الأديب حسن بيضة

الأديب الحلبي حسن بيضة محمودمحمداسد

العفوية والوفاء وإشكالية التصنيف

أنْعَمَ الله على حلب المحروسة برجال مخلصين ، أحبّوها لدرجة العشقِ والهيام . عشقوا فيها حجارتَها وأزقَّتها . عشقوا أسواقها وبيوتَها وحمَّاماتها ومساجدها وقلعتها . عشقوا دروب الكروم الموصلة إلى أشجار الفستق الحلبي ، وفوق هذا عشقوا غناءَها وأحّبوا من أحبَّها وبادلها الحبَّ كتابة وإقامة وعلاقة .

حلب محظوظةٌ بوفاء بعض مبدعيها الذين بادلوها العشق والهيام فأحاطوها من كلِّ جانب وسوَّروها بسياج من حبِّهم النقيِّ وإبداعهم اللائق بها . كيف لا يكون هذا وهي التي تبسط ذراعيها وتفتح قلبَها لوافديها ، علّهم يقرؤون سيرتها ويسطرون ما ترك في نفوسهم من أثر وشعور وهي التي جذبت إليها القريب والبعيد والعربيَّ والأجنبيّ والعدوَّ والصديق عبر تاريخها المديد . هذه المقدِّمة أقدِّمها لأنني جنديٌ من جنود الحبِّ والعشق لها . أتابع الحديث عنها ، وأنقّبُ عن رجالاتها وشعرائها .

وأحبُّ من يحبُّها وأقدِّر مَنْ يغرسُ فيها غرسةً أو ينصب فيها نصباً أولبنة ، ويزداد إكباري للذين يبحثون وينقبون في أسرارها وأعماقها.

أمامي مجموعة من الكتب المختلفة للأديب حسن بيضة .

وحسن بيضة نسيجُ وحده في سلوكه وطبعه وتآليفه. فهو رجلٌ بعيدٌ عن الأضواءِ ولكنه قريب جدّاً من الأدب والإبداع . يعيش مع الأدباء وتربطه بهم صداقات وطيدة قلَّ نظيرها ، وهي أنموذج للتقدير والإكبار والاحترام والحب المتبادل . هذه الصداقات جاءت نتيجة تفرُّغه في كلية الآداب ( جامعة حلب ) هذه الكلية التي أمضى فيها سنين خدمته الوظيفية أميناً لمكتبة المرحوم عبد الوهاب الصابوني الذي أحبَّهُ لدرجة العشق واهتمَّ به حيّاً ومَيْتاً ، وحرص كلَّ الحرصِ على إحياء ذكرى وفاته كلَّ عام ولسنوات مديدة ، في مكتبته تجوَّل بين الكتب الغنية والمنوّعة .

قرأ وتابع وتعرَّف على الوافدين والمتابعين واستخلص الكثيرَ من الآراء والعلاقات الودّية الجميلة ولخَّص الكثيرَ من قراءاته في الرواية العربية والعالمية .

حسن بيضة والتكوين :

لم يقدِّم الأستاذ حسن بيضة تعريفاً مفصَّلاً عنه كعادة الكثيرين بل ذكر أنه من مواليد عام ألف وتسعمئة وخمسة وأربعين . ولكن القارىء لبعض أعمالِهِ (( في الجامعة - المعادي )) ودراساته عن مدينة حلب وآثارها ، يعرف أنَّهُ ترعْرَع في بيئة شعبية نقيَّة في علاقاتها الاجتماعية . نَهَلَ منها بشكل عفويٍّ وارتبط بها ارتباطاً وثيقاً . هذا الارتباط انعكس حبَّاً وشغفاً بها وهذه العفوية ما زالت تترك بصماتها على كتاباته وأبحاثه وعلاقاته ، ولهذا التكوين دور كبيرٌ في توطيد علاقاته الاجتماعية وهذه العلاقات الجميلة أسَّسَتْ لنوعٍ من الأدب الإخواني الراقي وتجسِّده الإهداءات التي قدَّمها لأعمالِه .

إنَّ تكوينه مستخلص من أعمالِه التي تغطي طبيعته تراه في قصة (( في الجامعة )) وفي قصة (( المعادي )) وهما من أدب السيرة الذاتية .

أليس اختيار المرءِ جزءاً من عقله وطبيعته ؟ فلنقرأ عنوان المعادي . وهو حيٌّ شعبي قديم عريق بعاداته ونضاله في حلب وما دراسته لمساجد حلب وأسواقها وآثارِها إلاَّ من أثرِ حياته في هذا الحيِّ القريب من أسواق حلب ومساجدها الأثرية القديمة … وفي قصصه يعكس لنا حياة الكروم كرومِ الفستق الحلبي والّليالي المقمرة وما هذا إلاَّ من أثرِ نشأته في كنفِ والديه ولا أستطيع تجاهل مطالعاته الغزيرة للكتب التراثية والروايات العربية والعالمية واغتنى من مطالعات كتب المرحوم عبد الوهاب الصابوني ، تلك الكتب التي أهداها لمكتبة كلية الآداب وضَرَبَ مثلاً رائعاً في الإيثار والحبِّ وَوَضْعِ الأجْرِ في مكانه الطبيعي هذا التكوين لا بدَّ أن يعطي ثمارَه وأن ينتجَ الشهدَ والعبقَ وكانت محضّلَهُ هذا التكوين عطاءً وافراً وغنياً ، فقدّم مجموعة من الكتب والأبحاثِ المتنوعَة.

في مجال القصة : 1. في الجامعة ، 2. المعادي (( جزءان )) ، 3. ظفر، 4. النمر .

و في الدراسات : 1. ابراهيم هنانو 2. عبد الوهاب الصابوني 3. الجمال في آثار حلب و أبنيتها 4. أعلام من حلب .

و هناك مقالاتٌ مختلفةٌ ، و قصص قصيرة و له مقابلات كثيرة مع أدباء و مفكري حلب نَشَرَها في مجلة أضواء اليمن و مجلة الحسام … هذه الأعمال وَجَدَت مَنْ يقف عندها و ينقدها و يبرز ما فيها من حُسْنٍ و جمالٍ و معرفة و ما عليها من قضايا فنيَّة . هذه الأبحاث و الكتب بعضها نُشِرَ في الصحف و المجلاّت و على حلقات و لكنَّ اللافت أنَّ الكاتب ينشر كتبَهُ بأسلوبه الخاص و طريقته الخاصة و يوزِّعها على المقرَّبين و المختصين و يرسلها إلى المكتبات العامة في الدول العربية و جامعاتها و بعض المكتبات في الدول الأجنبية .

العفوية و الوفاء في أدب حسن بيضة :

أقول : إنَّ هذه الثنائية الجميلة تتمركز في دائرة الحبِّ و يمكن جمعها في كلمة الحبِّ ، و لكني آثرت التقسيم للإيضاح و للولوج إلى أعماقِ الكاتب و أضيف من جديد أن هذه العفوية و هذا الوفاء موسومان بطباعه و سلوكه وعلاقاته و لذلك لا يمكننا الفصلَ بين سلوكه و طباعِهِ و بين كتاباته و هذه نقطة إيجابية فالعفوية تبدو في كلِّ جملة و في كلِّ دراسة و هذا ما سوف أدلي به ، تتجلَّى في نواحٍ متعدِّدة فأسلوبه بعيدٌ عن التعقيد تراه سلساً و عذباً جميلاً تشدُّك عفوية الجملة التي جاءت بثوبٍ عربيًّ فضفاضٍ و تأخذك معها إلى مناهل الجمال و النقاء اللغوي و قد ذكر ذلك الدكتور عصام قصبجي في مقالة (( حسن و الشعر )) .

(( لم ينظم حسن بيضة بيتاً من الشعر قط ، بيد أنَّه ما انفك يحسُّ بالحياة إحساس شاعر ، و يتصرَّف مع الأشياء تصرُّف شاعر ، و ينظر إلى الناس نظرة شاعر فتراهُ هائماً بالأزهار هيام عاشق مدنف عاكفاً على الكتب عكوف زاهد متبتل ……… و ذلك أنه ما أن تجيش في صدره خاطرة حتى يهرَع إلى الورق ، ينقشها كما هي ، و دم الانفعال لا يزال يتدفَّقُ فيها فلا ترى فيها زيفاً أو تصنيعاً أو مجاملة أو صقلاً )) . ملحق جريدة الثورة الثقافي دمشق 2 / 3 / 1997 .

و تطلُّ علينا عفويته في تقديم الموضوعات و العناوين ، فهو صادق مع محبيه و هذا ما يجعله بسيطاً أمامهم ففي حنايا كتبه صور أصدقائه و أفرادِ أسرته . و يخصُّ أصدقاءَه بالإهداء و التقديم فالموضوع الذي يشغله ، يتملكه دون أن يبحث عن سبلٍ أخرى لتقديمه فتكمن غايته في إيصال حبِّهِ و لوعته و عشقه لمن يحبُّ و يجلُّ .

هذه السمة الإنسانية البارزة انعكست في دراسة الأصدقاء المختصين لأدبه و لأعمالِهِ فقد تناولوه غيرَ مرَّة في مقدِّمات كتبه والدوريات ، و لكنهم جاملوه حيناً و نقدوه في جوانب الفنِّ و المنهجية . فقد قدَّم الدكتور عبد الرحمن دركزللي قصة (( المعادي )) و مما جاء في ذلك و يؤكد ما أقوله (( رأيت في قصتك – يا أخي – أعماق نفسك و قد هتكْتَ عنها الحجبَ ، و قد أزحْتَ عنها ستائر النسيان و كل من عرفك يشهد لك بأنك صادق فيما كتبت ، و مخلص فيما رسمت … و كنتُ أتوقع لك أن تجري على أسلوب نجيب محفوظ بواقعيته المرّة أو على أسلوب (( الحكيم )) بفلسفته العميقة و رؤيته الساخرة … غيرَ أنك آثرت أن تكون فذاً في أسلوبك فإذا بك تضارع ، ما انتهى إليه عباقرة القصة … و قد لفت نظري في قصتك أيضاً أنك لا تسير على نهج واحد . و إنما تستخدم ما هو مناسب من سرد و حوار ومنولوج و ترجمة ذاتية بحثاً عن الحقيقة ))

أعود من جديد إلى ثنائية العفوية والوفاء ، انعكس وفاؤه وإخلاصه على أبحاثه وكتبه وكذلك انعكس تكوينه وخلقه في كلِّ خطوة يخطوها ، هذه العفوية تمثَلَتْ بوفائِهِ لمن أحبَّ . فحبَّهُ لحلبَ حرَّضه للتجوّل في أزقتها وأحيائها ولقراءة ما كتبَ عنها ومتابعة أخبارها وهذا ما بدا في دراسته (( الجمال في آثار حلب وأبنيتها )) في هذا البحث الجادِّ والهام تتنشَّقُ الحروف والجملُ والصورُ التي ذيّلت في صفحات البحث من عبق حلب ومن مآذنها ومبانيها وأسواقها . فلم يكن الأستاذ حسن بيضة إلاَّ عاشقاً استطاع أن يلتقط جزئيات الجمال في هذه المدينة التي تستولي على مشاعره ، فتأسره وهو راضٍ ، وتتعبه بحثاً وهو سعيدٌ . والسرُّ في ذلك لأنه حبُّ الجمال وقد قال في مقدِّمة كتابه : (( عشقت حلب كما عشقها الطباخ والغزي والأسدي وغيرهم في عصرنا وكما عشقها أجدْادُنا .. فكم زرتُ الجوامعَ القديمة والحديثة ، أقرأ ما خطَّ العباقرة من لوحات وخطوط، وما رسم المهندسون من أشكال وصور .. كلُّ ذلك بروح وثّاب بين الأسواق والخانات …… وفي مكان آخر كشف سرَّ الحبِّ عنده فقال : الجمال يمدُّنا بحبِّ الحياةِ ، نصغي إلى إيقاعها العذب ، ونحن من أقدر الناس على التعبير عن مشاعرنا البشرية بحساسية مرهقة … ) ص7

في هذا الكتاب تجوّل بين المساجد القديمة والحديثة وتحدّث عن أهم مظاهرها من محاريب وأبواب ومآذن … واتَّسَمَ هذا البحث ببروز شخصية الكاتب وفلسفته للجمال وحديثه عن روح حلب …. هذا الحبُّ الدفّاق الذي ينسكب سلساً ونميراً صاغه عقداً ثميناً وهو يتكلَّمُ عن أعلام حلب ممَّنْ أحبَّهم عن قرب وجالسهم طويلاً ، وعرف كلِّ صغيرة عنهم ، فبادلوه حبّاً بحبٍّ . فهذه العفوية التي تقترب من روح الطفولة النقيّة سيحبّها وفاؤه ، فكانت علامَةً وثيقة على مستوى الكتابة والتعليق والإغناء بالصور والإهداءات والإطراء والحديث عن الصداقة ومقوِّماتها وإجراء المعادلات بين العقل والقلب والمراسلات الإخوانية التي تصلح للدراسة المستقلة . فكتب عن شكيب الجابري ومحمد الأنطاكي والدكتور عبد الكريم الأشتر والدكتور عبد الرحمن دركزللي ، بإيجاز ولكنه أسهب في الكتابة عن الشاعر الأديب محمد كمال والشاعر مصطفى النجار والفنان التشكيلي العالمي سامي برهان والذي حظي بحبِّهِ وتقديرهِ وأهداه لوحات رسمها خصيصاً له وقد وضعها على غلاف بعض كتبه وافتتح كتابه (( الجمال في آثار حلب وأبنيتها بكلمة الفنان سامي برهان والتي قال فيها : / الباء متممة للحاء / لولاها لما كان الحب . ح + ب ./ لما كان الأمان .. الحنان ، الثورة / وبولعهما يتم الحب والسعادة / البهجة والفلاح / التجلي والإبداع / لتكون حلب .. حلب التسامي .. حلب الوفاق / حلب الخير، حلب الجمال .. / حلب في الجهات تسطع / حلب في كل الفصول تنير / قسماً بالحاء والباء / إني منكِ وإليكِ / أنت كلّ كلّي يا حلب / لكَ دوماً يا بلدي / لكَ دوماً يا وطني / إنها كلمات الفنان يرسمها بالأحرف ويخطُّها بأهدابه ليبعثها حبّاً وانتماء .. إننا بصحبة كاتب حبُّهُ من نوعٍ آخر ، وعشقه فريد وشخصيته أنموذج الصادق الوفيّ لمن يحبّ … وأغصان وفائه أثمرت في كتابه عن أستاذه المرحوم (( عبد الوهاب صابوني ) الذي لازمه طالباً وفي حياته وبعد مماته حتى اقترن اسمه باسمه فأحيا ذكرى وفاته لسنوات مستمرّة وعلى منابر مختلفة وكان لي شرف المشاركة ثلاث مرّات .. وفاؤه للصابوني أزهر وأينع في كتابه عنه . عندما تناوَله بدقّةٍ وبراعةٍ وقد درسه مربيّاً وشاعراً وقاصّاً وخصَّهُ بكلمات الوفاء واختار له من أشعاره ودرس قصته (( عصام )) دراسة تحليلية جليّة ومجليّة . ومستفيضة واستمر وفاؤه لابنه ظفر وقد كتب قصته بعنوان (( ظفر )) وأهداها إلى ظفرعبد الوهاب الصابوني وفي دراسته المستفيضة عن الصابوني قدَّم حسن بيضة نفسه دارساً وباحثاً جادّاً فقد ألمَّ بأدقِّ الجوانب والتقط مفاصل هامة وغنية من طباع وميول وأهواء ومساجلات الصابوني مع الآخرين .. وحلَّل الصابوني الإنسانَ والمربّي وذكّرنا بدراسات الدكتور محمد النويهي ودراسات العقاد للعبقريات . وقد وجد الصابوني التكريم في حياته وبعد مماته من تلميذه حسن بيضة وهذا شيء رائع في زمن عزَّ فيه الوفاء وندر رجاله .

ومن الكتب التي أغنت المكتبة الوطنية النضالية كتابه عن الزعيم (( ابراهيم هنانو )) في هذا الكتاب يتنامى جوهر البحث والاستقصاء فيرصد نضال المناضل (( ابراهيم هنانو )) وقدَّمه على أكمل صورة من صور النضال الجادِّ الصادق .

إنَّ دراسته عن ابراهيم هنانو تشكِّل معيناً ثراً ومنهلاً عذباً لحركة النضال الوطني ، رسمها بدقة ورصدها بحبِّ محتملاً البحث والسؤال والمقابلة للوصولِ إلى المعلومة السليمة واستشهد بأقوال ابنته وأقوال أقربائه وخطبه .

ودعّم ذلك بالصور الطريفة والنادرة وأستغرب عدم تبني المؤسسات الثقافية لمثل هذه الكتب التي تبقى شاهذاً حياً للأجيال القادمة .

إنَّ معين الحبِّ لا ينضب عند حسن بيضة . ويمتدُّ الحديث عن وفائه وحبِّه لأصدقائه ، ولأنَّ صاحبنا يعشق حلب ويعشق الجمال ويجلّه كتب عن نخبة من فناني حلب كالنحات وحيد استانبولي الذي نفّذ مدخل حلب الجميل في لوحة الخصب والعطاء واقترب منه محاوراً ، وكذلك كتب وحاور الفنان التشكيلي عبد الحمن مهنا وبيّن أهمية موهبته ووصف مرسمه وأتبع دراساته بالفنان التشكيلي معن استانبولي صاحب فكرة وتنفيذ تمثال خليل هنداوي المنصوب في حديقة حلب العامة كلّ هذه المقالات والدراسات تكشف لنا العمق النفسي في حسن بيضة وتجلّيات البحث والفهم للوصول إلى الآخر

وتقدم لنا إنساناً ودوداً محبّاً ومخلصاً وما إهداءاته لأصدقائه إلا إنعكاس صادق لهذا الحبّ فلم يوفّرْ عزيزاً من إهداءاته . أهدى كتبه لوالديه ولزوجته ولإخوته وأخواته ولأولاده وأحفاده ولأصدقائه الدكتور حلمي عبد المجيد والمهندس عبد الكريم كتلو وإلى الدكتور المرحوم محمد حموية وإلى أصدقائه محمد كلزية وياسين عك والدكتور عبد الرحمن دركزللي . هذه الاهداءات المصحوبة بصورهم وصور غيرهم تعكس بجلاء عفوية الكاتب وصفاء ذهنه وابتعادَه عن التكلف وتعَمِّقُ رؤيته للحبِّ الذي يمارس طقوسه على طريقته الخاصة . ألم نقل أنه نسيج وحده؟

إنَّ تقديري لحسن بيضة على المستوى الشخصي والإبداعي لم يمنعني من التجرؤ والقول :

إنَّ هذه العلاقات الإنسانية الصافية جعلت الكتابة عنه تقتربُ من الإطراء والمبالغات وتنسى بعض الجوانب الأساسية في الابداع وربما يشملني الاتهام وأعتقد أن أغلب الكتابات عن الآخرين كانت بدافع الحبِّ والإعجاب أو بدافع الحقد والاختلاف ، وقليلون من كانوا موضوعيين في دراساتهم وهذا الكلام لا يقلل من شأن كتابته ولا يضعف أواصر الودِّ ولذلك وجدْت في الكتابة عنه ميلاً إلى الإخوانيات ، ووجَدْت ذاتَ كلِّ واحدٍ منهم من خلال علاقته معه فكان قلمهم سيَّالاً ومتدفّقاً بالحبِّ . فقد بادلوه الحبَّ والوفاء كما بادلهم ، فعبروا عن مشاعرهم نحوه . فقد أهداه الشاعر محمد ياسين عك قصيدته بعنوان (( صديق العمر )) ومنها :

حسنٌ أنتَ وتبقى الحسَنا
بكَ في الإخلاص يزهو عالمٌ
ارتضيت العيش سهلاً رائقاً
وإذا ما رمت أمراً نلتهُ

زادَك اللهُ من النُّبْلِ غنى
وتباهي منك في الودِّ دُنا
وابتغيْتَ العزَّ دوماً وطنا
لا تبالي تعباً أو وَهنا

وحظي بأبياتٍ من أشعار أستاذه عبد الوهاب الصابوني :

إنّي عهدتُك يا عزيزي المرتضى
شهماً وفيّاً لا تبالي بالصِعا
وخبرْتُ فيك الصبرَ والإخلاصَ في

مِنْ خيرِ خلق اللهِ في هذا الزمنْ
ب الجامحاتِ ولا تبالي بالمحن
كلِّ الأمور ، رعاك ربُّك يا حسنْ

وعبَّرَ الباحث الشاعر (( محمد كمال )) عن تجربة حسن بيضة فمما جاء فيها :

(( وتتساءَل كيفَ استطاع حسن بيضة أن يوغل في غابة الزمن التي تكتنفها لواقح الغموض ، فيخرج منها تلك الشعلة المقدّسة وقد خلعتْ عنها غلائل الأسرار ، وكشفت ما في دخيلتها من الأنوار بأسلوب يتدفق بالعاطفة ، ويتلظى بالحماسة مع ما تقتضيه المادة مِنْ وعي تاريخي علمي وغوص في أغوار نفس الزعيم وفكره … ويتابع قوله وثمة ظاهرة أخرى في هذه الكتب تطالع القارىء ، وتستحوذ عليه ولا تكاد تغادر صفحة من الصفحات وهي أنَّ الكاتب وهو يتحدّث عن هذه العبقريات المبدعة في شعاب الفكر والأدب والفن لم ينس العراقة الحلبية الأصيلة وأثرها في تكوين الإبداع وإخصابه فإذا بهذه الشخصيات تتحرك في تجليّاتها الإنسانية على مهاد هذه المدينة الخالدة فتتشرَّب من تراثها العابق وتقاليدها الثريةِ وذوق أهلها ورقة طباعها ….))

لا شكَّ أن الكتابة عنه ستعكس العلاقة طرداً كما ذكرت فمن هنا جاءت ثنائية العفوية والوفاء بينه وبين الآخر الذي بادله العفوية بالعفوية والوفاء بالوفاء وهنا تتمركز هالة الحبِّ الذي انطلقت أشعتها من كلِّ الجهات .

إشكالية التصنيف :

القارىء لأعمال الأديب حسن بيضة وكتابات الآخرين عنه يدرك بُعْدَ هذه الإشكالية فأعماله تقدِّمه لنا باحثاً وقاصّاً وروائياً وناقداً فنياً ومحاوراً صحفيّاً .. وتقدِّمه محللاً نفسيّاً في دراسته لبعض الشخصيات كالصابوني ، ترى فيه نفسَ الباحث والدارس والروائي والصحفي ولكن تجد الصعوبة في تحديد سمة كلِّ صفة والخروج عن منهج كلِّ جنس أدبي فكتاباته عن الفنانين فيها من الثقافة وحبِّ الجمال الذي عبَّرَ عنه إنشائياً وبأسلوب شائق ولكن لم يقترب من كنه الأعمال الإبداعية لهم ، ولم يتجاوز حدود الإعجاب والتقدير ، وهذا الكلام لا يقلِّلُ من شأن شخصه ولا من قدرة وإمكانات الفنانين المبدعين ودراسته عن الزعيم ابراهيم هنانو والمرحوم عبد الوهاب الصابوني فيها روح البحث والتقصِّي والخبر التاريخي باقتفاء أثره ، وامتاز بالتحليل النفسي في دراسة الصابوني وظهرت متهجبة البحث جليَّة في الدراستين المذكورتين .

ولو عرَّجنا إلى عالمه القصصي الحافل بالمكان والزمان والسرد . فالمكان هو البطل والزمان هو محرّكه فلا تجدُ منهجاً أو أسلوباً روائياً بعينه ، فهو يقدّم لوحات وأحداثاً وأياماً وقصصاً لا يربطها سوى خيط وجداني رفيع من الحبِّ والنقاء . فدراسة أعماله القصصية لا يمكن أن تخضع لمعايير النقد الروائي والقصصي الحديث وهو يعي تجربته ولو ناقَشْتَه لأجابك هذا أسلوبي وهذا الشكل المحبّب لي ، وهذه المنهجية التي تعتمد على التفريق وجمع الأحداث تغلب على قصصه ولكنها تقدّم حلب كما هي وحلبَ كما يراها في ذاكرته .

يقدِّم صوراً عن المعادي وعن الحياة فيها ، يقدِّم نبض الإنسان ونبض الأزقة والأبواب والمآذن ولكن كما يريدُ هو لا كما نريد وهذه واحدة لصالحه إن أحسن استخدامها ، وقدر على ترسيخها وتخليصها من بعض العيوب .

وفي إشكالية المنهج يتضح عدم ضبط إيقاع فقرات ومواد الكتاب ، فتراه مزيجاً من الخواطر والأقوال والمقالات عنه وعن غيره ، وغياب الفهرسة أحياناً . فالكاتب رجلٌ ينظر لما يريد ويرغب ويحبّ وكأنَّ الوفاء والحبّ بررا له أن ينهج أسلوباً خاصاً به في كتبه .

بقي أن أقول حول إشكالية المنهج لمن كتبوا عنه فقد مالت كتاباتهم كما ذكرت للإعجاب والإشادة بطباعه النفسية والإنسانية والأسلوبية على حساب العمل الفني الذي يحتاج لوقفات أكثر موضوعية لتتجاوز بعضاً من الإخوانيات ولكن تبقى كتاباتهم مبعث اعتزاز لما فيها من مشاعر فيّاضة وكشف لخفايا النفس والطباع .

دراسة موجزة لقصة في الجامعة كنموذج ورؤية :

إنَّ قراءة قصة في (( الجامعة )) لا تحتاج للقراءة ثانية ويجد القارىء نفسه مرتاحاً من عناء الكدِّ الذهني والجري وراء الألغاز والبحث في سراديب المتاهات ، فهي تقدِّم مؤلفها كبطل يسرد ذكرياته ومغامراته وفيها الكثير من طباعِهِ . وهي قصة جاذبة بما تملك من أسلوب السردِ الماتع . وبنيت عن طريق الذكريات والمذكّرات والاستدعاء والقاص صاغ قصته كما يريد هو دون عناء وبحث في آلية الأحداث وطبيعة ديناميكية بناء القصة وهذه حالة مع أغلب قصصه التي كتبها من بعدها ، وقد ترك القصة تسير بعيداً عن التعقيد والبحث عن صيغ متينة لبنائه فالمكان متنوِّع ومتنقل من حلب إلى بيروت ودمشق بعكس المعادي التي قدم فيها البيئة الشعبية الحلبية الأصيلة والعريقة .

قدَم الأماكن مرسومة بريشته الدقيقة وأسلوبه الشائق وهو أحد المفاصل الأساسية في هذه القصة وفي كتاباته كما ولكن ذكرت سابقاً. تبدو الأماكن جامدة ، تتحرَّك بواقعية مُبسّطة دون الاستغراق برومانسية المكان الذ أحبّه القاص كثيراً ولكن القصة تكشف حبّه وتعلَقه بالجمال الذي كان مخلصاً له على مستوى الوصف للطبيعة كالبحر والمصايف أو على مستوى المرأة التي كانت المحرّك الأساسي في هذه القصةفرافقته في كلِّ أحداث القصة ، قدمها عارية ومحتشمة ومتحدّثة ومتزوجة وعانساً ، قدَّمَ هذه النماذج بشكل لايخدم القصة بل هو أقرب إلى الحشو والإسهام في التفصيلات التي لا تخدم ولا تحرك الأحداث فلم يتجاوز الوصف .

والزمن في القصة ممتدٌ لأربعة عقود زمنية ينتهي بالتوبة والعودة إلى الله وفي القصة نزوع إلى الخير والفضيلة وحب الجمال رغم المغامرات والنهم الجسدي والنزوات. أغفلت القصة أحداثاً هامة كانت تجري في هذه الفترة الزمنية من الاستقلال إلى الوحدة إلىالانفصال . أرى القصة بحاجة لشخصية ثانوية أساسية تسير جنباً إلى جنب مع حسان . فتحرّك الأحداث وتقدِّم حالات التضاد والصراع . في هذه القصة وغيرها من أعماله انتصرت اللغة بصفائها ورونقها وسلاستها وانتصرت روح حسن بيضة المتوثبة للخير والجمال ..

أراء وإضاءات من فكر حسن بيضه :

أحببت أن أختم دراستي عن الصديق حسن بيضه في اختيار كلمات مضيئة له :

- فحلب مدينة تنصبّ فيها جميع الفنون لتنطلق إلى العالم الإسلامي ، لأن مركزها التجاري يؤهلها لذلك . وفي حلب ولع نادر بتذوق الفن.

- في البيت يشعر الرجل بدفء الزوجة والأولاد ، ولكنه مع الصديق تتفتح أبوابه مشرعة لتلقى وميض الحب وشعاع الوفاء.

- المرأة واقعية ، رجلاها في الأرض ، تسعى نحو مصلحتها وأولادها بتفان عجيب ، تُسَخِّر كلَّ ما لديها من أجل استمرار الحياة . وهي مهمة عسيرة وشاقة ، وجمالها وشبابها هدفان لهذا الغرض فهي التي تطبخ وتلد ، وتربي الأطفال ، وتقوم بالواجب الزوجي ، وهي مهمات كبيرة ..

- الفنان قد يضحّي بوجوده كإنسان في سبيل الاحتفاظ بوجوده كفنان تلك مقولة قرأتها ، واستقرت في عقلي ، فلقد عايشت كثيراً من الفنانين في بلادي ، فرأيت أعمق هم في فهم الفن ورسالته ذلك الفنان الذي نأى بجسمه وحياته عن عالم الواقع ، وطار يحلق في دنيا رؤاه..

إنَّ الرحلة مع حسن بيضة تطول وإنَّ الحديثَ عن حبِّه لا ينتهي سيبقى درَّةً من دررِ عقدٍ ثميتن سوَّر مينة حلب بالحبِّ والعطاء والبحث وما الحديث عنه إلا وفاءٌ وتقدير لشخصه المتميّز ولإبداعهِ الجادِّ الذي يمثّل شخصهُ وسلوكه أصدق تمثيل ويبقى في جعبتنا الكثير مما يقال عنه فلم أتحدث تحليلاً عن قصصه القصيرة جدّاً

وعن قصة ظفر والنمر وقصة الثعلب ، وتجاوزْت الحديث عن كتابه الذي تناوَل فيه حياة الفنّانة ميّادة حناوي وهي في بداية طريقها الفنيّ وقد تنبأ لها مستقبلاً وأعجب بصوتها وأدائها . وفي أدراج مكتبته مخطوطات تنتظر النور – قصةبطل – في الموسيقا والغناء – في النقد التشكيلي – في النقد الأدبي والتصوف – الصداقة – محاضرات في الأدب الفكر.

وتبقى في ذاكرتنا روح حسن بيضة المتوثبة للحبِّ والإخلاص والتي تعبرُ إلى الأشخاص الطيبين فتجذبها وتجبرها على ممارسة طقوس الحبِّ والعرفان والإكبار . ويصعب على أيِّ إنسان أن يلج إلى أعماق هذا الانسان إذا لم تكن روحُه قد وثقت به ودرسَتْه خير دراسة سيبقى أنموذجاً حسناً ورائعاً في علاقاته وطباعِهِ وأسلوبه وأضيف إلى ذلك في منهجه وإن لم يرقْ لكثير من الأدباء وأنا واحِدٌ ممَّنْ توقَّفَ عند هذا المنهجِ وناقشه ولكنِّي احترمْتُ رأيَهُ ورؤيتَه وأنا أجد فيه الإنسانَ الذي يأْبىأن يكون تابعاً ومقّلدا ……

اديبنا العظيم

استاذ محمود أسد

تحليل راقي برقيك

وكما عهدناك عالما وباحثا ادبيا راقيا

لروحك بتلات الجوري

ولك خالص تحياتي