محطة من عمري هنا

كنت في بلدي أعيش مدللاً كطفلٍ صغيرٍِ عزيز على قلب أمّه ، دارت بي الأيام حملتني مرةً إلى بلاد عربية ، وأخرى أعجمية ، وثالثة بلادٍ غريبة الأطوار والأعراف ، بلاد كل ما فيها عجيب وغريب ، إلى الهند حيث الأرض الغنّاء بالخيرات ولا بركة فيها لهم ، لكونهم لا يعرفون مصدر الحياة والوجود الحقيقي أو يتجاهلوه ، فالماء هنا لا تنتفي منابعه ، والزرع هنا ينبت في كل مكان ، وحيواناتهم تملأ الشوارع والأزقة بحيث ترى الماعز ، والأبقار ، والكلاب ، والخنازير، والجاموس تسير في الشارع ، وتدخل أي مكان بحرية كاملة ــ حتى خيّل لي حريتها أكثر من حرية البشر ــ وهذا تحسباً من أن يكون شخص ما يعبد هذا الحيوان أو ذاك فتجرح كرامة آلهته .
لهم ديانات كثيرة أحصيت منها ما يقارب ( 372 ) ديانة ، منها ديانات غريبة وعجيبة ، وكيف لعاقل استيعابها أو مجرد اعتناقها ، فمثلاً عندهم من يعبد ( العضو الذكري ) وهؤلاء كاهنهم يسير في الشارع عارٍ بلا ملابس كما ولد أول يوم ، والناس يسيرون خلفه من كهنة ومعبودين يعظمون مكانته ... وآخرون يعبدون ( فروج النساء ) .. وهذه العبادة من اغرب ما رأيت لأنهم يطنون أن ( عضوي الذكر والأنثى ) من رزقهم بالحياة ، فهم إذن الإله الأعلى ... ورأيت أيضاً من عباداتهم أيضاً من يقدس الحيوانات كالبقر والقرود وغيرها ، ومنهم من يعبد غاندي وآخر يعبد بابا صاحب ( رجل قام بتحريرهم من العبودية كما يقولون ) ، ومنهم من يعبد الشمس ، ومن يعبد القمر ، ومن يعبد النار ، ومنهم من يعبد كانيش ولا أدري من هو كانيش لأن السؤال عنه بهكذا طريقة يعتبرونه استهزاء ، ومنهم من يعبد رجل اسمه موريا وهذا له تمثال خاص يقولون أنّه ينبع الماء من بين أصابع يديه ... وغيرها من الديانات المختلفة ، ومعابدهم زاهية فاخرة واسعة أكثر من سعة بيوتهم .
وأما أكلهم ، فمنه الحار جداً بحيث لا يستطيع شخص عادي مثلي أن يتحمل نصف ملعقة شاي صغيرة منه لشدّة حرارته ( الحرارة من كثرة استخدامهم للفلفل الحار والبهارات اسبايسي ) ، ومن أكلهم أكلنا المتعارف من اللحم ، والسمك ، والدجاج ، والخضراوات ، ولكن الناس هنا مختلفون من هذه الناحية ، فكثير من الهنود لا يأكلون اللحوم الحمراء ، لظنّهم حرمتها لأن بعض آلهتم حيوانات ، ومنهم من يأكل الخضراوات والفواكه فقط ( نباتيون ) ، أما المسلمون هنا ، فأكلهم طبيعي من اللحم وغيره مما موجود في السوق ، إلا ما هو محرم شرعاً .
أما لغاتهم ؛ فهي عديدة كدياناتهم ، واللغات الأكثر شيوعاً ، واستخداماً هي خمسة عشر لغة منها ( الأوردية ، والماراتية ، والإنجليزية ، والهندية ......ألخ ) ويقال أن لغاتهم أو لهجاتهم تقارب المائة .
أما ملابسهم ، فألوانها ناصعة وزاهية ، يميلون إلى الأحمر الناري ، والأزبري ، والماروني ، والوردي ، والأصفر ، أكثر من يميلهم لبقية الألوان الأخرى . الرجال عادة يلبسون الملابس البيضاء ، أما النساء فالمشهور في أزيائهن الساري الهندي ( وهو عبارة عن قماش طويل ستة أمتار ) لم تمرّ عليه أبرة الخياط ، يلف حول جسم المرأة لفاً ، وهو مطرز بالألوان الذهبية اللامعة ، أو ببعض الحلي من الخرز ، أو الأزرار المنوعة ...
حياتهم بسيطة في ظاهرها ، معقدة في باطنها ، لا يعرف لهم حديث ثابت ــ متقلبوا المزاج ــ وأنت تسير في الشارع تجد رجلاً قد توسد يده ونام في الطريق يقضي قيلوة أو فترة راحة بسيطة ، أو إمرأة دون الاهتمام بمن في الشارع من الناس ، أو تجد عائلة نصبت خيمة على جدار احدى الحدائق وجعلوها منزلاً لهم .
أما وسائل نقلهم ما زالت في اعتقادي بدائية نوعاً ما رغم تطورهم الصناعي ، فعندهم ( الركشة ) هي الأكثر استخداماً في التنقل داخل المدن ( وهي عبارة عن دراجة نارية بعجلات ثلاث ، مصنوع فوقها مظلة وفيها كرسي خلف السائق يسع لثلاثة أفراد ) ، السيارات قليلة في المدن ، ولكن الطائرات ، والقطارات والسيارات حديثة ، وتستخدم في التنقل خارج المدن أو بين المدن الهندية ، لأن كثير من المدن تبعد عن بعضها مثلاً ( 150 ) كليو متر إذا اقتربت ، والبعيدة آلاف الكليو مترات ، فيكون السفر إليها أما بواسطة الطائرة أو القطار ...
لكنهم على الرغم من همجية حياتهم ، عندهم احترام شديد للقانون ، والنظام ، رغم عددهم الهائل ، وفقرهم الشديد ، فالنظام هو النظام ... هنا تجد حياة غريبة ، مليئة بالتناقضات ، فهم أذكاء أغبياء ، متطورون متخلفون ، همج نظاميون ، يعملون بصمت ، وكثيرا ما يتكلمون ، غرباء بكل شيء ... فمثلاً بروفسور في الطب الباطني يترك عمله منصرفاً إلى نحت على الأرض لا صورة واضحة له ، رمز لإلاه ، يقف حافياً أمامه وبصمت شديد ، ثم يهمهم بكلمات ، ولوقت طويل ، ثم يجلس مقابله باكياً ، ماذا يفعل ألم يمرّ عليه يوم وأثناء دراسته الطويلة معنى الصخرة أو النحت ؟! ..
وهذه محطة مرّ بها عمري القصير ...
( كل ما كتبت فيه شواهد صور وفيديو لكني لا أعرف كيف أحملها ... !! )
واعتذر عن بعض الألفاظ فيها ، أقتضى الحال ذكرها

أبو حسن الرماحي