إنها ليست فتنة !!
د. راغب السرجاني
يحلو لكثير من المتابعين لأحداث ثورة مصر المباركة أن يصفوا الأحداث بأنها فتنة, ومن ثَم فإن اعتزالها أولى في رؤيتهم, فهو من جانب لا يشارك مطلقًا في هذه الأحداث، ومن جانب آخر أخطر يثبِّط الناس عن العمل الذي يُفضي إلى حريتهم وكرامتهم..
مَنْ هؤلاء الذين يصفون الأحداث بأنها فتنة؟ وما هي أهدافهم؟
واقع الأمر أنهم طوائف متباينة للغاية، ويختلف بعضها عن بعض تمام الاختلاف، وأستطيع أن أتبين منهم ثلاث طوائف كبرى..
أما الطائفة الأولى: فهي تتبع الحزب الفاسد الذي يحكم البلاد بالحديد والنار، وهؤلاء مستفيدون من وجود الفساد والظلم والسرقات والنهب، ويرون أن الظالم لا بد أن يستمر في ظلمه، والفاسد يستمر في فساده، فإذا وقف أحد في طريقه فإن هذه عندئذٍ فتنة! قد تراق فيها دماء زكية طاهرة! فلا داعي للفتن، ولْيَبْقَ الوضع كما هو عليه..
ويتولى كِبْر هذه الطائفة الإعلام الكاذب الذي يحمي النظام الحاكم، والذي يحميه كذلك النظامُ الحاكم، وقد يوظِّف هذا الإعلام بعض علماء السلطة، وبعض المفكرين المأجورين، وبعض الشباب المغيَّبين؛ لكي يعضدوا من رؤيته، ويرسخوا من نظرته.
وأما الطائفة الثانية: فهي طائفة المساكين من عموم الشعب الذين يريدون الحياة الآمنة ولو كانت مهينة، ولا ترقى أحلامهم إلى حرية وعدالة ونظافة وريادة، إنما يحلمون بلقمة العيش فقط، وتأمين المستقبل القريب جدًّا، وهؤلاء سماهم الرسول (بالإمعة)، فقال : "لاَ تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلاَ تَظْلِمُوا"[1].
هذه الطائفة الثانية ترقب دائمًا الأحداث دون أن تشارك فيها، ولو نجحت الثورة فسيكونون من أحبابها وماديحها، وإذا فشلت سيقولون للثوار: ألم نقل لكم إنها فتنة؟! وهؤلاء -في رؤيتي- ليسوا منافقين، ولكنهم مساكين جبناء إمعة يريدون للأحداث أن تهدأ وتنتهي؛ حتى يستكملوا رحلتهم في البحث عن لقمة عيش أفضل.. وهم يجدون في لفظ "فتنة" مخرجًا لطيفًا لهم!
أما الطائفة الثالثة: فهي طائفة من العلماء المخلصين، والذين لا نشكُّ أبدًا في نواياهم وإخلاصهم، وهم يتبعون مذهبًا فقهيًّا يرى أن مجرد التقاء المسلم مع المسلم بسيفه فتنةٌ لا بد أن تُتجنَّب، وأن الخروج على الحاكم الذي يقيم الصلاة، أو الذي لم يَكْفر أمرٌ غير جائز شرعًا.
وهذه الطائفة -كما ذكرت- تضم علماء مخلصين لهم باع طويل في العلم والدعوة، كما أنها تضم بالتبعية فريقًا كبيرًا من طلاب العلم الذين يتتلمذون على أيدي هؤلاء العلماء، وإلى هؤلاء الكرام أتوجه بالكلمات الآتية:
يتمسك هؤلاء العلماء بعدة أحاديث نبوية صحيحة تناقش هذه المسألة، وليس الاختلاف بيننا في صحة هذه الأحاديث، ولكن في تأويلها وتفسيرها وإسقاطها على الواقع..
يقول رسول الله : "إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ. فقال رجل: هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ"[2].
والسؤال: هل كل صراع بين مسلم ومسلم يكون مصير الطرفين في النار أم أن هناك استثناءات لهذا الأمر؟ بعبارة أخرى: هل هناك تقييد لهذا المطلق أم أن الأمر على عمومه؟
هل إذا تعدى أحد الظالمين المسلمين على داري أو مالي أو أهلي، فقمت أدفع عن نفسي وأهلي الضُّرَّ، فرفع عليَّ الظالمُ سيفه وأراد أن يقتلني، هل أنا مطالب هنا بتسليم رقبتي للذبح، وأموالي للنهب، وأهلى للانتهاك، بدعوى عدم قتال مسلم؟!