدد المساهمات : 10896
نقاط : 13569
السٌّمعَة : 7
تاريخ التسجيل : 03/04/2010

          مقالة " نزار قباني بين مطرقة وسندان النقاد" Empty
مُساهمةموضوع: رد: مقالة " نزار قباني بين مطرقة وسندان النقاد"             مقالة " نزار قباني بين مطرقة وسندان النقاد" Icon_minitimeالأربعاء 8 سبتمبر 2010 - 14:49

الاديب القدير

محمود اسد

بارك الله لكم سيدي

قمة الروعة والجمال

افكار ومقالات هادفة

وقصائد نسعد بها

جزاك الله خيرا

وكل عام وانتم بخير
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
مقالة " نزار قباني بين مطرقة وسندان النقاد"
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الشعب الليبي تحرر من الطاغية فوقع بين مطرقة المسلحين وسندان الغزاة..أحمد الهاشمي
» إن يسألوكِ...نزار قباني
» دعوة إلى حفلة قتل...نزار قباني
» سيدة النساء...نزار قباني
» إيضاح إلى من يهمها الأمر..نزار قباني

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
واحة الأرواح  :: أقسام الكتاب و الأدباء و الشعراء :: واحة الأديب الأستاذ..(((محمود أسد)))-
انتقل الى: