[u]التفجع على القدس
في الشعر العربي المعاصر
محمود أسد
عرف أدبنا العربي الكثير من قصائد التفجع والبكائيات التي عبر الشعراء فيها عن حزنهم وآلام أمتهم وشعوبهم للمصاب العظيم الذي حلّ بالمدينة أو الأسرة أو العائلة، وتذكر كتب الأدب والتاريخ قصائد قيلت في البصرة لابن الرومي وفي بغداد نتيجة غزو المغول والتتر والقاهرة ودمشق والأندلس وفلسطين.
وهذه القصائد تشكل ملاحم يمتزج فيها الدمع بالدم، والغضب بالاستسلام، والتأمل والتدبر مع التقريع والتنديد، قصائد لا تخفي شيئا، تنطلق بعفوية، يحملها على جناحيه هول الحدث وشدة وقعه على النفس، قصائد مفرداتُها البكاءُ والعويل والدموع السجام والثياب الممزقة والمآذن المهدّمة والمنازل المندثرة والصوامع النائحة والأشجار الباكية المنكسرة نفوسها، وهذا النوع من الشعر ضمّته كتب المختارات ودواوين الشعراء، والذي يعنينا من بحثنا مدينة القدس الشريفة وما يحاق بها في العصر الحديث، القدس التي عرج منها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إلى السماء، وإليها أسري، وإلى مسجدها الأقصى توجه بالصلاة فكانت أولى القبلتين، القدس أم المدائن ومهد المسيح ومحجّة الأديان والشعوب تعاني ما تشيب له الولدان، وتبكي عليه الجدران، القدس تتعرض لممارسات لا أخلاقية لا تقبلها العقول وترفضها الأديان، وهي ممارسات تستهدف طمس هوّيتها وإزالتها من سفر الحضارة البشرية لإرضاع وإشباع رغبات الصهيونية العالمية التي تعادي الشرائع والحق والسلام، لأنها تبنى وترتكز على أسس عنصرية تعادي الآخرين وتسعى لتدميرهم.
فالقدس من أهم المدن العربية الإسلامية وهي مركز للإشعاع الديني والعلمي، حضنت العلماء من جميع البلدان وأمّها الرحالة والزائرون وفيها المقدسات كقبة الصخرة والمسجد الأقصى وكنيسة القيامة، وقد أقدم الإنكليز والصهاينة على ارتكاب مجازر وحشية في فلسطين تمهيدا لارتكاب الجرائم في القدس وهي جرائم تتجه إلى الضعضعة وزرع الخوف، وتكشف سوء النوايا كمذبحة دير ياسين 1948 وكفر قاسم 1956 وخان يونس 1956 وصبرا وشاتيلا 1982 ومجزرة المسجد الأقصى 1990 قبيل صلاة الظهر ومجزرة الحرم الإبراهيمي 1994 وغيرها من المجازر في غزة ورام الله وحيفا وعكا وغيرها. وكلها تفسر مقولة هرتزل : " إذا حصلنا يوما على القدس، وكنت ما أزال حيا وقادرا على القيام بأي شيء، فسوف أزيل كل شيء ليس مقدّسا لدى اليهود منها، سوف أحرق الآثار التي مرت بها قرونا". ويفسر ذلك تلك المجازر ومنها حرق المسجد الأقصى 1969.
هذا عرض سريع ولكنه مؤلم وداع للتعبير، والشعراء وهبهم الله ملكة التعبير ورقة الإحساس، فكانت قصائدهم خير شاهد للجرائم وخير ناقل وواصف لما يجري، فانطلقت القصائد قوية تصفع الآذان وتطرق جدار الوجدان الأصم.
وتسعى لإيقاظ القلوب الغافلة والعيون الحسيرة، فكانت منذرة بالخطر، وملامسة حرارة الفجائع، ومستخدمة شتى الأساليب التعبيرية مع اختلاف مستويات الفن فيها.
فالشاعر نزار قباني لا يخفي بكاءه وحزنه ويبوح بآهات وأنات نفسه وهو يرى القدس تتلّوع وتداس طهارتها في قصيدته ( القدس ) :
بكيت حتى انتهت الدموع / صلّيتُ حتى ذابت الشموع / ركعت حتى ملّني الركوع / سألت عن محمد فيك .. وعن يسوع / يا قدس يا مدينة تفوح أنبياء / يا أقصر الدروب بين الأرض والسماء /
مدينة بهذه القدسية والطهارة تستدعي الأحزان التي تنتظر فرحة النصر والتحرير.
يا قدس يا مدينة الأحزان / يا دمعة كبيرة تجول في الأجفان / من يوقف العدوان ؟ عليك يا لؤلؤة الأديان ؟ من يغسل الدماء عن حجارة الجدران ؟ / من ينقذ الإنجيل ؟ / من ينقذ القرآن ؟ / يا قدس .. يا مدينتي / يا قدس .. يا حبيبتي / غدا .. غدا سيزهر الليمون / وتفرح السنابل الخضراء .. والزيتون / وتضحك العيون /.
لغة راقية همسها شفيف موحاً وصورها المتخيّلة تروق للعين والأذن ولنزار قصائد كثيرة في فلسطين، وذكر القدس يشكل معلما من معالم شعره القومي، فالقدس للمسلمين والمسيحيين سواء.
وللشاعر المصري صالح جودت وقفة معبّرة عند القدس تختلج لأجلها الحروف وترتعد الضمائر وعساها تصحو من ظلام خوفها وبؤسها، وقد بنى حزنه وتفجعه على إثارة الجانب الديني :
من ساحة الإسراء في المسجد / من حرم القدس الطهور الندي / أسمع في ركن الأسى حريما / تهتف بالنجدة .. للسيد/ وأشهد الأعداء قد أحرقوا / ركنا مشت فيه خطى أحمد / وأبصر الأحجار محزونة / تقول : واقدساه يا معتدي /.
فالشاعر يتوجع ويتألم لما جرى للقدس عندما أحرق الصهاينة المسجد ودنسوا الحرمات ..
ومن الجدير بالذكر أن هذا التفجّع والبكاء والآهات لم تكن بمعزل عن وقفات التحدي وصرخات المواجهة والدعوة إلى حمل السلاح وإعادة الكرامة وزرع الثقة، فالتفجع لم يكن حاملا سلبيا استسلاميا فحسب، بل كان دافعا للنهوض في أغلب القصائد فإلى جانب ذكر الدماء والدموع والدمار والنساء والأعراض كانت تشبّ نار الغضب وتثير نوازع النفس وحميتها.
فهذا الشاعر أحمد سويلم في ( صلوات في المسجد الأقصى ) يقدّم الإيمان والاعتزاز والألم ولكنه يُنهضُ في الآخرين ظمأ النفس والروح إلى التحرير :
صلواتي تحمل كل عهود الحب / صلواتي في ظل المئذنة العذراء / لن تغرب عنها الشمس / ثم يقول :
يا شمس الليل الصاعدة بأشواق الأرض / يا ساحة عيسى ومحمد / يترجّل في ساحتك الفرسان / تسقط من أيديهم سيوف الزيف / هذا يوم الكلمة / أنتظر الآن عشاء الثأر / أثأر للشهداء الأحياء / أثأر للمئذنة العذراء / أدمي في ثأري وجه القتلة / هأنذا تحت القبة .. جنب الصخرة .. عند الباب / أترّقب .. أهفو .. أتوّعد /.
يثبت الشعراء الذين خطوا خطواتهم في تجديد الشكل الشعري قدرة هذا النوع على التعامل مع الأحداث وبرقيّ فنّي تتسامى فيه اللغة والأفكار وتحلق فيه الصور بعيدا عن المباشرة الطلقة والغموض العاجز المقصود.
وهناك تفاوت في التعبير عن الفاجعة، وهناك أساليب تختلف حساسيتها تجاه الفجيعة ولكنها تدور في فلك الحب والولاء للأمة، وتبوح بعفوية المحب، فلكل شاعر أدواته ولغته ورؤيته ولكن القدس قلب فلسطين تبقى جوهر الشعر وما يحمله من أوجاع وآمال وآراء.
وللقدس شرف اتفاق الشعراء حول مصيرها، وقد تجاوزوا خلافات السياسيين والمنظّرين، فكانت قبلتَهم لأشعارهم كما كانت قبلة المسلمين الأولى، فالشاعر المصري محسن عبد ربه يقدم أساه وحسرته على القدس :
ومسجدنا الأقصى أسير مكبّل يعاني شديد الظلم في كل برهة
وأبناؤه في القدس يبغون مكــــة وتخليصه من كل هول وشـــــــدة
يذبّون عن أعراضهم بدمائهــــــم ويحظون بالتأييد في كل ثـــــــورة
يمتزج الدم بالدمع .. وترتفع أصوات الغضب ملازمة صيحات التأييد، ولكن الفجيعة تبقى مرسومة أمام العيون في كل حدث وهول، فكان الحديث عن الفاجعة يأخذ أشكالا مختلفة فالشاعر الدكتور أحمد تيمور وقد خصّها بديوان (آهات القدس) يقول في قصيدته ( نبيّة المدن ) :
خمسون عاما / في سلاسل الحديد / خمسون عاما من القيود / أو يزيد / يجيئنا من خلف سورك البريد / محمّلا بالنار/ بالدخان / بالبارود / مجلّلا بالموت / والدموع والحزن / يا قدس .. /
لم يأت التفجع إلا من قلب المأساة، فالقدس منذ القديم تحظى بالجلال القدسي وشرف المكان، ومنذ القديم وعبر الأجيال كانت مبعث السناء والهدى، فالبكاء يطلّ من بين النقاط والحروف التي صاغها الشعراء فالشاعر رشاد محمد يوسف لا تفارقه جراحها وهو يصلي :
أصلي وجرحك في مهجتي أنين يغلّف تكبيرتي
والشاعر فاروق جويدة يشعر بقسوة الواقع الراهن، ويتساءل بقلق :
ماذا تبقّى من بلاد الأنبياء / من أي تاريخ سنبدأ / بعد أن ضاقت بنا الأيام / وانطفأ الرجاء / يا ليلة الإسراء عودي بالضياء / .
يتسلل الحزن والأسى خفيفا رقيقا .. وتشتد الفجيعة عند أشقّائنا الفلسطينيين الذين هجّروا وشرّدوا وهدِّدوا بانتمائهم وشخصيتهم فالشاعر الفلسطيني هارون هاشم رشيد يقول في قصيدته ( المسجد الأقصى ) متفجعا وثائرا :
يا أهلنا في كل أرض، إنــــّــــــــــــــــه الأقصى ألا هبوا إليه، قدّموا
أهلوكمُ في القدس، وقع خطاهمُ لا خائف فيهم ولا متــــــــــــــبرّم
النار في أثوابهم، وعيونهـــــــــــــــــــــم بالمسجد الأقصى تهيم وتحلم
الموت مفروش على طرقاتهــــــــــــــم والراجمات القاصفات تدمدم
وللشاعر السوري عدنان برازي قصيدة أخذت عنوان ( يا قدس كلنا سواء ) فيها يتفجع على القدس ولكنه تفجُّع المكابر الصنديد، لا يستسلم رغم البكاء، ولا يلين رغم تساؤلاته :
سأبكي ولكن بغير دموع فقلبي يتوق ليوم الرجــــــــــــــــــــــــوع
دموعي ستغرق هذي البقاع فتملأ بالشوق كل الربـــــــــــــــــــــوع
ننام على الدمع، والدمع جمر وتشرب .. ملء الكؤوس الضلــوع
ونصحو على الآه .. والآه نار تلظّي القلوب، تزيد الخنــــــــــــــــوع
يسرد الشاعر شريطا تراجيديا من أسى المأساة، وقسوة الواقع النفسي الرابض على الصدور .. فالشعراء لم يروا من القدس إلا أوجاع حجارتها ومقدساتها، ولم تأخذهم معالم الفرح إليها، فأفراحهم في أوطانهم منغّصة وغير مكتملة، فالشاعر جاك صبري شماس وفي ديوانه ( عروس المدائن ) ومنه قصيدته ( عرس المملكة )، وأي عرس ولأيِّ مملكة؟
أيــن الفتوحات ؟ هل خارت عزائمنا فالقدس، واخجلا في ناب حاخــــــــام
فإن نطقنا فإن السيف نُشهـــــــــــــــرُه في وجه عمٍّ وأخوالٍ وأرحـــــــــــــــــــــــــام
وهذه أم الفواجع وأثقلها على الكاهل العربي، فيحق للشاعر أن يرفع نبرة خطابه، وهذه صورة مأساوية ترسمها حروف الشاعر ومعانيه البليغة فيقول في قصيدة ( القدس للعرب ) من ديوانه ( فارس الكلمة ) :
تمادى الخطب واشتعل الغروب ووجه القدس يلفحه الشحوب
وأوغلت الدواهي والــــــــــــــرزايا وصوت العدل يطويه الغــــيوب
فهذا الجامع الأقصى كئيــب ويحاصر طهر حرمته الربــوب
والربوب هو ابن المرأة من الرجل من غيره، ينتابني القلق وتلاحقني السهام الموجعة وأنا أرى وأسمع صدى المأساة والفجيعة التي أحاط الشعراء بكل جوانبها منذ بداياتها التي كشفت نوايا الإنكليز والصهاينة فالشاعر الفلسطيني تنبّأ وتألّم وهو يرثي قيام دولة إسرائيل في ظل التطاحن الحزبي الذي تفشّى في فلسطين على حساب المواجهة الحقيقية ووحدة الموقف فيقول في قصيدته ( القدس ) وردت في مجلة الحج والعمرة / السعودية / العدد العاشر 1428 هـ شوال :
دار الزعامة والأحزاب كان لنــــــــــــــــــــا قضيّةُ فيك ضيَّعنا أمانيهـــــــا
هل تذكرين وقد جاءَتكِ ناشئـــــــــــــــــــــة عتيّة دونها الأرواح تفديهــــــــا
ما كان كفؤا عفيف النفس كافلها ولا أبيا حمّي الأنف راعيهــــا
قضيَّة نبذوها بعدما قتلـــــــــــــــــــــــــــــــــت ما ضّر لو فتحوا قبرا يواريها
حساسية الشاعر المرهفة قادته إلى النزق والغضب وتعرية الواقع المفجع الذي انطلق من الداخل قبل الخارج، ويطل علينا الشاعر هارون هاشم رشيد من قلب الفاجعة، فيرصد حركة شوارع القدس وما آل إليها الأمر من لوعة وحسرة ونزف، فيقول في قصيدته التي وردت في عدد مجلة ( لوتس ) الخاص بالأدب الفلسطيني عدد /65-66/ 1988 وعنوان القصيدة ( شوارع العاصمة الكبيرة ) هذا المقطع منها يمور بالصخب والقلق، ورؤيته تثير الغضب وتبعث الألم :
هذي الشوارع / هل يحسّ العابرون بها ؟ / بأن المسجد الأقصى / أستبيح / وبأن أقدام الغزاة / تدور .. / في مهد المسيح / وبأن موطنهم كسير الوجه / مشجوح .. ذبيح / في قدسه أحفاد يهوذا / تنام .. وتستريح / وتبيع في سوق النخاسة / كل ماضيه تبيح / والعابرون هنا / يجولون الشوارع / يعبرون /.
تسمو اللحظة الشعرية عندما تقدر على ملامسة الهم، فتعرضه بشكل غير مباشر، تترك للآخر التقاط جزئياته ودلالة كل جزء وهذا ما أثبتته قصائد التفعيلة التي تعاملت مع الفجيعة بفن وشفافية تجاوزت لغة التقريع والتقرير المباشر، وكلاهما من الواقع ينهل ولكن الصياغة خضعت لرؤية الشعراء للشعر وجمالياته من وجهة نظرهم الخاصة :
الشاعر محمد أبو دية وقد وضع عنوانا لقصيدته التي وردت في مجلة الحرس الوطني وبعنوان ( مذبحة جديدة )، المطلع يبعث الإنسان من غفلته وجموده، ويطرق أذنيه موخزا ومقرّعا، وهذا أمر يليق بالشعر في هذا المقام الذي تعرّض فيه المسجد الأقصى للحرق والتهديم وعلى مرأى من العالم والمسلمين :
كم قتيل عند ساحات الحرمْ كم شهيد كفّنوه بالعلمْ
صارخ القدس ينادي أهلــــــــــــه وينادي كل حرّ في الأمـم
كم وليد وسدوه في الـــــــتراب مزجت أحبابه دمعا بــــــدم
دلالة / كم / الخبرية في هذه الأبيات يوحي بما انتاب الشاعر وتشتّد وطأة الفجيعة على الشاعر الفلسطيني سميح القاسم في قصيدته ( مزامير ) وقد وردت في ديوان ( الوطن المحتل ) جمع ودراسة الشاعر يوسف الخطيب :
مزمور بقايا الفلسطينيين / من هنا / من مطهر الأحزان في ليل الجريمة / أيها العالم، تدعوك العصافير اليتيمة / من هنا، من غزة الموت / ومن جنين، والقدس القديمة / أيها العالم تدعوك / فردَّ الغاز، والنابالم، والأيدي الأثيمة /.
إنها فاجعة إنسانية يتحمّل مسؤوليتها العالم الرحب الذي أغمض عينيه، وسدّ أذنيه عن سماع الأطفال الذين كانوا عصافير تحلق وتطير ولها فضاؤها، فها هو يصادرها ويحاصرها.
وينيب الشاعر عبد الكريم الكرمي ( أبو سلمى ) الفجيعة الفلسطينية ونكبتها بالشكوى واعتصار الألم الراكد على صدر فلسطين وذلك في قصيدة ( رجاء ) وقد نشرت في كتاب العربي العدد / 42 / ت1 2000 :
يافا تنادي أين تلك التي كا نت تغنّي لي أشجى الغنـــــــــــــــاء
ويسأل الشاطئ عنها فــــــــلا يجيبه إلا الصدى والهـــــــــــــــــــواء
في مقلتيها داميات الـــــــرؤى كانت ترى فيها السنى والسناء
من صور النكبة في قــــلبها ما يجعل الأيام دنيا شقـــــــــــــــــــاء
مَدّت لها القدس جناح الهــــوى على جناح القدس كانت رجـــاء
هناك في تربة أرضي، عـــــــلى سفح أريحا قبرها في العــــــــــــراء
فأبو سلمى من الشعراء الفلسطينيين الذين اشتّد أوار حنينهم ولهيب الظروف في نفوسهم التوّاقة إلى ثرى القدس. ولمجلة المنهل السعودية دور في التواصل مع القضية الفلسطينية وخصّتها بأعداد خاصة وأبواب شبه دائمة في العدد /578/ آذار 2002 يقول الشاعر المغربي محمد بن محمد العلمي وقصيدته عنوانها ( عيد الأضحى عيد الفداء) وفيها يذكر حريق المسجد الأقصى وهوله :
والمسجد الأقصى يعاف صهاينا قد حرّقوه وأثخنوه رجـــــــــوما
والله قيوم غيور مبصــــــــــــــــــــــر قد كان بالجرح الأليم عليما
وفي العدد /508/ من مجلة المنهل آب 1993 يطلق الشاعر عبد السلام هاشم حافظ صرخته ويستحضر الماضي الذي راح يعلن عن غضبته ( صوت من الماضي ) :
صوت يرنّ بمسمعــــــــــــــي ويقول : حي على الجهاد
ويرن في أذني الصـــــــــدى مستصرخا مستنجــــــــدا
( القدس ) تنهشها الوحو ش وتستبيح المسجــــــــــدا
فأصيح : يا أرض القــــدا سة والشهامة والإبــــــــــــاء
ستعود رغم الغاصبيـــــــــــ ـن ورغم تجار الفنــــــــــــــاء
ستعود فانتظري بنيــــــــــــ ـك المخلصين الأوفيــــــــــاء
لنا أن نقرأ ما بين السطور وما تعكسه من مؤثّرات نفسيّة لازمت الشاعر، وحمَّلتهُ الهمّ ولكنه بقي متسلحا بالأمل واليقين، وهناك قصيدة نشرت في مجلة الوعي الإسلامي الكويتية، وهو عدد خاص عن القدس آب 2006 / رقم 491/ وعنوانها ( يداس حمى الأقصى ) ويستعير الشاعر لغة السؤال وأسلوب الاستنكار والتنديد وهو يصف جرائم الصهاينة في الأقصى الشريف :
ألست ترى في ساحة القدس ظالمــــا ينافح عن إرهابه ويجــــــــــــــــــــــــادل
وفي القدس بيت للأسى، عند بابه تلاقت يتامى أمّتي والأرامــــــــــــــــل
عباءتها بيعت على حين غــــــــــــــــــرّة وأثوابها في السوق، والجسم ناحل
وفي شفتيها صرخة جمّد الأســــى صداها، ولم يسرع إليها المناضـــل
هي القدس باتت في ذهول وحيرة وكيف يذوق الأمن من هو ذاهـــــــل ؟
يُداسُ حمى الأقصى، وفي رحباته بكى أهل مقتول وعربد قاتـــــــــــــل
القصيدة تشرك الحواسّ مجتمعة للتعبير عن فظائع الصهاينة وأشاع الشاعر فيها صورة مخيفة ومخزية لحال الأقصى وأهله، ويسعى من وراء ذلك تحريك الهمم والنفوس.
وهذا شاعر عربي من موريتانيا فاضل أمين وقد نشرت قصيدته ( صبرا لكاع ) في كتاب في جريدة الصادر عن صحيفة تشرين نيسان 2008 وفيها يؤجج لهيب النفوس ويشعل الضمائر الخامدة :
القدس ليست خيمة عربيـــــــة ضاعت فردّد شاعر أنفاسهــــــــــا
القدس ليست قصة وهميـــــة تذرو الرياح الذاريات كلامهــــا
القدس تولد من هنا شمسها ومن الروابي يحتسين ضرامهــــــــا
ومن العقول وقد تبلّج نورهــا ومن الحضارة ركّزت أعلامهـــــا
قولا لمن باع الدخيل ترابهـــــا وأهان حرمتها وعقّ ذمامهــــــــــــــــــا
صبرا ( لكاع ) فكم عميل خائن وضعت بمفرقه الشعوب حسامها
للشاعر أسلوبه الذي يمتاز بالجزالة والواقعية ولم يخف آماله رغم سوء الواقع ورائحة الخائنين الذين تناسوا القدس. فتبقى بكائيّته صوتا لامس وجداننا من أقصى المغرب العربي.
وإليكم الصورة المأساوية السوداء التي رسمها الشاعر المصري جميل محمود عبد الرحمن، في قصيدته ( حلم أرضي المبعثر ) ونشرت في المجلة العربية ( السعودية ) عدد شوال 1428 -العدد /369/، في القصيدة يتصاعد الحزن وتشتّد وطأة المأساة :
كيف أدخلتم السوس / سوس الخديعة، سوس الخيانة / بين صفوفكم الملهمة / ودروبكم المعلمة ؟ / وتسيل دماء المآذن في القدس / تسيل دماء القباب / البلاد يخيّم فيها اليباب .. / ورهان الأفول يطل قميئا / كغربان شؤم وبوم / تريد امتصاص مياه عيون الضحايا / المراحةَ فوق التراب / وعلى جدر الأقصى / يتفجر خيط دموع .. /.
إنها لوحة تراجيدية قدر الشاعر على رسم معالمها، وإبراز أهم جوانبها المؤثرة.
والشاعر محمد محمد حسن شراب يتفجّع لحريق بيت المقدس .. ويستحضر السيّدة العذراء مريم. في قصيدته " في رحاب القدس " مجلة المنهل عدد 508/ 1993:
من ساحةِ للإسراءِ في المسجدِ من حرمِ القدسِ الطهورِ الندي
أسمع في ركنِ الأسى مريمــاً تهتف بالنجدةِ للســـــــــــــــــــــــــــيّدِ
وأشهدُ الأعداءَ قد أحرقــــــــوا ركناً مشَتْ فيه خُطى أحمـــــدِ
وأُبْصِرُ الأحجارَ محزونــــــــــــةً تقولُ : واقدساهُ يا معتــــــــــــــــدي
استطاع الشاعر أن يحضِرَ الأشخاص ويستنطقها واستطاع أن يشخّص الحجارة مرتديةً ثوب الحزن تنوح وتتفجّع منادية " واقدساه " .
ونبقى مع حريق الأقصى وما تعانيه القدسُ من جورِ وبطشِ الصهاينة. فالشاعر يوسف العظم في قصيدته ( القدس ) مجلة الحج والعمرة ( السعودية ) العدد السابع 1428 هــ، يضيء جوانب المأساة ، ويكشف أبعادَها:
يا قدسُ ، يا محرابُ ، يا منبرُ يا نورُ ، يا إيمانُ ، يا عنبــرُ
مَنْ لوّثَ الصخرةَ تلك التـــــــــي كانت بمسرى أحمدِ تفخرُ
وأمطر القدسَ بأحقـــــــــــــــــادِه فاحترق اليابسُ والأخضَـــــــرُ
والبغيُ مهما طالَ عدوانُــــــــــــهُ فاللهُ من عدوانِهِ أكبــــــــــــرُ
تعدادُ النداء وذكر الأماكن ولها قدسيتها ودلالتها يوحي بالأسى والمرارة التي تفتك بصدر الشاعرِ. فقد صوّرَ وحشية الأعداء وما أقدموا عليه دون تمييز ولكنه لم ينس مشيئة الله وقدرته على البغي والعدوان.
ولنا أن نتوقّف عند أبيات الشاعر ( خالد العدساني ) وقد وردت في كتاب العربي ( قوافي الحب والشجن ) العدد 42 ت1 2000 وعنوانها ( عيسى ) فالشاعر يخاطب نبي الله عيسى، ومهده في القدس، ويخبره عن فظائع الصهاينة الذين لا يعرفون شيئا عن الرحمة والإنسانية، فرأى في هذه الأعمال ما يقلق ويؤلم :
والقدس مهدك ماذا دبّروا وأتوا فيه من الويل والتقتيل والنقــــــــــــــــم
قد سلّطوا في بلاد الله شرذمة يدنّسون رحاب الحل والحـــــــــــــــــــرم
ما للسلام تباهوا يرجعون بـــــــه هل أدركوا الحق أم فاؤوا على ندم
وامتد أثر الحزن والفجيعة إلى مختلف الشعراء ومن كل الديانات فقد وردت قصيدة في كتاب ( شعراء النصارى العرب و الإسلام ) من منشورات مؤسسة البابطين للشاعر نبيه سلامة ( مولد النبي العربي ) فالشاعر يعتقد جازما أن مصاب فلسطين مصاب الأمة :
ليست فلسطين الشهيدة وحدها كل الجزيرة في المصاب شهيد
صبرا بلاد الأنبياء علــــــــى الأذى كيد البغاة لنحرهـــــــــم مردود
يا من يرون القدس في أحلامهم وطنا يهيمن فوقه التلمــــــــــــــــود
لا تستفيقوا، فالحقيقة مـــــــــــرة بين الحقيقة والمنام حديـــــــــــــــد
وقسا الشاعر بدوي الجبل على الواقع المتخاذل، فالفجيعة سلّمته سياط التنديد والتقريع، فلم يبك، ولم يستسلم للنواح، لكنه استخدم لغة مؤثرة، لها حواملها الفنية في فن الاستفهام وتصوير المنقلب الأثيم :
أين مسرى البراق، والقـــــــــدس والمهدُ وبيتٌ مقدَّسٌ معمــــــــــور
لم يرتَّلْ قرآن أحمد فيــــــــــــــــــه ويزار المبكى ويتلى الزبــــــــــور
أين آي القرآن تتلى على الجمـ ـع ؟ وأين التهليل والتكبيـــــــــر
أين آي الإنجيل ؟ فاح من الإنـــ جيل عطر، وضوء الكون نور
يالذلِّ الإسلام والقدس نهـــــب هُتِكَتْ أرضه فأين الغيـــــــــــور ؟
هذا غيض من فيض وقليل من الشعر الكثير الذي التحم مع الوجع الفلسطيني، اخترت بعض النماذج المتنوعة وآثرت تقديم مجموعة من النماذج ولشعراء من مختلف الأقطار العربية، هذه القصائد يجمعها المصاب وهول الفجيعة، ويربطها الإحساس الصادق بمعاناة القدس، جميعهم أيقن بدورها الديني ومكانتها، فلم يكتموا إحساسهم وفرط لوعتهم، قدّموا عصارة آلامهم وكانوا مثالا في ارتباط الشعراء بقضايا أمتهم المصيرية، هذا الشعر عبر عن اختلاجات النفوس فاستنطقوا القدس والمسجد الأقصى وقبة الصخرة، عبروا بأساليبهم ومن خلال فهمهم لوظيفة الشعر وتكوينهم المعرفي، فتفاوت المستوى، وتنوعت الأساليب بين التقريرية والمباشرة وبين الترميز والإيحاء، واقترب شعر التفعيلة من حسن التعبير والتخييل، وقد أجاد في توظيف الصورة واستنطاق الحالة.
وما هذا ليكون إلا لكون القدس نبض القلب ونور العين ومركز الإشعاع.
MAHMOUDASAD953@GMAJL.COM