الإبحار في عالم الشعر
محمود أسد
رحلتنا سريعة ووسيلتنا قارب بسيط يجدِّف به فنّان بارع, يعرف أحوال الأنواء ويحسن التعامل مع الأمواج. خبير بفن السباحة وإلا لما تجرّأ ,وركب عباب البحر ساعيا وراء لحظة من المتعة والجمال والفن. الشعر هذه الكلمة المعزوفة على الشفاه والتي يطرب لها الإنسان, ويتغنّى بها. فلا تخلو أمّة من هذه النفحات الوجدانيّة التي باح بها الإنسان منذ وُجد على هذه البسيطة, وأخذ يتكلم. فالشعر مولود مع الإنسان. وعاش في ظل اللغة .إنه لسان حال الإنسان في كل مراحل حياته وعصوره ولهذا خلّد على مر الدهر وشاع على حساب غيره من الفنون.
من الممكن أن نجد حضارة أمة خاليةً من الرقص أو الموسيقى أو النحت ,ولكن قلّما نجد أمة ,خلا تراثها من الشعر, لأنه بحدِّ ذاته شعر وموسيقى ونحت وهذا ما يميِّزه عن باقية الفنون الإنسانية الجميلة. فهو مزيج من تلك الفنون. الشعر هذا اللون الأدبي الرقيق، لا يزال يشغل القسم الأعظم من الحياة الثقافية. فأكثر المعارك النقدية وأشدُّها وقعاً تدور حوله. والتجديد في كل المراحل خصّه ,ولحقه على حساب غيره من الفنون وخاصة في شعرنا العربي قديمه وحديثه، فالخصومات الأدبيّة من المعلقات إلى شعر الفتوحات فأبي تمام والمتنبي والموشحات إلى عصرنا الراهن وقضية الشعر الحديث انطلاقا من قصيدة التفعيلة وما أثارتْه إلى ما يسمّى قصيدة النثر, وما تخلقُه من إشكالات إلى يومنا هذا, كانت مجال بحث وخلاف وهذا يعكس أهمية الشعر ويبرز المكانة التي يشغلها على حساب غيره من الفنون برغم ما يثار من زوابع حول موت الشعر أمام اجتياح الرواية للفنون الأدبية, وهذا الا دّعاء يستدعي التساؤل عن مصدر هذه الأحكام وخلفياّتها إذا علمنا أن الشعر يشكِّل مصدرا ومَعْلما من معالم تراثنا وشخصيتنا.
إن كلمة الشعر قدِّر لها أن تخرج من أعماق الإنسان بما تحتويه من إحساس ومشاعر ,ولذلك يبقى الشعر لغة العواطف المتدفقة والمركزة. فالشعر يعتمد على أكثرَ من جانب .وهو حالة بين مشاعر متدفقة وخيال نشيط متوثّب ,يحرِّك النفوس بنغماته الموسيقية الموزونة أو بتأثير الجرس الموسيقي للجمل والألفاظ وهذا سرُّ تميُّزه وحفره في ذاكرة الناس. فالشعر له وظائف متعدّدة على غرار غيره من الفنون، فهو غناء للنفس والروح ,وزرع ٌينمّي الحسّ الفني والفكري.على بساطه السحريِّ المريح يجنح الخيال ,وتعزف العواطفُ ألحانَها ,وهذا سرٌّ خالد في فعاليته ودوره. إليكم ما قاله معاوية بن أبي سفيان في هذا المجال :
يجب على الرجل تأديبُ ولده. والشعر أعلى مراتب الأدب. اجعلوا الشعر أكبر همِّكم وأكبرَ دأبكم ,ولقد رأيتُني بصفّين وقد أتيت بفرس أغرَّ محجَّلٍ ,وأنا أريد الهرب لشدة البلوى, فما حملني على الإقامة إلا أبيات عمرو بن الأطنابة :
أبتْ لي همّتي وأبى بلائي وأخْذي الحمد بالثمن الربيح
وإقحامي على المكروه نفسي وضربي هامةَ البطل المشيح
وقولي كلما جشأتْ وجاشتْ مكانك تُحْمدي أو تستريحي
هذه قصة عادية ,ولكنها تأخذ بنا إلى حقيقة جوهرية تبرز دور الشعر التهذيبي والتكويني. فالشعر يملك من المؤهّلات ما لا يملكه غيره ,فأثر لوحة فنية يغيب وأثر كلمة في قصة يُنسى ولكنّ كلمةَ الشعر موزونةٌ مركزة موحية وراسخة وأكثر تأثيرا وهذا ما دفع الأجداد والخلفاءُ والقواد للتلمذة عليه ,يعتمدون عليه في مهرجاناتهم واحتفالاتهم ومجالسهم، يصحبهم في حلّهم وترحالهم وسلمهم وحربهم. هذا غيض من فيض لمقالة قصيرة وهذا الاهتمام به دفعهم للتعريف به، ولكن لم يتمكنوا من الوصول إلى حقيقته الخفيّة. فتعريف الشعر لم يأخذ سمة التحديد المطلق كالنظريات الرياضية والعلمية التي لا يأتيها الباطل إلا بنقضها مطلقا من أساسها، فالتعريف تنوُّع وتعدّد من قائل : إنه قول موزون مقفّى على معنى، ورد هذا في نقض النثر لقدامة بن جعفر. إلى تعريف آخر ورد في كتاب الحيوان للجاحظ. ضربٌ من النسج وجيش من التصوير إلى تعريف أشمل ورد في كتاب "الوساطة بين المتنبي وخصومه" للقاضي الجرجاني : علم من علوم العرب يشترك فيه الطبع والرواية والذكاء, ثم تكون الدربة مادة له وقوة لكل واحد من أسبابه .فمن اجتمعت له هذه الخصال فهو المحسّن المبرّز. ..هذا التعريف يوضِّح عناصر الشعر وعوامل تكوين الشاعر المتعدّدة. وإني أرى كلمة فنٍّ عوضا عن علم لأن الفنّ موهبة واكتساب ودربة وإلمام. وربما يكون قولنا في تعريف الشعر " محاولة من محاولات تعريفه " الكلمة النابعة عن إحساس تأتي لرسم معالم النفس بإيحائها وأنغامها " فالشعر فيض شعوري هائل نحسّه من وراء الكلمات التي تشكّل إطارا موسيقيا فياّضا مصحوبا بحدّة انفعالية، تنتقل إلى الآخرين، لتؤثّر فيهم. فهناك سمات مشتركة ومتلاحمة في هيكل القصيدة ومضمونها، تكمن في الخيال والعاطفة والموسيقى. ولذلك يمكن اعتباره " فن من الفنون الجميلة وسيلتُه الكلمة الموسيقية المعبّرة الموزونة المحمولة على جناح الصورة " وبذلك يكون الشعر كلمة مهموسة. ليست كالكلمات العادية. فلها رنين وفيها نغم. ولها إيقاعٌ موحٍ بالكثير. تسير معك في الخيال وتأخذك إلى عالم السحر والجمال. فالشعر خلق مع الإنسان وهو خَلقُ الإنسان وخُلُقه. ويعيش معه ويحيا بحياته، يسمو بسموّه، ويموت بموته. فهو الصوت الجميل والنغم العذب واللحن الراقص. إنه شعور الإنسان وأحاسيسه. يرقّ إذا رقّ ويعذب إذا عذب. ويصفو إذا صفا. إنّه قابع في داخل الإنسان وفي كل مجالات حياته. نجده في كل مناحي الحياة وفي كل جهات الأرض.. وهذه جمل مقتطفة من حديث لعبد الله الأنصاري في مجلة العرب. " ويأتي سؤال خفي ". هل يموت الشعر ؟
نعم يموت لمن لا يعرفون حقيقة الشعر وطبيعته وعوامل صحته وعافيته. ولكن متى يموت الشعر ؟ يموت بموت الإنسان وينتهي بانتهاء الحياة .فما دام هناك إنسان فهناك شعر فالشعر مرتبط بالحياة ,فهو روح الحياة التي تتدفق في الإنسان وهو إحساس ما بعد الحقيقة وكشف المجهول ورحلة إليه .إنه لغة الفرح والغزل والحبِّ والحزن والزهو والحرب...
هذا ردٌّ على من يحاول إغفال دور الشعر وتقزيمَه أمام مجالات الإبداع الأخرى. فلا يمكننا إنكار حقيقة الشعر بأنّه إحساس داخلي عميق ,يبصره من ملك الإحساس وإن فقد البصر. ألم يصف المعري ليلة مظلمة ؟ فجعلها لوحة فنيّة تعجُّ بالحركة والانفعالات والألوان فتفوّق بوصفه على المبصرين :
ليلتي هذه عروس من الزنج عليها قلائد من جمان
وكأنّ الهلال يهوى الثريا فهما للوداع معتنقان
وسهيل كوجنة الحبِّ في اللون وقلب المحبِّ في الخفقان
فنحن أمام لوحة بديعة للدجى.
ألهمها الشعر للشاعر وما كان يدري بها ولم يرَها. فألهمه معاني ما كانت تدور في خلده, وألهمه إبداعا ورؤى مجنحة. ألم يصف بشار بن برد الذي برع في الوصف وفاق المبصرين ؟
فرسم صورة المعركة الحامية بمزيج من اللون والحركة :
كأنّ مثار النقع فوق رؤوسنا وأسيافَنا ليلٌ تهاوى كواكبُهْ
وقد سئل :
مالك تصف ما لا ترى ؟
فكان جوابه :
القلب يعشق قبل العبن أحيانا "
وهذه حقيقة الشعر. استشفاف للمستقبل، ورقّّة وعذوبة وخيال وأحاسيس، لا يمكن لإنسان عادي امتلاكُها. ولذلك كان العرب يحتفلون بولادة الشاعر فيقيمون المآدب ابتهاجا به فإسلام حسان بن ثابت أدخل السرور إلى قلوب المسلمين والرسول الذي سلّطه سهما فاتكا إلى صدور قريش وقال :
لساني صارم لا عيب فيه وبحري لا تكدّره الدّلاء
وهو الذي دعانا للتغني بالشعر :
تغنَّ بالشعر ما إنْ كنت ذا بصر إن الغناء لهذا الشعر مضمار
بناء على هذا لا يمكن لأي إنسان أن يكون شاعرا وإن ادّعى الشعر. فالشعر مركب صعب ويصعب النيل منه فلا يصيبُه ولا يملكه إلا كلّ ذي موهبة. وهذا ما عبر عنه الحطيئة شعرا :
الشعرُ صعب ,طويل سلَّمُه إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمهْ
فالشاعر يرسم دليلا لكل شاعر وبيان عمل متقن وليد دراية. فلا يظنّ الإنسان أنّه لمجرّد نظمه بعضَ الأبيات قد أصبح شاعرا. وليس هذا القول إحباطا للمبتدئين. والغاية من هذه الأسطر التوضيح لمن يسعى ,ويمضي في طريق الشعر والأدب. فالشعر ليس نظما لوحده، وليس عاطفة متدفّقة على حساب غيرها من العناصر. فالشعر موهبة وفن. والموهبة هي سرّ الإبداع في كل مجالات الحياة. لأنها رغبة وحبٌّ وسعي نحو الأفضل ورغبة في التطوّر. وهذه الموهبة لا يملكها إلا قلّة من الموهوبين, ولكنها تحتاج لمقومات النجاح والاستمرار في الممارسة والمطالعة ومجالسة الشعراء والأخذ برأي الخبراء والناصحين. الشاعر بحاجة لتنمية إحساسه الفنّي والإبداعي. وهذا ما كان يفعله أجدادنا. فهناك التلمذة والدربة والإلمام بمعارف اللغة وأسرارها. وهناك التنقيح والتريُّث. فكان الشاعر لا يسمى شاعرا إلا إذا أُعطِي إجازة تسمح له بقول الشعر، وأذكر قصّة جرت بين النابغة الذبياني وزهير بن أبي سلمى من جهة وكعب بن زهير من جهة أخرى. يروي المرزياني. أن ّالنابغة قال للنعمان بن المنذر :
تراك الأرضُ إمَّا متَّ خفّا وتحيا إنْ حييتّ بها ثقيلا
فقال النعمان : هذا بيت إذا أنت لم تتبعْه بما يوضّح معناه كان إلى الهجاء أقرب فعسر على النابغة الكلام. فأتى زهيرا. ثم تبادلا البيت مليّا فلم يأتِهما ما يريدان فقال كعب فما ينفعكما القول :
وذاك بأنْ حللْتَ العزَّ فيها فتمنع ُجانبيها أن يزولا
فضمّ زهير ابنه وقال :
أنت والله ابني "
هذه القصة وردت في الموشّح للمرزياني ص 46.
ولها دلالة على أمور هامة. إنها تظهر تذوّق النعمان للشعر واعتراف النابغة بمكانة زهير وشاعريته، وتبرز إمكانيّة كعب الشعريّة وتأثُّرّه بمدرسة والده التي تخرّج منها زهير وتخرّج عليه مجموعة من الشعراء كالحطيئة وكعب وجميل وكثير عزة وغيرهم .وتشير القصة إلى أمر هام في حياة الشعراء فالقريحة والشعريّة لا تنهمر في أيّة لحظة .تأتي على الشاعر ساعاتٌ لا يستطيع قول بيت أو تعديله. إنّ الجرجاني ذكر مقوماتِ الشعر وهي معرفة علوم العرب المتنوعّة بالإضافة إلى الطبع والرويّة. وفي هذا المنحى أذكّر بذاكرة أبي تمام في حماسته الشعرية الرائعة والطريفة، وكذلك مواقف الشعراء من أبي الطيب المتنبي وهم يردّون كل بيت يقوله إلى غيره من الشعراء بسرعة وبديهة متوثّبة. فهذا يدلّ على فِطْنتهم ودرْبتهم لأنها تُشكّلُ مبعثَ قوة ومتعة. وكذلك أذكر موقف المعري في مجلس الشريف المرتضى مدافعا عن المتنبي الذي يكره الشريف مذكّرا إيّاه بمطلع قصيدة من قصائده، فطرده من مجلسه لأنه لا يريد من القصيدة سوى بيت واحد.
فإذا أتتْك مذمّتي من ناقص فهي الشهادة لي بأنّي كامل
هذه قصص فيها المتعة والعظة لنا، وتبرز لنا ما يجب علينا من أمور، ونحن نسبح وننقّب في عالم الشعر. ودعاةُ الشعر كثيرون, ولكن الشاعر الحقيقي منفرد بميزاته وخصائصه، فإن ّ الحياة لا تنتج العبقريّاتِ للمجتمعات بالجملة بل كلّ فترة. وهذا حال الشعراء فالأعداد كثيرة والمبدعون قلّة. لأنهم استعجلوا الطريق وتطاولوا على الفن ِّالجميل الممتع قبل فهمه وهضمه. وهذا ما نخشاه على الفنون. إذا صعد إليها من لا يعرف جوهرَها. فإنه واقع لا محالة. ولكنه سيوقع غيرّه في المتاهات والمزالق. وفي هذه الحالة الهامة يظهر دور الناقدِ المثقّف الموضوعي والذوّاقةِ محلّلا وُمقيِّما ومقوِّما هذه التجارب الجديدة عن قرب وتعايش بعيدا عن الاستعلاء والمحسوبيات والانتماءات المنهجية والمذهبية والإيديولوجية، وهذا مرض يستفحل ويتضخم كالسرطان. فالأزمة الإبداعيّة يحمل شيئا من أزمتها النقّادُ الذين استسهلوا عملية النقد، وكأنها ممارسة ٌسلطويّة، غايتُها القمع. والشباب الأدباء بحاجة لمن يتقرَّب منهم ,ويأخذ بموهبتهم إلى بر الأمان دون إحباط لهمة للشباب من جهة، ودون إغراق في الإطراء على تجاربهم الفجّة بعد. وهم ليسوا بحاجة إليه في أوّل عهدهم لأن الفنّ والموهبة لا يقتلها إلا الغرور والثناءُ المبالغ فيه.
وهذا الأمر يتطلب إقامة علاقة ودّ موضوعية بين النقاد والمبدعين علاقة ترمي إلى إيجاد احترام متبادل ومقنع بين كافة الأطراف. فالأدب في أزمة .والشعر في ورطة منذ زمن ليس ببعيد، يتخبّط بين مذهبيّة لم تنضج ْفي بلادنا ,وانتماءاتٍ أخرجتْه عن روحه, وبين جري وراء المستجدّات دون وعي، والأنكى من ذلك العداوة بين الأشكال الأدبية الذي شملتِ المنابر الأدبية المقروءة والمسموعة والمرئية.
ما أعذب الشعرّ بعيدا عن أجواء التلوُّث ! وما أجمل بحيراتِه يجدِّف فيها من يحسن العوم فيها !
إنها لدعوة صادقة لفهم الشعر على بساطته وعفويّته بعيدا عن التكلّف والألغاز التي تجرّده من ثوب الفِطرة النقيّة.