واحة الأرواح
مرحبا بكم في واحة الأرواح
واحة الأرواح
مرحبا بكم في واحة الأرواح
واحة الأرواح
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

واحة الأرواح

أحمد الهاشمي
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخولeahmea@yahoo.com

 

  الشابي بين الأمل والألم

اذهب الى الأسفل 
3 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
محمود أسد
كبار الشخصياتvip
كبار الشخصياتvip
محمود أسد


عدد المساهمات : 188
نقاط : 566
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 18/08/2010
العمر : 73

          الشابي بين الأمل والألم Empty
مُساهمةموضوع: الشابي بين الأمل والألم             الشابي بين الأمل والألم Icon_minitimeالثلاثاء 23 نوفمبر 2010 - 4:37

الشابي بين الألم والأمل
محمود أسد
سوريا- حلب
MAHMOUDASAD953@GMAJL.COM

لم أعرف بيتا من الشعر حفر مساحة في قلوبنا، وما زال يشدنا مثل بيت هذا الشاعر الذي سطع كنجم متألق، وخبا كبرق خاطف. تربطني وجيلي بهذا الشاعر مودة وحب لا ينطفئ. بفضل قصيدته الخالدة " إرادة الحياة " والتي مطلعها أشهر من كل قصائد الشعر العربي قديمه وحديثه :
إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
إنها صيحة الثائر المتمرد. فلنا رحلة ممتعة بصحبة هذا الشاعر المبدع الخلاق الذي مر في حياتنا كنسمة. ورحل عنا وبقي فيها كنغمة خالدة. إننا أمام شاعر عاش فترة قصيرة لم تتجاوز الخمسة والعشرين عاما. فقد ولد في عام ألف وتسعمائة وتسعة، وتوفي عام ألف وتسعمائة وأربعة وثلاثين. إنها أعوام قليلة وقصيرة من عمر الزمن والإبداع، ولكنها حافلة وغنية بالشعر والعطاء. فلا يقاس الإنسان بعمره بل بعطائه وكأن شاعرنا اختصر حياته بهذا العطاء المبدع.
كانت موهبته معجونة ومغموسة بالحزن والكآبة والغربة مع بصيص من الأمل. وهذا حال الشعر في ديوانه "أغاني الحياة" فالحزن والألم والغربة مادة أساسية ومحركة في شعره. وهذا يتطلب منا أن نتوقف عند هذه السمة البارزة في شعره مكوناتها وأسبابها وكيف تعامل شاعرنا معها ؟. فنحن أما شخصية متميزة سبقت عصرها بسنين. فتح عينيه للمستقبل وسعى لخير شعبه وأمته، ولكنه لم يجد من يفهمه مما ألب أحاسيسه، وألهب فؤاده بالأسى واللوعة، فتوقدت شاعريته من لهيب ونار الحزن والأسى والمرض.
لتكن رحلتنا معه من البداية.
نحن أمام طفل نشأ في قرية وادعة حالمة تحضنها أشجار النخيل وواحاته في تونس. إنها قرية " الشابية " التي نسب إليها واكتسب منها حب الطبيعة والشموخ والنقاء. واكتسب من والده وأسرته النشأة الدينية الصافية المدعمة بالأخلاق والتسامح والآداب. ودرس في العاصمة التونسية في ظل الاستعمار الفرنسي الغاشم وما جر على أبناء شعبه من فقر وظلم وخنوع وتخلف، يشارك الاستعمار في ذلك طبقة من الرجعيين المستسلمين للفرنسة وللعادات البالية التي تقف عائقا في وجه تطور أمته وهذا ما جعله يثور عليها، ويقف في وجهها. فما كان منها إلا أن بادلته العداء والثورة عليه وعلى أفكاره. وجانب آخر من جوانب حياته وهو يمثل الموقد لمسيرة حياته إنه المرض الذي صاحبه في حياته. فهو مصاب بضيق في القلب والرئتين معا. فعاش منطويا ومنفردا عن زملائه وأقرانه في فترة اللعب واللهو فزاد إحساسه بالألم والغربة، فكان رقيق الطبع والمشاعر اتجاه الأحداث والأمور التي تعترضه وتمر من أمامه.
إذا نستطيع أن نقول : إن مجموعة من العوامل المتلاحمة ألهبت أحزانه لتجعل منه شاعرا متميزا في عصر الجمود والالتفاف حول الموائد في الرثاء والمدح والفخر وهذا لا نراه في شعره. وهذه نقطة إيجابية في حياة هذا الشاعر الذي رحل شابا، ولكنه عاش كبيرا في تفكيره ومعتقداته وموهبته. فالحزن والكآبة والإحساس المرهف عوامل مشتركة في قصائده. فشعره يعكس حياته وحالته النفسية. فهناك عناوين لقصائد في ديوانه / أغاني الحياة / تثبت هذه الملاحظة فمن عناوين قصائد الديوان " الأشواق التائهة – قيود الأحلام – أنا أبكيك للحب – في ظل وادي الموت – الجنة الضائعة – شكوى ضائعة – مأتم الحب – الكآبة المجهولة – شكوى اليتيم – الدموع أغنية الأحزان – نشيد الأسى – رثاء الفجر ..." وإذا قرأنا القصائد وتوقفنا عندها فسوف نتلمس الحزن المؤثر جليا في كل قصائده. فالشاعر رهن نفسه للمرض ولأسرته المنكوبة بوالده ولأبناء مجتمعه ولمذهبه الشعري ورؤيته الشعرية الجديدة. فوسط هذا المحيط وما فيه لا بد أن يتأثر ويتفاعل ولذلك من الطبيعي لمن يملك مثل هذه النفس الشفافة أن يلجأ إلى الطبيعة بجمالها وبهائها وغضبها. يقترب منها ليبثها أحزانه وهمومه على غرار الرومانسيين الذين وجدوا في الطبيعة صديقا وملاذا لهمومهم ومهربا من واقعهم البائس. وهذا حال شاعرنا المعذب :
مهما تضاحكت الحياة فإنني أبدا كئيب
أصغي لأوجاع الكآبة، والكآبة لا تجيب
في مهجتي تتأوه البلوى، ويعتلج النحيب
ويضج جبار الأسى، وتجيش أمواج الكروب
إني أنا الروح الذي سيظل في الدنيا غريب
ويعيش مضطلعا بأحزان الشبيبة والمشيب
هذه الأبيات تجسد المذهب الإبداعي ففيها حزن عميق ولوعة تكوي الفؤاد وألفاظ تتفجر بالمعاني المؤثرة والصور الموحية ( تجيش – الكروب – يعتلج – تتأوه – البلوى ) فمرض الشاعر لم يحوله لفيلسوف يتبنى نظرة معينة أو أفكارا مغايرة فيقسو على نفسه من أجل مرضه كالمعري. فالشاعر قهر المرض وتحدى نصائح الأطباء فتزوج وأنجب وعمل. ومن جانب آخر نراه يبتسم للألم وينتصر عليه بالفرح والابتسامة حينا فالشاعر عبر عن خيبته وحظه العاثر وأحلامه المسروقة في " أغنية الأحزان " :
حطمت كف الأسى قيثارتي / في يد الأحلام
فقضت صمتا، أناشيد الغرام / بين أزهار الخريف الذاوية
وتلاشت في سكون الاكتئاب / كصدى الغريد
إن الحزن وملامحه رداء يرتديه الشاعر ويحيط به في كل قصائده فهو يتألم من نار الحياة التي فجعته بوالده وهو يافع في أول الطريق. فحمل المسؤولية بصدر رحب مبكرا :
ما كنت أحسب بعد موتك يا أبي ومشاعري عمياء بالأحزان
أني سأظمأ للحياة، وأحتسي من نهرها المتوهج النشوان
وعبر الشاعر عن مرارة محنته وتجربته في رسالة لصديقه " محمد الحليوي " خلال مرض أبيه.
" إنني أحاول أن أخط إليك ما تحسه نفسي من مرارة الأوجاع وهموم الزمن الجائر. فلا أستطيع إلا مثل هذه الكلمات المتقطعة التي لا تكاد تبين عما أكابد من غصص العيش وبأسائه.. في الصباح أجلس إلى أبي الذي أنهكه المرض، وأضناه وأرمضه الألم وأذواه.. فما أراه كذلك إلا وتملأ صدري الزفرات، وتملأ العين العبرات، وتنطلق من قلبي المثلوم وصدري المكلوم أنات القهر ودعوات الرجاء إلى إله الحياة والموت وباسط النور والظلمات أن يشفي هذا الأب الواهي الطريح ".
لا بد للقارئ إلا وأن يتألم لحال الشاعر وما آل إليه أمر أسرته التي وقفت حائلا وسدا أمام أحلامه فقال في قصيدته " قيود الأحلام " :
وأود أن أحيا بفكرة شاعر فأرى الوجود يضيق عن أحلامي
إلا إذا قطعت أسبابي مع الد نيا وعشت لوحدتي وظلامي
لكنني لا أستطيع، فإن لي أما يصد حنانها أوهامي
وصغر إخوان يرون سلامهم في الكائنات معلقا بسلامي
فقدوا الأب الحاني فكنت لضعفهم كهفا يصد غوائل الأيام
هذا اعتراف صريح وبوح صادق خرج من أعماق الشاعر المعذب مع نفسه وأهله ومجتمعه. فهناك رافد آخر من روافد أحزانه وهمومه المتراكمة فوق كاهله، إنه حال شعبه وأمته وما عليه من انكسار وتخلف واستسلام للجهل. فكان يتألم ويتحسر كلما وجد شعبه في مستنقع الجهل والتخلف، فيدعوه للعلم واليقظة وتجديد مفاهيم الحياة المتجددة. فلم يفهموا دعوته، فثاروا عليه ينقدونه ويوخزونه بالكلام والتهم. فعاش في عزلة وغربة قاسية عبر عنها في قصيدته " النبي المجهول " الحافلة بالتمرد والثورة. ويبدو لنا أن الشاعر متأثر بروح جبران خليل جبران المتمردة :
أنت روح غبية تكره النو ر وتقضي الدهور في ليل ملس..!
أنت لا تدرك الحقائق إن طا فت حواليك دون مس وجس..
فتألمت.. ثم أسكت آلا مي وكفكفت من شعوري وحسي
ثم ألبستني من الحزن ثوبا وبشوك الجبال توجت رأسي
لقد ضاعت الجنة التي يحلم بها لأبناء شعبه، فإذا به يعيش في الجحيم متألما متحسرا لأنه فوجئ بتحطيم أحلام طفولته أمام الواقع الشرير :
واليوم أحيا مرهق الأعصاب مشبوب الشعور
متأجج الإحساس أحفل بالعظيم والحقير
تمشي على قلبي الحياة، ويزحف الكون الكبير
هذا مصيري، يا بني الدنيا، فما أشقى المصير !
لا يمكن لإنسان واع متفهم للأدب ويتأثر به أن يتغافل أو يتجاهل قدر هذا الإنسان. فيعطف عليه لقسوة القدر عليه. وما أصعب هذا الإحساس بالغربة وقد عبر عنها الشاعر في أكثر من مكان :
يا صميم الحياة كما أنا في الد نيا غريب أشقى بغربة نفسي
بين قوم لا يفهمون أناشيــ ـد فؤادي ولا معاني بؤسي
لم أجد في الوجود إلا شقاء سرمديا ولذة مضمحلة
وأماني يغرق الدمع أحلا ها ويفني يم الزمان صداها
ليتني لم يعانق الفجر أحلا مي ولم يلثم الضياء جفوني !
أما هذا الواقع المرير والإحساس المرهف بالخيبة يلجأ للنسيان والهروب إلى الغاب حيث الراحة والاسترخاء والانفراد :
إنني ذاهب إلى الغاب يا شعــ ـبي لأقضي الحياة، وحدي بيأس
إنني ذاهب إلى الغاب علي في صميم الغابات أدفن بؤسي
ثم أنساك ما استطعت فما أنــ ــــت بأهل لخمرتي ولكأسي
سوف أتلو على الطيور أناشيـ ــدي وأفضي لها بأشواق نفسي
هذا الإحساس المؤلم بالغربة عبر عنه في يومياته فكتب في /7/1/1930 :
" أشعر الآن أنني غريب في هذا الوجود. وأنني ما أزداد يوما في هذا العالم إلا وأزداد غربة بين أبناء الحياة وشعورا بمعاني هاته الغربة الأليمة. غربة من يطوف مجاهل الأرض ويجوب أقاصي المجهول، ثم يأتي ليحدث قومه عن رحلاته البعيدة، فلا يجد واحدا منهم يفهم من لغة نفسه شيئا.. الآن أدركت أني غريب بين أبناء بلادي، وليت شعري هل يأتي ذلك اليوم الذي تعانق فيه أحلامي قلوب البشر. فترتل أغاني أرواح الشباب المستيقظة، وتدرك حنين قلبي وأشواقه أدمغة مفكرة سيخلقها المستقبل البعيد ؟. أما الآن فقد يئست. إنني طائر غريب بين قوم لا يفهمون كلمة من صور الحياة الكثيرة التي تتدفق بها موسيقى الوجود في أناشيده. كلا يا قلبي ! سر في سبيلك يا قلبي ولا تحفل بصفير الأبالسة فإن وراءك أرواح تتبع خطاك.
عجيب أمر هذا الإنسان بل رائع لأنه نسي نفسه وآلامه ومرضه ليصوغها في الصالح العام. فنفسه بقيت متشوقة للحرية وساعية إليها. تتوق نفسه للأمل والطموح والتحدي.
فالشاعر ليس مستسلما ولا مسالما فصوته يدوي بأناشيد الإرادة والأمل والتحدي. ففي قصيدة " إرادة الحياة " يرسم طريق الوجود والنور :
وقالت لي الأرض. لما سألت : أيا أم هل تكرهين البشر؟:
أبارك في الناس أهل الطموح ومن يستلذ ركوب الخطر
وألعن من لا يماشي الزمان ويقنع بالعيش عيش الحجر
هو الكون حي يحب الحياة ويحتقر الميت مهما كبر
وفي مكان آخر يعبر الشاعر عن ظمأه إلى النور والحرية. وما الظمأ إلا بسبب الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لأبناء شعبه :
ظمئت إلى النور فوق الغصون ظمئت إلى الظل تحت الشجر !
ظمئت إلى النبع بين المروج يغني ويرقص فوق الزهر
ظمئت إلى نفحات الطيور وهمس النسيم ولحن المطر
فهذه أبيات عميقة بمضامينها وتكشف مدى حزنه وشوقه وألمه معا. فالكآبة تسيطر عليه بين حين وآخر فيلجأ إلى الطبيعة ومخيلته فيرسم لوحات الحزن والمعاناة، فينسج ثوبا رقيقا شفافا من نواحه وبكائه، فيصوغ أرق العبارات من قلب مجروح ففي قصيدته " الكآبة المجهولة " يقول :
أنا كئيب / أنا غريب / كآبتي خالفت نظائرها /
غريبة في عوالم الحزن / كآبتي فكرة مغردة ..
فالشاعر تعامل مع همومه بحساسية مفرطة وبمعاناة متناهية. فطبعه رقيق وقلبه متدفق بالمشاعر والأسى، ولا يكتم أحزانه ويأسه. حاله كحال البركان أو النبع. لا بد أن ينبجس فإما حمما ونارا أو ماء عذبا رقراقا وهذه دفقة حارة من بوحه في " الجنة الضائعة "
آه توارى فجري القدسي في ليل الدهور
وفنى كما يفنى النشيد الحلو في صمت الأثير
أواه، قد ضاعت علي سعادة القلب الغرير
وبقيت في وادي الزمان الجهم أدأب في المسير
وأدوس أشواك الحياة بقلبي الدامي الكسير
وأرى الأباطيل الكثيرة، والمآثم، والشرور
- - - -
ماذا جنيت من الحياة ومن تجاريب الدهور
غير الندامة والأسى واليأس والدمع الغزير
هذا حصادي من حقول العالم الرحب الخطير
هذا مصيري يا بني، فما أشقى المصير !
فالقصيدة مليئة بمفردات الخيبة والحزن. فقاموس الشاعر اللفظي ليس معقدا لأنه يغرف من بحيرة واحدة بحيرة الآلام والهموم. وهذا لا يعني أن الشاعر استسلم للحزن والألم. فهناك جانب آخر ورائع في شعره يقف مواجها اليأس والحزن. ففي ديوانه قصائد تنطلق مغردة بالأمل والإرادة. فيعيد إلينا البسمة وهو يتحدى المصير المفجع ويقف في وجه المرض والتحديات الاجتماعية ففي قصيدته " نشيد الجبار " يشدو محلقا في السماء :
سأعيش رغم الداء والأعداء كالنسر فوق القمة الشماء
أرنو إلى الشمس المضيئة هازئا بالسحب والأمطار والأنوار
وأسير في دنيا المشاعر حالما غردا – وتلك سعادة الشعراء
وأقول للقدر الذي لا ينتهي عن حرب آمالي بكل بلاء
لا يطفئ اللهب المؤجح في دمي موج الأسى، وعواصف الأرزاء
سأظل أمشي رغم ذلك عازفا قيثارتي، مترنما بغنائي
النور في قلبي وبين جوانحي فعلام أخشى السير في الظلماء
إن المعاول لا تهد مناكبي والنار لا تأتي على أعضائي
فشاعرنا رمى كل حممه على أعدائه وتحدى المصير. ووقف في وجههم ثائرا متمردا بعد أن تعب من المواجهة، مواجهة المرض والقهر الاجتماعي فعلمنا درسا رائعا في الصبر وتحمل المسؤولية والإيمان بالهدف وترتبط هذه القصيدة وما فيها من مغزى بقصيدته الخالدة " إرادة الحياة ". فالقصيدتان من أكثر القصائد توظيفا وتأثيرا في حياتنا. فما أحوجنا إليهما !
فالشاعر ليس رومانسيا حالما مستسلما بل ثائرا متمردا يفضح المستعمر ويتحداه :
ألا أيها الظالم المستبد حبيب الفناء، عدو الحياة
سخرن بأنات شعب ضعيف وكفك مخضوبة من دماه
وعشت تدنس سحر الوجود وتبذر شوك الأسى في رباه
وفي مكان آخر يحرض الشعب للثورة على غرار شعراء مصر وبلاد الشام في تلك الفترة كحافظ إبراهيم والرصافي واليازجي وعلي محمود طه :
ألا أيها الظالم المصعر خده رويدك إن الدهر يبني ويهدم
أغرك أن الشعب مغض على قذى لك الويل من يوم به الشر قشعم
سيثأر للعز المحطم تاجه رجال إذا جاش الردى فهم وهم
هو الحق يبقى راكدا، فإذا طغى بأعماقه السخط العصوف يدمدم
فالألم والأمل يتنازعان في نفس الشاعر وبين حين وآخر يبزغ بصيص الأمل معبرا عن فجر قريب، فيفتح نافذة يطل منها على الفجر والأمل. فيتغنى للحرية والمستقبل. فقد كان الشاعر مؤمنا بالحياة وبحق شعبه في الحياة، وبحق الشعر أن يكون حيا ينبع من الشعور، لا ينظم في كهوف مظلمة، فلديه رؤية خاصة في الشعر والشعراء فيذكر في مقال له ورد بمجلة العالم الأدبي في العدد الثاني والعشرين :
" الشعر يا صديقي تصوير وتعبير. تصوير لهذه الحياة التي تمر حواليك مغنية ضاحكة لاهية أو مقطبة واجمة باكية... وتعبير عن تلك الصور أو هاته الآثار بأسلوب فني جميل ملؤه القوة والحياة. يقرأه الناس، فيعلمون أنه قطعة إنسانية من لحم ودم وقلب وشعور "...
فالشاعر يريد أن يكون الشعر ترجمانا حقيقيا وأن يكون قريبا من روح قرائه وهمومهم وهذا ما لاحظناه في شعره خلال معاناته وهمومه. وأما عن دور الشعراء ورسالتهم فيقول في نفس المقال الذي ذكرناه آنفا :
" شعراؤنا كثيرون لا جرم. معظم شعرهم مشكوك في قيمته مستراب في نوعه متناقش في نفعه. وليس بعسير على النقد أن يطلع الناس على زيفه، ويبرهن عن خلوه من الإحساس والشعور".
فالشاعر آمن بهذه الرسالة. فابتعد عن الأغراض التقليدية المتوارثة والبعيدة عن الهم العام. فوظف شاعريته وعبقريته لشعبه فهذه رسالة سامية عميقة صاغها بيانا شعريا واضحا :
يا شعر ! أنت فم الشعور وصرخة الروح الكئيب
يا شعر ! أنت مدامع علقت بأهداب الحياة
يا شعر ! أنت دم تفجر من كلوم الكائنات
وفي مكان آخر يوضح الشاعر حقيقة الشعر وعلاقته مع الشعر الأبدية :
أنت يا شعر فلذة من فؤادي تتغنى وقطعة من وجودي
فيك ما في جوانحي من حنين أبدي إلى صميم الوجود
أنت يا شعر صفحة من حياتي أنت يا شعر قصة من وجودي
أجل. لقد أخلص الشاعر لمبادئه ولشعره ورسالته الشعرية وهو مريض يوخزه الألم، وتكويه جراح شعبه. فلم يلن ولم يستسلم رغم المعاناة فكان مثالا للشاعر الملتزم بآرائه وأفكاره ورؤيته. وقد أخلص لهذا الالتزام وهذه نقطة مضيئة في حياته وهذا ما ذكره الناقد أبو القاسم محمد كرو فذكر: " لقد رسم الشابي لنفسه ولشعره أهدافا نبيلة سامية. هي أن يجعل الشعر صوتا قويا ونبيلا من أصوات الشعب المكافحة. وأن يكون شعره بناء للمعالي ورائدا للحق والخير والجمال. فكان شعره وحيا مقدسا عن ضميره اليقظ النقي. فلا مدح ولا رثاء، ولا شيء من هذه الخصوصيات التافهة التي تسابق غيره من الشعراء في المناسبات حقيرها وجليها على السواء..
هذه شهادة وثيقة تقدر شاعرية الشابي، ويمكننا أن نذكر أبياتا له ترسم معالم الطريق الشعرية في حياته :
لا أنظم الشعر أرجو به رضاء الأمير
بمدحة أو رثاء تهدى لرب السرير
حسبي إذا قلت شعرا أن يرتضيه ضميري
فماذا يمكننا أن نقول عن هذا الإنسان الذي خرج حاملا شعلة من نور وبصيصا للمستقبل ودواء للعليل ومتنفسا للغريق. حمل رسالة تفوق سنه ومخيلته وفكره. ولذلك اختصر الطريق الطويلة وقدم كل ما لديه مبكرا ورحل في ريعان شبابه وقمة عطائه ونضجه مما دفع الأدباء والنقاد لدراسة شعره وتجربته الشعرية فيذكر الأستاذ محمد بدره : " إن أبا القاسم قد حافظ على تراثنا اللغوي أشد المحافظة، وسبكه في قوالب جديدة من عقله الجديد، وخلع عليه ظلالا من أشعة روحه التي كانت تحيا بيننا. على أنه بين مجددي الأدب في هذا العصر يعتبر المثل الأعلى.. ولكنه كان عربي الدم والملامح واللسان. يشعر بأنه قطعة من قومه. لا يعني غيرهم في كل ما يقول. وها هو ديوانه الذي خلفه بين أيدينا قد صورت فيه تونس بآمالها وآلامها كأنها ماثلة أمام مرآة صافية ..
أغلب ظني أن شاعرنا ولدت عبقريته في غير وقتها. فخرج إلى أبناء قومه في غير أوانه. فخالف المألوف ولم يكتف بهذا بل ثار عليه. تألم للواقع المرير ولم يقنع به بل حرض عليه ودعا لمواجهته فصبر وتألم وعورض ثم حورب دافعا ضريبة إحساسه ومبادئه وشعوره اليقظ. فلم يفهمه شعبه ولم يحاولوا فهمه فنفروا من دعوته ورجموه بالكلام، وجرحوه بألسنتهم القاسية فيقول في " النبي المجهول " :
في صباح الحياة ضمخت أكوابي وأترعتها بخمرة نفسي
ثم قدمتها إليك فأهرقت رحيقي، ودست يا شعب كأسي
فتألمت.. ثم أمسكت آلامي وكفكفت من شعوري وحسي
ثم نضدت من أزاهير قلبي باقة لم يمسها أي إنسي
ثم قدمتها إليك فمزقت ورودي، ودستها أي دوس
فالأبيات تكشف عن فجوة واسعة بين الشاعر وأبناء شعبه. هذه الفجوة كانت تتسع وتغور مع كل صدمة بسبب يقظة ضميره ورقة أحاسيسه وحزنه المتجدد. فيقول : " إن في قلب هذا الشعب التونسي ثروة روحية وفنا قويا. ولكنها ثروة مهملة وفن غير مصقول. وإن في طبيعة هاته البلاد سحرا يلهم الصخر أسمى المعاني وأرفع الأفكار. لو كانت للصخر مشاعر حية واعية وإن الداء كل الداء في الألسنة المعبرة لا في روح الشعب ولا في طبيعة البلاد "
فالشاعر يكشف عن علاقة الشاعر بالشعب وخطر انزوائه. فالشعر رسالة يجب أن يحملها الشعراء. وهي وليدة إحساس عميق وصادق ولذلك نراه يتفاءل في بعض الأحيان ويحدوه الأمل في النصر والتقدم :
خلقت طليقا كطيف النسيم وحرا كنور الضحى في سماه
تغرد كالطير بذل القيود وتحني لمن كبلوك الجباه
وتسكت في النفس صوت الحياة القوي إذا ما تغنى صداه
ألا انهض وسر في سبيل الحياة فمن نام لم تنتظره الحياة
فالشاعر لا ينقطع أمله من شعبه في لحظات الضيق. فتراه يحثه ويؤنبه ويدفعه لاقتحام المخاطر وهذه رسالة الشاعر الحقيقية. فالشعب مصدر قوته الكامنة ولكنها بحاجة لمن يفجرها ويوجهها. ولذلك كان يندد بأعداء التقدم والحرية والدين من الرجعيين الذين حاربوه ووقفوا في وجهه :
كلما قام في البلاد خطيب موقظ شعبه يريد صلاحه
أخمدوا صوته الإلهي بالعسـ ــف، أماتوا صداحه ونواحه
ألبسوا روحه قميص اضطهاد فاتك، شائك يرد جماحه
وتوخوا طرائق العسف والإر هاق معه، وما توخوا السماحة
هكذا المصلحون في كل صوب رشقات الردى إليهم متاحة
غير أنا تناوبتنا الرزايا واستباحت حمانا وأي استباحة
إنها لصيحة جريئة لم تكن تخرج لولا معاناة الشاعر القاسية والمريرة من جهل شعبه وأعداء تقدمه. والرائع في شاعرنا خيط الأمل وبصيص النور الذي لا يأفل ولا ينقطع رغم حلكة الظروف. ويكبر في عين الناس من يتسلح بهذه الرؤية الساطعة :
إن ذا عصر ظلمة غير أني من وراء الظلام شمت صباحه
ضيع الدهر مجد شعبي ولكن سترد الحياة يوما وشاحه
ما أروع هذه النفس المتوثبة والطامحة بالخير ! وما أروع هذه الأبيات التي خلدته إلى الأبد !
إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر
ومن لم يعانقه شوق الحياة تبخر في جوفها واندثر
فصحبته ممتعة ومؤلمة معا. لأن ألمه ما زال ألمنا. نعاني منه وبشكل أعظم وأقسى ولكن الأمل والتفاؤل ينسجان خيوط الفجر المضيء، ويخيطان ثوب الخلاص والتقدم ولا يسعني في نهاية المطاف إلا أن أتركك مع هذين البيتين للشاعر تتأملهما وتغور في أعماقهما لترى مقدار الجرح الذي كان يحفر في أحشائه وضلوعه :
الناس لا ينصفون الحي بينهم حتى إذا ما توارى عنهم ندموا
الويل للناس من أهوائهم أبدا يمشي الزمان وريح الشر تحتدم
[i]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
أحمد الهاشمي
مدير عام
مدير عام
أحمد الهاشمي


عدد المساهمات : 10896
نقاط : 13569
السٌّمعَة : 7
تاريخ التسجيل : 03/04/2010

          الشابي بين الأمل والألم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الشابي بين الأمل والألم             الشابي بين الأمل والألم Icon_minitimeالخميس 2 ديسمبر 2010 - 4:10

الله الله الله

الله عليك استاذي الاديب الراقي

محمود اسد

بحث رائ

من اروع ما قرأت

تسلم سيدي

لك خالص تحياتي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
جهاد أحمد الهاشمي
إدارة
إدارة
جهاد أحمد الهاشمي


عدد المساهمات : 636
نقاط : 679
السٌّمعَة : 2
تاريخ التسجيل : 27/06/2010

          الشابي بين الأمل والألم Empty
مُساهمةموضوع: رد: الشابي بين الأمل والألم             الشابي بين الأمل والألم Icon_minitimeالإثنين 13 ديسمبر 2010 - 0:40

جزاك الله خير الجزاء العم العظيم استاذ محمود اسد لك مني اجمل تحيه
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الشابي بين الأمل والألم
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» لماذا يكون الحزن والألم هو القرين والخل الوفي للحب ؟!
» الأمل....أحمد الهاشمي
» ركن الواحة لتطوير الذات(متجدد)_ تقديم شجرة الدر
» اخوتي واخواتي ادعولي بالشفاء بهذه الليالي العشرة
» الأمل الرائع أمام الطريق المسدود

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
واحة الأرواح  :: أقسام الكتاب و الأدباء و الشعراء :: واحة الأديب الأستاذ..(((محمود أسد)))-
انتقل الى: