واحة الأرواح
مرحبا بكم في واحة الأرواح
واحة الأرواح
مرحبا بكم في واحة الأرواح
واحة الأرواح
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

واحة الأرواح

أحمد الهاشمي
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخولeahmea@yahoo.com

 

 الوفاء...لزمن الحب والحرب (2)

اذهب الى الأسفل 
3 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
قصي المعتصم-1
كبار الشخصياتvip
كبار الشخصياتvip



عدد المساهمات : 21
نقاط : 45
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 15/10/2010
العمر : 69

الوفاء...لزمن الحب والحرب (2) Empty
مُساهمةموضوع: الوفاء...لزمن الحب والحرب (2)   الوفاء...لزمن الحب والحرب (2) Icon_minitimeالإثنين 25 أكتوبر 2010 - 12:16

الوفاء...لزمن الحب والحرب (2)

( أماني ضائعة)

قصي المعتصم

جاءت الليلة الثانية وكنت متشوقاً لسماع قصة أخرى من ذاكرة ذلك الرجل، خرجت إلى ساحل البحر كعادتي كل مساء، لكن مشاعري وأحاسيسي لم تعد كما كانت من قبل، فالرجل الذي تعرفت عليه وبقيت معه يوم أمس حتى الفجر جعلني أشعر بأن شيئاً ما بدأ ينمو بداخلي ، إحساس بالألم، إحساس بقسوة الزمن، بالظلم، بالموت، بالضعف، لا ننا لم نقدم لبلدنا ما قدمه غيرنا، ولم نعرف قدر هؤلاء الرجال الذين لولاهم لكنّا .... في زوايا النسيان..

كنت مصمماً أن أسمع أكثر ما يمكن مما يخبئه في أعماقه عسى أن يأتي يوم ، يقرأ الآخرون ما سأكتبه من ذاكرته وآلامه ومعاناته.....لكي نقدم بعضاً من الوفاء..لأهل الوفاء..

جاء بعدي بوقت قصير، تعمدت أن أجلس بعيداً عن المكان الذي يجلس فيه كعادته كل ليلة..توقف قبل أن يصل إلى مكانه، تطلع يميناً وشمالاً، لم ينتبه لوجودي قريباً منه، تطلع إلى البحر للحظات، وكأنه يلقي عليه تحية المساء، ثم تقدم وسحب كرسياً واتجه إلى الطاولة المثبتة بالأرض قرب الساحل وجلس. أخرج سيجارة وأشعلها، سحب نفساً طويلاً، ثم نفث الدخان إلى الأعلى،وكانه يخرج معها همومآ لاتنتهي ، حينها اقتربت منه وألقيت عليه التحية، استقبلني بكل ود، لم أجلب معي كرسياً للجلوس دون أن أشعر برغبته بأن أشاطره خلوته، واحتراماً لخصوصيته.

بادر بالحديث: "يبدو أنك أرهقت من سهرة يوم أمس مما جعلك اليوم غير راغب بأن أكمل ما أردت أن أحدثك به".
أسعدني قوله هذا، فكلماته تعني أنه يدعوني للجلوس، وبذلك لا أكون قد فرضت وجودي عليه، وعرفت أن الرجل بدأ بالارتياح لجلوسي معه ، ونيساً لوحدته.
"بالعكس"..أجبته: "فأنا سعيد لوجودي معك هذه الليلة والليالي القادمة".
قال: "أهلاً وسهلاً بك ضيفاً دائماً"
ذهبت وجلبت كرسياً وجلست إلى يمينه وليس مقابله كي لا أحجب عنه منظر البحر الذي يعشق..
دقائق صمت مرت وهو شاخص بنظره صوب البحر، وكأنه يستعيد بذاكرته أحداثاً مضت، ثم التفت نحوي قائلاً: "كل حكاية سأرويها لك ستشعرني بالراحة بعض الشيء، لأنك ستشاطرني حمل همومها وذكرياتها وستخفف من معاناتي، وما دمت راغباً ومتشوقاً لسماع المزيد، فلن أبخل عليك، بكل صدق سأروي لك مشاعر وأحاسيس أناس، أحببتهم وكانوا وسيظلوا في القلب دائماً.
وكانت القصة الثانية.......

( حقائب السفر )

بعد قيام القوات الإيرانية ليلة 9-10 شباط 1986 باحتلال( مدينة الفاو) التابعة لمحافظة البصرة جنوب العراق، دارت معارك ضارية لوقف تقدم تلك القوات نحو مدينة البصرة، لم تكن هناك قوات كافية حينما قاموا بشن هجومهم واحتلال تلك المنطقة، لكن وصول تعزيزات ضخمة إلى ذلك القاطع أوقفت تقدم تلك القوات وأجبرتها على اتخاذ مواقع دفاعية، حيث بادرت القوات العراقية ، بعد أن استطاعت إيقاف زحف العدو ، وبدأت بشن هجمات مقابلة على طول الجبهة في محاولة لاستعادة المواقع التي تم احتلالها.
كانت وحدتنا (كتيبة مدفعية الميدان/16) ضمن الوحدات التي صدرت إليها الأوامر بالتحرك لقاطع( الفاو) لتقديم الإسناد الناري لقواتنا التي تشن هجمات لاستعادة تلك المواقع ، تحركنا من موقعنا شرق البصرة إلى (الفاو) واتخذنا موقعاً بجانب الطريق الاستراتيجي(الطريق الرئيسي من البصرة نحو الخليج العربي) وهو الطريق الوسطي بين طريقين أحدهما ساحلي والآخر يمتد بجوار شواطئ شط العرب.
كانت مياه الأمطار خلال الأيام التي مضت قد كونت بركاً واسعة من المياه وكانت سبباً بتحديد أماكن انفتاح وحداتنا ومنعتنا من الانفتاح بعيداً عن الطريق لصعوبة دخول ساحبات المدافع وعجلات العتاد، خاصةً وأن أرض( الفاو) رخوة وطينية بعض الشيء.
أنهينا انفتاحنا واعتمدنا على الخرائط لتحديد مواقع العدو و قطعاتنا، لم أكن قد دخلت أرض الفاو من قبل، كنت أسمع بها فقط، واليوم أنا على أرضها للدفاع عنها، وبقينا بانتظار الأوامر التي ستصدر لتنفيذ الواجبات اللاحقة.
أواخر شباط 1986 كان يوماً مشمساً، وبالرغم من ذلك كان الجو بارداً لإحاطة المنطقة بالمياه من كل الجهات تقريباً، إضافةً إلى المسطحات المائية التي تحيط بنا جراء الأمطار في الأيام الماضية.
كنت ماراً من أمام مقر الكتيبة وإذ بسيارة عسكرية (واز) تنزل من الشارع باتجاه المقر، انتظرت لأرى من القادم، توقفت بجانبي، ونزل منها (م.أول جرجيس أحمد محمد أمين) كان ضابطاً مجنداً، كردياً، من مدينة أربيل شمال العراق، طيب الخلق، محب لكل من حوله، الكل يحبه، مرحاً وودوداً، لا يتردد بمساعدة من يطلب مساعدته، خجولاً، كان أخاً لكل المقاتلين، لم أره مرة إلاّ والابتسامة تعلو وجهه، نشأت بيني وبينه علاقة ود واحترام وأصبحت صداقةً قويةً.
كان شجاعاً لا يهاب الموت، ولا يتردد بتنفيذ أي واجب يكلف به مهما كانت صعوبته، كان إنساناً بكل ما تعنيه تلك الكلمة من معنى.
نزل من العجلة التي أقلته من البصرة إلى موقع وحدتنا الجديدة، مبتسماً كعادته، سررت لرؤيته، تعانقنا، قال لي: "أخيراً ..أنهيت كل شيء، أكملت أوراق البعثة العلمية إلى بريطانيا ( لإكمال الماجستير والدكتوراه في مجال العلوم )
وكان الموضوع الرياضيات على ما أتذكر..كان يتابع قبوله من مدة بانتظار صدور كتاب تسريحه من الجيش للالتحاق بالبعثة العلمية.
وتابع حديثه: "أنهيت كل المعاملات وحجزنا تذاكر السفر بعد عدة أيام ، وبعنا الزائد من أغراضنا، وزوجتي تنتظرني الآن بفارغ الصبر و أصرت أن أضع كل ما أحتاجه بحقائب السفر، لذا جئت حتى من دون حقيبة اليد ، بعد أيام سأبدأ حياة جديدة، سأكون في بريطانيا لخمس سنوات".
قالها وكأنه يطير من الفرح، لقد أمضى ومن بعده زوجته شهراً وأكثر لإكمال متطلبات القبول والدراسة وموافقة وزارة الدفاع و..و..و..و...حتى جاء هذا اليوم ومعه كتاب تفرغه للدراسة وتسريحه من الخدمة العسكرية، لم يجلب معه حتى حقيبة يده الشخصية، كان يأمل أن يجد الآمر ليوقع كتابه ويعود بنفس اليوم إلى أربيل.
وصل آمر الكتيبة بعد دقائق، وحال وصوله استدعى آمري البطريات وضباط الرصد لاستطلاع المواقع الأمامية، وتحديد إحداثيات المواقع وتسجيل أهداف المدفعية لاستخدامها لاحقاً في الدفاع أو الهجوم، كان أمراً روتينياً نقوم به حال دخولنا أي قاطع عمليات جديد، حيث تسلم المعلومات إلى مواقع القيادة للعمل عليها لاحقاً.
حضرت أنا عن بطريتي، وم. محسن عن الثانية، وجرجيس عن الأولى، وحضر نقيب ودود ليكون آمراً لمجموعتنا الاستطلاعية.
سلم جرجيس على آمر الكتيبة، وكان يحترمه كثيراً، ويثق بعمله، قال له:" هل جلبت أمر تسريحك؟".
أجابه: "نعم سيدي".
قال: "وأين أمر بطريتك؟"
أجابه: "ذهب صباحاً لإجراء امتحان إحدى الدورات التي تنتهي اليوم".
قال له: "حددوا ضابطاً ليذهب بدلاً عنك".
فأجاب جرجيس: "عفواً أنا سأذهب سيدي، وسأوجزآمرالبطرية بما سنقوم به حين عودته وسأعطي المعلومات لموقع القيادة".
قال: "حسناً..حال عودته توجزه بما تم ، واخبر مكتب الوحدة بتحضير كتابك لأوقعه وتذهب..ومبروك مقدماً".
ذهبنا نحن الأربعة إلى الحافات الأمامية لقطعاتنا، تعرفنا على مواقعها ومواقع تواجد العدو، ضمن قاطعنا الأوسط الذي كلفنا بتأمين الإسناد المدفعي فيه، سجلنا أهدافنا وأكملنا كافة الأعمال التي تعيننا في انجاز أعمالنا لاحقاً.
عدنا إلى وحداتنا عند الظهر، كنا متعبين، تفرقنا لنأخذ قسطاً من الراحة ونتناول بعض الطعام، لم تمض سوى دقائق حتى أبلغنا بالحضور لمقر الكتيبة لمقابلة الآمر.

توجهنا نحن الأربعة إلى المقر لمعرفة المطلوب منا، أبلغنا آمر الكتيبة أن لواء المشاة(23) قد وصل تواً من شمال العراق إلى الفاو، وهو الآن في موقع تجمع وحدات الآحتياط الخلفية، وتم تنسيب كتيبتنا بتقديم الإسناد الناري لذلك اللواء حين تكليفه بأي واجب قتالي، وطلب منا الذهاب لملاقاة آمر اللواء وضباطه لنعرفهم بأنفسنا وننسق الأعمال اللاحقة وهو سوف لن يذهب معنا بسبب طلب حضوره إلى مقر قيادة العمليات.

ذهبنا إلى المواقع الخلفية التي يتواجد فيها اللواء، كنت أعرف هذا اللواء بأنه لواء مشاة، اختصت واجباته في المناطق الجبلية. وصادف أن عملت معهم لفترة قصيرة عام 1981 ضمن قاطع خانقين.

كان اللواء قد وصل تواً بعد رحلة يومين من شمال العراق إلى جنوبه مع كامل أسلحته وعتاد، وكان التعب والإجهاد واضح على منتسبيه.

التقينا آمر اللواء وبعض من ضباطه وتعرف إلينا وسجل أسمائنا لديه، ومن ثم أخبرنا بأن اللواء تم تكليفه بواجب استعادة مواقع محتلة من قبل الإيرانيون، كانت تلك المواقع يطلق عليها تسمية (عقد) جمع (عقدة) وهي خطوط من سواتر ترابية غير متصلة مع بعض كل من تلك السواتر كان يسمى (عقدة) كان الإيرانيون يتمركزون فيها، كانت مهمتنا استعادة العقد9، 10، 11، وسيتم تحرك قطعات اللواء إلى خط الشروع بالهجوم بعد مغيب شمس هذا اليوم وتستكمل كل الاستحضارات خلال الليل وستبدأ القوات بشن هجومها عند الساعة الرابعة والنصف صباحاً على أن يسبقه بالساعة الرابعة قصفاً تمهيداً عنيفاً لمواقع العدو ويستمر لنصف ساعة بعدها يتم رفع النيران إلى عمق مواقع العدو وتباشر قطعات الصولة بالهجوم واستعادة المواقع الساقطة بيد العدو.

عدنا إلى وحداتنا لتهيئة مستلزمات المعركة، حيث التقينا آمر الكتيبة العائد تواً من مؤتمر لقادة التشكيلات ويبدو أنه كان يصب بنفس الاتجاه وهو الهجوم القادم فجر اليوم التالي.

أوجزنا ببعض التفاصيل والإرشادات قبل توجهنا إلى المواقع الأمامية التي سنباشر منها هجومنا.
كان آمر بطرية جرجيس وهو النقيب (وديع) قد عاد من الدورة و وجه آمر الكتيبة الكلام إلى جرجيس بأن يوجز آمر بطريته بما تم خلال اليوم ليذهب بدلاً منه لانجاز الواجب وأن يستعد للمغادرة لأن كتابه تم توقيعه وباستطاعته الذهاب الآن.
رد جرجيس بكل احترام: "أرجو بأن تسمح لي سيدي بأن أقوم بنفسي بانجاز الواجب لأنني أصبحت مطلعاً على كل شيء، أما نقيب وديع فلا يعرف شيء عما أنجز خلال اليوم وسيواجه صعوبةً كبيرةً قد تهدد حياته إذا ما ذهب إلى تلك المنطقة التي لا يعرف عنها شيء".
وأضاف: "إنشاء الله ينتهي الواجب غداً وسأسافر وأنا مطمئن".
رد آمر البطرية على كلامه بقوله: "لا تهتم بذلك خذ كتاب تسريحك واذهب في طريقك".
أجابه: "عفواً سيدي لن أتخلى عنكم في مثل هذا اليوم، لقد بدأت بالاستحضارات للواجب ولا بد أن أستمر به حتى النهاية"
ولم تكن هذه المرة الأولى التي نقوم بمثل هذه الواجبات، وغداً ليس ببعيد، سنوات قضيناها معاً بحلوها ومرها فهل بقيت على تلك الليلة، وأمام إصراره وقناعته وافق آمر الكتيبة على ذلك.

تحركنا بعد هبوط الظلام إلى الخطوط الأمامية، كنا نفس المجموعة (ودود) أمر البطرية، وأنا ، وجرجيس ، والملازم محسن.
توزعنا على الخط الأمامي ودود وجرجيس إلى جهة اليمين، وأنا ومحسن إلى جهة اليسار، كان علينا أن نجتاز فتحة بين ساترين للوصول إلى أماكننا المحددة كان عرضها يتراوح بين 6-7 أمتار والأرض ترابية غير مستوية وكان قناصاً إيرانياً يرمي باتجاه تلك الفتحة بصورة مستمرة ليمنع عبور أي شخص بين الساترين.

بقيت عدة دقائق أحصي عدد الاطلاقات التي تطلق باتجاه تلك الفتحة والفترة بين رشقةٍ وأخرى، توجب علي الاستعانة بخبرتي في رياضة القفزة الثلاثية لأتمكن من تجاوز تلك الفتحة، واجتزتها بالفعل، ومن الطرف الثاني أخبرت محسن أن يستعد للقفز حين إشارتي بالصوت له، وتقفز كما قفزت. نجح محسن باجتيازها بسلام وكذلك اجتازها المخابر الذي معي.

بدأنا بالبحث عن مواضع خالية لنستقر فيها مع أجهزة المخابرة التي نحملها، كانت الحفر التي نروم الاحتماء بها تحوي كل منها بين (2-3) جثث لشهداء سقطوا خلال معارك اليومين الماضيين، ولم يتم إخلائهم لحد الآن لضراوة المعارك بتلك المنطقة وعدم إمكانية وصول العجلات لهذا المكان وكان لا بد من حمل الشهيد مسافةً لا تقل عن 1500متر إلى الخلف ليتمكنوا من نقله بعجلة إلى المواقع الخلفية، كانوا رجالاً صمدوا حتى الاستشهاد لمنع العدو من اختراق دفاعاتهم والتوغل أكثر في أراضينا، دفعوا حياتهم ثمناً للأرض والوطن.

لم تمض سوى دقائق حيث صدر الأمر إلى الملازم محسن بالتحول إلى المنطقة الوسطية بيني وبين جرجيس، فودعني مسرعاً وأوصيته بأن ينتبه للفتحة التي اجتزناها قبل قليل، وباشرت عملي المضني لتحقيق وتسجيل أهدافاً جديدة وحسابات الرمي للمراحل اللاحقة، كنت أعمل بظروف لا يمكن تخيلها، كان بيننا وبين الساتر الإيراني مسافةً لا تتجاوز 70-80متراً وكان الرصاص يتواصل باتجاه مواضعنا اضافةً إلى سقوط قذائف الهاون ، وظلام الليل وصعوبة الرصد في تلك الظروف الصعبة، أنهيت كافة الاستحضارات خلال ساعتين تقريباً....
جلست في الحفرة لأستريح قليلاً ولأتفادى الرصاص والشظايا المتطايرة.....
كانت الأرض التي خلفنا والممتدة على طول الساتر بركة كبيرة من المياه وكأنها بحيرة، تجمعت من مياه أمطار الأيام الماضية مما شكل حاجزاً يصعب المرور من خلاله ولا مجال لحركتنا، إلا عبر الساتر الترابي فقط.
عند الثالثة والنصف صباحاً بدأ صمت مطبق وهدوء تام، كان الهدوء الذي يسبق العاصفة، كنّا اعددنا كل شيء بصمت وبلا إشارة لما ننوي القيام به...حانت الساعة الرابعة وبدأ القصف المدفعي التمهيدي ، كأن باباً من أبواب جهنم قد فتح وكان لقرب قطعاتنا من القطعات الإيرانية ، فان أية قذيفة تسقط كانت شظاياها تغطي كل من يتواجد بتلك المنطقة، كانت قذائف المدفعية تتساقط ووهجها وحراتها تلامس وجوهناوأجسادنا.
أما شظاياها فكانت تغطي كل شبر من أرض المعركة، استمرت أكثر من أربعمائة فوهة مدفع وراجمة صواريخ عدا هاونات وحدات المشاة وقذائف كتائب الدبابات بالرمي المتواصل قابلها رد إيراني كثيف فأصبحت المنطقة التي لا يتجاوز عمقها 100-120متراً وبعرض 250-300متراً كأنها قطعة من جهنم ولم أشهد طيلة الحرب كثافة نيران كما حصل انذاك ، نتيجة لذلك ولمعرفتنا بالواقع الميداني وتأثير تلك النيران ، طلبنا رفع النيران للمباشرة بالهجوم بعد عشرون دقيقة من بدء ذلك القصف، كان حجم المقذوفات التي سقطت في تلك المساحة من الأرض ما بين 40-50 ألفاً وبمعدل قارب الألف وخمسمائة أو أكثر في الدقيقة الواحدة وبمعدل 3 قنابل لكل مترين مربعين لتلك الأرض التي بدت وكأن قطعة ملتهبة من الشمس سقطت عليها.

تم رفع النيران إلى عمق العدو، وتمت المباشرة بالهجوم، كان الفوج الذي معه جرجيس أول المهاجمين وفوجنا إلى اليسار نستعد لاستلام أمر الهجوم التالي، وصل فوج جرجيس إلى هدفه وسيطر عليه ولم يجدوا إيرانياً واحداً ليدافع عن تلك المواقع فقد تكبدوا خسائر كبيرةً جراء القصف فقتل من قتل وهرب من هرب إلى مواقعهم الخلفية.
...دقائق مرت ونحن بانتظار المباشرة باستكمال الهجوم، لكن لم يرد لنا ذلك الأمر وبدأ طلب النيران يتضاءل ويتناقص ويتباعد، حتى بات شبه سكون إلا من بعض مشاعل التنور في الجو، بانت خيوط الفجر والضياء الأول، استطعت أن أتبين ما حولي وأستكشف أثر تلك المحرقة التي حصلت، كانت عشرات جثث الشهداء تناثرت هنا وهناك، كانت بركة الماء المحاذية لنا قد اختفت، وقاع البركة تحول إلى أكوام متفرقة من رماد أسود، ولم يسلم إلا واحداً من كل عشرة مواضع، الشهداء حولنا في كل مكان تناثرت أشلاءهم هنا وهناك وتكدست جثث البعض منهم داخل الحفر التي أعدّت لتحمينا من القصف، تلك الحفر التي لا يتجاوز طولها مترين وعرض70سم وبعمق متر واحد، كان معي عريف مخابرة(عبد الحسين) رجلاً شجاعاً وبطلاً من أهالي الناصرية، كان رابط الجأش، طيباً، صبوراً، تربطني به صداقة واحترام متبادل، وأتعامل معه كأخ وصديق، كنا نحن الاثنين مع بضعة أشخاص آخرين من نجا من بين المئات ، من تلك المحرقة، تلك المعركة بكل تداعياتها والأخطاء التي صاحبتها كانت تدار شخصياً من قبل (القائد العام للقوات المسلحة) ولم يكن هناك من يستطيع أن يبدي رأياً أو مقترحاً!!
تم المناداة علينا بجهاز المخابرة، استلم عبد الحسين الأمر وأبلغني بأن ننسحب أنا وهو إلى مقر الكتيبة ونجلب معنا آمر البطرية الجريح في الجانب الأيمن.
قلت له:"وماذا بشأن جرجيس ومحسن".
صمت قليلاً ، وبان عليه مداراته للألم الذي يشعر به...ملازم محسن استشهد منذ ليلة أمس ، حيث لم يتمكن من تفادي القناص الإيراني عبر الفتحة التي اجتزناها وهو يهم للوصول إلى المكان الذي أُمر بالتوجه إليه، أما جرجيس فقد كان أول الواصلين إلى الهدف المحدد لهجومنا ومعه ضابط من فوج المشاة ، وبقي ينادي عبر الجهاز بوصوله وبحاجته لقوة تمسك الهدف الذي استعيد من أيدي الإيرانيين لكن أحد لم يستطع الوصول إليه، فأغلبهم استشهد أو جرح ولم يتمكن من الوصول، وكان هناك قصف مدفعي كثيف في تلك المنطقة، وانقطع الاتصال فجأة معه ولم تفلح كل المحاولات لإعادة الاتصال.
قلت له:" أنت مسؤول المخابرة وكنت تسمع كل شيء وأنا مشغول بمتابعة الأهداف فلم لم تخبرني بذلك؟"
أجاب:" كيف أستطيع أن أخبرك بما حصل وأنت كنت تتابع كل ما يحصل ولولا أوامرك برفع النيران وتوجيهها كان ممكن أن يحصل أسوأ من ذلك، كما أن كل أوامر النيران ومتابعتها تحولت كلها بأمرتنا لعدم وجود ضابط رصد آخر وأعرف حجم الألم الذي سيسببه معرفتك باستشهاد أصدقاءك، وكان أي شيء يصيبك يجعل الأمور تتطور إلى إمكانية استغلال الإيرانيون لتلك الأوضاع وبالإمكان أن يشنوا هجوماً مقابلاً ونخسر بذلك الكثير، لذلك أخفيت الأمر عنك لحين طلوع الفجر وتتوضح الصورة لما آلت إليه الأمور ، اضافة الى ورود توصية بذلك من آمر الكتيبة لاحقآ .

تحركنا في طريق العودة عبر ساتر متعامد على الخط الأمامي لقطعاتنا ومستهدف بالنيران من قبل القوات الإيرانية، كانت هناك مئات من جثث الشهداء تناثرت على امتداد ذلك الساتر الذي لم يكن هناك طريق آخر غيره للوصول إلى المواضع الأمامية نتيجة برك المياه التي تحيط بالمكان..وأنا أتطلع لحجم المأساة والكارثة وإذا بي ألمح واحداً من هؤلاء الشهداء، لم أشعر أنه كان ميتاً، شاباً ضخماً، طويلاً أشقر الشعر، ممداً على ظهره وكأنه يأخذ قسطاً من الراحة، كانت عيناه الزرقاوان مفتوحتان وشاخصتان إلى السماء ونوراً غريباً يشع من وجهه الأبيض، كانت لحظة لا تنسى، تسمرت واقفاً وأنا أنظر إليه، انهمرت الدموع من عيني ولم أقوىَ على الحراك ولم أشعر بالرصاص الذي كان يمر من حولي بالرغم من الأزيز الذي كان يصدره، كنت مصدوماً من هول ما أرى، وإذا بيد قوية تسحبني بشدة، للاحتماء بجانب الساتر الترابي.
كان عبد الحسين وهو يصيح:"سيدي أرجوك ! هل تريد أن تموت؟ أصبحت هدفاً لرصاص العدو !"
وصلنا بعد مسير نصف ساعة حيث بدأت أعداد الشهداء تتناقص كلما ابتعدنا عن الخط الأمامي لقطعاتنا، أخيراً وصلنا إلى العجلة التي ستقلنا إلى مقرنا،وبعد مسيرة عشرات الأمتار، صادفنا جندياً يجثو على ركبتيه حانياً رأسه إلى الأمام ويحمل على ظهره جهاز مخابرة، طلبت من السائق التوقف، وبلا شعور وجدت نفسي أركض نحو هذا الجندي، كنت أعتقد من طريقة جلوسه بأنه جريح ويعاني، احتضنته من الظهر لأسحبه، وإذا برأسه يتدلى على كتفي ، وتبين لي أن أحشاءه كلها كانت خارج بطنه ملقاة بين أحضانه، انتابني ألم لا يمكن تصوره، تمالكت أعصابي بشدة لكي لا يبدو حجم ما أعاني أمام الجنود واخفيت مشاعري بصعوبة بالغة، أحسست أن أحشائي تكاد تخرج من فمي، عدت إلى العجلة، وصلنا إلى مقر الكتيبة كان آمر البطرية الجريح تم إخلاءه إلى المستشفى من الجانب الثاني.

قبل دخولي إلى موقع القيادة، كان آمر الكتيبة يتحدث إلى البعض من الجنود ويطلب اثنين فقط للذهاب بعجلة إلى المواقع الأمامية لجلب جثة الشهيد محسن والبحث قدر الإمكان عن دليل يحدد بموجبه مصير جرجيس.
كان يتكلم بعصبية لأنه طلب جنديين وإذا بأكثر من خمسة عشر منهم يتطوعون للذهاب والبعض منهم تنهمر الدموع من عينيه، كان مصراً أن يذهب أقل عدد ممكن تجنباً لخسارتهم ولخطورة المهمة، وأخيراً تم تحديد اثنين منهم، صعدوا إلى العجلة وتحركت واستدار الآمر ليدخل إلى الموقع وإذا بي أشاهد أعداد من الجنود تركض خلف العجلة، البعض صعد من الباب والبعض تشبث بالعجلة من الخارج وتعلق بها بعد أن امتلأت من داخلها..كانوا يتسابقون ، مضحين بحياتهم لينالوا شرف جلب جثة أحد شهداءنا، كانوا خليطاً من كل جزء من أرض العراق، دفعهم حبهم لوطنهم ووفائهم لأرضه بأن يخاطروا بحياتهم في مهمة شبه انتحارية وهي أن تدخل الأرض الحرام بين قواتنا والقوات الإيرانية للبحث أو لجلب جثة شهيد من رفاقهم، هكذا كانوا أبناء العراق الأبطال وهكذا كان الوفاء للوطن ولرجال الوطن الذين ضحوا بدمائهم من أجل أن يبقى العراق.
دخلت موقع الكتيبة، كان الآمر جالساً على كرسي، طلب مني الجلوس على كرسي أمامه، قال لي:"الحمد لله على سلامتك، هل تستطيع أن تخبرني بالتفصيل بما حدث؟"

كنت مرهقاً أشد الإرهاق، ملابسي ملطخةً بالطين والأوحال، شعر رأسي مليء بالتراب والرماد، حاولت الكلام، لكن دموعي سبقت كلماتي، كانت لحظة الانهيار لمشاعري التي حاولت أن اكتمها طوال الطريق، من هول ما حدث، وهول ما رأيت، وجرح خسارة رفاقي ..كيف لي أن أروي ما يهيج مشاعري وآلامي، أخفضت رأسي لأداري دموعي وألمي، ولأخفي لحظة ضعفي أمام آمري..شعر الآمر بالموقف الذي أمر به، طلب من جميع من بالموقع الخروج فوراً، وطلب لي كأساً من الماء.
أنهيت كلامي معه، وطلب مني الذهاب لأرتاح..خرجت من باب المقر متوجهاً إلى مقر بطريتي، توقفت بنفس المكان الذي استقبلت فيه جرجيس صباح أمس، تذكرت ابتسامته، وفرحته بالمستقبل الذي ينتظره، ترك زوجته وطفله، ترك حقائبه وبطاقات سفره، بانتظار عودته يوماً ما......يكاد لا يأتي أبداً......

لقد جلب الجنود جثة الشهيد محسن، البطل، الأسمر، ابن الناصرية، بلدة الرجال الذين دافعوا عن العراق على مر التاريخ.
لم يعثروا على أي أثر لجثة الشهيد جرجيس، قد تكون تناثرت أشلاءه فوق أرض الفاو، جاءها من أربيل ليرويها بدمائه، كذلك من جاءها من كل أنحاء العراق، من الموصل، أربيل، بغداد، كركوك، الناصرية، البصرة.
امتزجت دماءهم جميعاً لتدافع عن جزءٍ من أرض وطنهم، لم يقل أحد منهم أنه من هذه المنطقة أو تلك، كانوا كلهم أبناء العراق، كلهم أحبوا العراق.

بقيت حقائب جرجيس بانتظاره..بانتظار مستقبل سعى إليه طويلاً ...لكن نداء الأرض والوطن كان أقوى.. لم يعد جرجيس حتى كتابة تلك السطور..وبقيت أنظار زوجته وطفله ترنو صوب المجهول.....فهل أوفينا هؤلاء الرجال حقهم......هل حافظنا على ما دفعوا حياتهم ثمناً له..أرض العراق؟...هل قدمنا لزوجاتهم وأبنائهم بعضاً مما يوازي تضحياتهم ؟.........لا أعتقد.....
كان ذلك ما حدث في اليوم الأول من تلك المعركة..
والى اليوم التالي..في قصة أخرى..

لبعض من الوفاء.... لزمن الحب والحرب

( قصي المعتصم)
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
أحمد الهاشمي
مدير عام
مدير عام
أحمد الهاشمي


عدد المساهمات : 10896
نقاط : 13569
السٌّمعَة : 7
تاريخ التسجيل : 03/04/2010

الوفاء...لزمن الحب والحرب (2) Empty
مُساهمةموضوع: رد: الوفاء...لزمن الحب والحرب (2)   الوفاء...لزمن الحب والحرب (2) Icon_minitimeالثلاثاء 26 أكتوبر 2010 - 0:43

لاحول ولاقوة إلا بالله العليّ العظيم

اديبنا القدير

قصي المعتصم

انها فاجعة بكل المقاييس

ان يحدث هكذا قتل بين البشر

وبلا هدف ولا سبب

اكيد هناك اسباب خاصة بالقيادة

وساسة البلاد

لكن مثلنا نحن العامة

تدمي قلوبنا ومقلنا حين نعيش هكذا لحظات

ولوعبر صفحات ومداد

لكن جيد ان نعرف هذه التفاصيل

ومِن مَن؟

من اناس عايشوها وكانوا بداخل الصورة

سيدي

مشكور جدا

لك تقديري وتحياتي

ومواساتي لكل أهالي الشهداء والجرحى

ودعائنا بالرحمات لهؤلاء الشهداء الابرار


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
زينب بابان
مشرفة عامة
مشرفة عامة
زينب بابان


عدد المساهمات : 10543
نقاط : 16309
السٌّمعَة : 1
تاريخ التسجيل : 04/05/2010
العمر : 53

الوفاء...لزمن الحب والحرب (2) Empty
مُساهمةموضوع: رد: الوفاء...لزمن الحب والحرب (2)   الوفاء...لزمن الحب والحرب (2) Icon_minitimeالجمعة 29 أكتوبر 2010 - 17:00

ربي ارحم شهداء العراق وارحم الجميع برحمتك

مشكور مع الاعتزاز

الوفاء...لزمن الحب والحرب (2) OUkE3-5Uh3_709219294
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الوفاء...لزمن الحب والحرب (2)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
واحة الأرواح  :: أقسام الكتاب و الأدباء و الشعراء :: واحة الأديب قصي المعتصم-
انتقل الى: