فهل استطاع أدبنا المقاوم أن يتصدّى.؟
غسان كنفاني في كتابه {في الأدب الصهيوني} الصادر عام 1969 أشار إلى المفاتيح..
هل استطاع أدب المقاومة حمل رسالته في مواجهة الأدب الصهيوني المضاد.؟وهل يستطيع أدب المقاومة الخروج من تحت عباءة الأدب المقاوم بالعموم.؟وهذا كله مركب على أساس أن الأدب المقصود هو الأدب الملتزم، عندما يتحدث عن العدل فهو يقف موقف المقاوم للظلم، وعندما يتحدث عن الحرية فهو يقاوم العبودية، وعندما يتحدث عن العلم فهو يقاوم الجهل.. حتى عندما يتحدث عن الحب والعلاقات الإنسانية فهو يقف موقف المقاوم للكراهية ولعوامل الخلل في العلاقات الإنسانية.. وهكذا… كان الأدب عبر العصور بأجناسه المتنوعة الناطق الرسمي لمفهوم ثقافة الشعوب بالعموم، والحامل الرئيس لهموم الشارع وتطلّعاته، واستطاع أن يحمل بجدارة مسؤولية التأريخ والتحريض وإغناء الذاكرة، واستطاع من خلال المبدعين أن يواكب مراحل النضال، وأن يكون غالباً في مواقع صنع الحدث، واستطاع أن يستخدم الذاكرة بامتياز، وأن يكرّس علاقة الناس بالمكان أي الوطن، وأن يتكئ في الأحوال كلها فيما يخصّ أدبنا العربي على المخزون التاريخي الثري، وعلى القناعة التي لا تحتاج إلى تبرير بحق امتلاكه لأرضه ووجوده، على عكس ما ينشده المحتل الصهيوني عادة في أدبياته حيث يجهد دون أن يدرك في محاولة ربط وتبرير وجوده كمحتل على أرض لا تخصه بموروثات مبتدعة تقود على الغالب إلى الموروث الديني التلفيقي من خلال التوراة والتلمود وأرض الميعاد والهيكل..الخ. أو إلى حجم الظلم الذي تعرض له في أصقاع أخرى مثل مقولة اليهودي التائه، ومحارق الهلوكست..الخ، أي أنه يحاول إضافة إلى تسويق حقّ ديني ملفّق، تسويق حالة أخرى تستدعي الإشفاق عليه من حجم الظلم والتشرذم والتوهان الذي عاناه. ليقع في حبائل العرقية، وشعب الله المختار، وعقدة قيادة الكون، واعتبار أن الله يسكن في شخص كل يهودي، مسوّقاً التوراة المكتوبة بشرياً، والتلمود، ومسخّراً أية وسيلة في سبيل الغاية، ولعل كتاب "موسى والتوحيد" الذي كتبه فرويد، يعطي بجلاء تلك الصورة المشوّهة.. من هذه المنطلقات النظرية ندخل إلى استعراض سريع لكيفية اشتغال الأدب الصهيوني وركوبه الموجة، مما يستدعي العودة إلى أدبيات الصهاينة أنفسهم منذ البدايات، أي إلى ما قبل 1948.. نحن نعلم أن الرواية على وجه الخصوص هي أحد المعايير الأدبية الهامّة التي تؤرخ من خلال رصدها لفترة زمنية محددة، ومن خلال سردها لأحداث من المفترض أن تجري في مكان، وعلى ألسنة شخوص هم عناصرها..وهذا ما ننشده ونحن على وشك الخوض في أدبيات المقاومة التي تخص صراعنا التاريخي مع المشروع المضاد الذي تبلور عبر مراحل مختلفة وانتقل من مرحلة إلى أخرى وصولاً إلى وضوح الرؤيا من أنه مشروع صهيوني ركب موجات مختلفة بل ومتناقضة تبريراً لوصوله إلى صيغة الكمال من المنظور الصهيوني، واعتمد على التلفيق وقلب المفاهيم وتشويه الحقائق وصنع الشخصية اليهودية السوبرمانية بعد أن كانت أمام العالم شخصية مهزوزة ومتطرفة وتائهة وشايلوكية نسبة إلى شخصية شايلوك الشهيرة في مسرحية تاجر البندقية لشكسبير.. معتمداً في ذلك كله على معطيات من أهمها قدرته مادياً على الانتشار، ووصول بعض أفراده إلى مواقع سياسية أوروبية هامة ففي 1858 صار اليهودي ليونيل روتشيلد عضواً في البرلمان البريطاني، كما وصل في العام 1880 يهودي آخر رئيساً لبلدية لندن، وفي الفترة نفسها يعتلي بنيامين دزرائيلي اليهودي البريطاني كرسي رئاسة الوزراء البريطانية مرتين، ومن خلال امتلاكه (أعني التيار اليهودي المتصهين) لأهم وسائل الإعلام الأوروبية في ذلك الوقت الإنكليزية على وجه الخصوص يوم كانت إنكلترا الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، والعامل الآخر الذي لا يقل أهمية هو رغبة الشعوب الأوروبية التي مارست خلال مراحل التاريخ أبشع المجازر وفنون التصفية العرقية على اليهود للتخلّص منهم بطريقة أو بأخرى، ومن ثم التلاقي معهم من خلال المصالح الاستراتيجية التي لا تقيم وزناً للعواطف على طرقات متوازية تصلهم جميعاً إلى السيطرة العسكرية ومن ثم الاقتصادية على أهم وأغنى المناطق في العالم "المنطقة العربية" كموقع استراتيجي ومركز التقاء أهم القارات "آسيا أفريقيا أوروبا، وكنبع لا ينضب من الخيرات كالبترول والمعادن، وكأفضل تجمع استهلاكي.. وحتى نستطيع ذلك لا بد أن نأتي سريعاً على المراحل المفصلية التي حقق فيها الأدب اليهودي نقلات يمكن ملاحظتها بسهولة بتتبّعها مرحلة إثر مرحلة..نستطيع تلمّس بدايات الحركة الإصلاحية اليهودية في ألمانيا منذ العام 1811 متأثرة بالأفكار التي زرعها نابليون بونابرت وهي فكرة المساواة في فرنسا وفي البلدان الأوروبية التي وصلها نفوذه، وفي السنوات 1815 و 1855 بُعثت اللغة العبرية من جديد في شرقي أوروبا، لتبدأ بعدها هجرة أعداد من اليهود نحو غربي أوروبا والولايات المتحدة حيث حقق هؤلاء في إنكلترا بشكل خاص مستوى من الامتيازات والصلاحيات عكس نفسه بصورة واضحة على حركة الإنتاج الأدبي اليهودي، ومن أهم علامات ذلك الانعكاس أنه منذ مطلع القرن التاسع عشر كفّت الشخصية اليهودية في الأعمال الأوروبية عموماً عن أن تكون شخصية شيلوك الوضيعة ولم يكن هذا الكف قد جاء نتيجة لتوسع اليهود كطبقة ذات تأثير في المجتمعات الأوروبية بل جاء نتيجة لنمو الوعي في أوروبا ولبروز تيار ثقافي عصري يرفض الاضطهاد العنصري من الأساس، ومن هذا
المنطلق بدأ البحث عن شخصية جديدة لليهودي التائه وتطورها عبر الأعمال الأدبية هذه الشخصية التي برزت بقوة في فترة معينة لتطرح
سؤالاً
مهد تمهيداً متواصلاً لظهور نوع من الأدب يطرح مصير اليهودي السياسي وتقفز باليهودي التائه من شخصية ترمز للعقاب الديني من عقدة
خيانتهم
للسيد المسيح إلى مغامر يهودي سياسي يكون من حقه مناقشة الإله نفسه وتبيان خطأ العقاب من الأساس..
في العام 1817 أصدرت ماريا ادجورث روايتها هارنجتون التي لاقت معارضة شديدة لأنها الرواية الأولى التي قدّمت شخصية يهودية طيبة
تختلف عن الشخصيات اليهودية التقليدية التي عرفها الأدب الإنكليزي فيما سبق. وفي العام 1819 صدرت رواية مماثلة تتحدث عن
اليهودي
الطيب كتبها والتر سكوت عنوانها آيفنهو. إلى أن جاء بعد 16 عاماً وفي العام 1833 بنيامين دزرائيلي اليهودي الإنكليزي قبل أن يصبح
رئيساً
لوزراء بريطانيا بروايته دافيد آلروي.. يغتال فيها الشخصية اليهودية التي طرحتها هارنجتون، وآيفنهو، ويطرح بطله اليهودي طرحاً عنيفاً
هو في
الحقيقة الوجه الآخر للعملة الهتلرية الدامية التي ستظهر بعد قرن.. وكي يرفض دزرائيلي البطل اليهودي الرومانطيقي والاندماج في
المجتمع
الذي يعيش فيه ينبغي أن تكون دعواه معتمدة على حل، وفي ذلك الوقت المبكر عبر دزرائيلي بوضوح عن الحل.. العنصرية.. فقد حمل
قضية
التميز اليهودي التي اعتبرها سيغموند فرويد قوة البقاء نحو نهايتها الحتمية فجعلها قوة للغزو، ولم يكن أمام دزرائيلي وقد رفض الاندماج
إلا أن
يسقط في الفخ العنصري.. يقول في مقتطفات من روايته "إن كل شيء عرق، ليس ثمة حقيقة أخرى" "ما يعتقده الناس سلوكاً فردياً ما هو
في
الحقيقة إلا شخصية العرق" "ففي الحقيقة أنك لا تستطيع أن تهدم عرقاً صافياً إنها حقيقة سيكولوجية، إنها قانون الطبيعة البسيطة" "إن
العبريين
عرق غير مختلط".. قال دزرائيلي باختصار "أن اليهود هم المهيؤون الوحيدون لقيادة الكون.. لكنه أخطأ في إصابة الهدف المباشر فقد ظل
بعيداً
عن إعلان فلسطين كـ "وطن قومي لليهود" بصورة مباشرة وإن كان ذلك المزج بين العرق والدين استهدف فلسطين كـ "مركز روحي" من
طراز فريد ومثير..
وحتى نتحسس مراحل الانتقال نأتي على ذكر الحقائق التالية:
في عام 1838 نشرت ثلاث روايات بارزة ضمن روايات أخرى أقل أهمية هي أوليفر تويست، غرام في فيينة، ليلي.. أبطالها يهود لهم
ملامح
شيلوكية.
في عام 1848 تكتب جورج أليوت تنتقد القاعدة العرقية التي أنشأ دزرائيلي فوقها رواية دافيد آلروي..
في عام 1856 يكتب تشارلز ريد روايته التي يقف بطلها متحيراً بين الأبطال اليهود المطروحين آنذاك (أبطال آيفنهو، وهارنجتون من
ناحية،
وأبطال دافيد آلروي من ناحية أخرى..)
في عام 1876 تكتب جورج آليوت روايتها دانييل ديروندا التي نصبت اليهودي الصهيوني في الأدب الإنكليزي وصار بوسعها أن تزيد من
الوثائق الميالة للصهيونية..
إن الصهيونية المعاصرة تنظر إلى دانييل ديروندا سياسياً وأدبياً بالطريقة التالية: لقد أضافت إلى أسطورة اليهود التاريخية المتمثلة بالدراسات
الدينية، والاقتصاد، والرومنطيقية، والواقعية قاعدة خامسة هي البطولية، وأخذت هذه القاعدة تتقدم أكثر فأكثر إلى الأمام حتى أرست من خلال
هذه
الرواية أسطورة بعث إسرائيل، ونعتقد أن الكلمة الأصح التي ينبغي أن تكون بديلة لكلمة البطولية هي كلمة الصهيونية بما تعنيه من رفض
التساوي بأفراد المجتمع الذي يعيش فيه اليهود.. إذ كيف نستطيع أن نفسر ما جاء في الرواية على لسان مردخاي بطلها وهو يقول:
(صحيح.. صحيح ما قاله يهودا بن هاليفي من أن إسرائيل هي قلب الجنس البشري، إذا كنا نقصد بالقلب لب العاطفة التي تربط عرقاً معيناً
وعائلاته بنوع من الحب المسؤول، واحترام للجسد البشري يرفع احتياجات حياتنا الحيوانية إلى الدين..)
ويقول في مكان آخر في الرواية: (هناك خزان من الحكمة فينا يكفي لإيجاد نظام يهودي جديد، كبير وبسيط وتماماً مثل القديم. جمهورية
تتوافر
فيها المساواة في الحماية، المساواة التي تلتمع فيها كنجمة في جبين مجتمعنا القديم ونعطيها ما هو أكثر من لمعان الحرية الغربية، ناهيك
عن
التعسف الشرقي.. وعند ذاك سيكون لجنسنا مركز عضوي، قلب ودماغ ليحرس ويقود وينظم، سوف يحصل اليهودي المضطهد عند ذاك على
دفاع في محكمة الشعوب، كالإنكليزي المضطهد، والأمريكي المضطهد، وسوف يكسب العالم إسرائيل من جديد، وسوف تكون أرضاً مثل محطة
للحياة المليئة بالعداء، أرضاً حيادية هي في الشرق مثل بلجيكا للغرب.. أعرف أن هناك صعوبات ولكن دع روح التوثب تتحرك في الكبار من
شعبنا، وسيكون العمل قد بدأ… انتهى)
إن هذا المقطع يلخص صهيونية مردخاي بطل الرواية تلخيصاً كاملاً، ويظهر بوضوح أن جورج آليوت لم تكن تتنبأ ولكنها كانت ترسم خطة
عمل، وتدفع نحو صهينة اليهودي واستغلال عقدة التفوق إلى أقصى حد، وسيكرر هرتزل بعد نصف قرن الموقف ذاته في روايته " الأرض
القديمة الجديدة" التي كانت إرهاصاً لولادة الصهيونية السياسية على يديه بالذات، وسيكون أكثر براعة من آليوت، كما كانت آليوت أكثر براعة
من
دزرائيلي في الدوران حول عنصرية الدعوة ومحاولة إلباسها ثوب الخدمة الإنسانية..
لقد اعتبر كتاب دانييل ديروندا بما جاء فيه الحل الأمثل للمعضلة اليهودية لدرجة أن كبار الكتّاب اليهود أمثال بيرتز، غوردون، سمولنسكي،
ليلينبوم
غيروا رأيهم بالاندماج، وقرروا تبني النهضة السياسية القومية من خلال تبنيهم للكتاب، ثم ترجموه إلى العبرية واليديش، وألحقوا به وجهات
نظرهم السياسية الخاصة حول استعمار فلسطين، وغزا الكتاب بمخططات مدروسة البيوت اليهودية، وما أن ترجم للعبرية حتى أضحى إنجيلاً
صهيونياً.. وقبل أن يذوب دخان الكارثة الفلسطينية في عام 1948 أطلقت إسرائيل اسم جورج آليوت على أحد شوارع تل أبيب..
لقد حاولت أن أمر بسرعة على تلك المفاصل التي وجدتها هامة في تأريخ العلاقة الإشكالية بين السياسة والأدب، وخطورة دور الأدب في رسم
الملامح السياسية، حتى الملفقة منها والمضللة، وكيف توصلت الصهيونية من خلال الأدب تحديداً إلى حشد الفكر اليهودي أولاً، وفي رسم ملامح
الطموحات وحشوها في رؤوس الكبار منهم ومن سواهم، وفي استقطاب العطف العالمي ولو كان على خلفيات مصلحية وصولاً إلى الإيحاء
المطلق بأحقية أمر هو باطل بكل معاييرنا، لتبدأ جولة جديدة بعد تحقيق الاستيطان على أرض فلسطين، وبعد أن أصبحت الحاجة ضرورية
ومختلفة إلى أدب صهيوني جديد يساير الواقع الجديد..
لقد وقع الأدب الصهيوني بعد 1948 بإشكالية انقسام ملحوظ بين الكتّاب من خارج المحيط وبين الكتاب من داخله، أي بين اليهود الشرقيين الذين
عاشوا على أرض فلسطين قبل 1948 وشاركوا في الحرب، وبين اليهود الغربيين الذين لم يعيشوا على أرض فلسطين ولا كان لهم تماس مع
شعب المنطقة، ويستطيع المتابع أن يلاحظ هذا الفرق بسهولة حين يستعرض النصوص الأدبية المكتوبة..
ويلاحظ أن أية رواية صهيونية لا تخلو في محاولتها مواجهة واقع انحراف الرؤيا وفي ازدواج المفاهيم من الاستعانة بسلاحين شديدي الإغراء،
أولهما التطويل في الحديث عن المذابح التي قامت بها الهتلرية، وثانيهما الربط بين الصهيونية ووعود التوراة بشأن فلسطين وهما سلاحين
خارجيين بالقياس إلى ضرورة استخدام أسلحة داخلية في العمل الأدبي، فيستدعي ذلك اختيار أبطال الروايات دائماً من أبطال يجيؤون من ألمانيا
الهتلرية بمعجزة، تاركين وراءهم في مقابرها ومعتقلاتها أمهاتهم وأخوانهم وأصدقائهم، وهم أبطال يحفظون التوراة عن ظهر قلب، وحين يبدأ
هؤلاء بالتعامل مع أعدائهم الجدد "العرب" تصبح الحاجة إلى أسلحة جديدة ملحّة، وهكذا لا يجد الروائي الصهيوني مناصاً من أن يجعل قضيته
مع هذا العدو قضية جدارة في الحياة، وفوراً ينتهي المؤلف مجبراً إلى الاعتقاد بأن العربي هو دائماً وضيع وغير إنساني وخاطئ، وأن اليهودي
هو دائماً بطل وإنسان وعلى صواب فكرياً وبدنياً وحضارياً.. في رواية نجمة في الريح تأليف روبرت ناثان يأتي على ذكر صفات العربي فيقول:
(إنه لا يلعب بعنف فقط ولكن بوضاعة، وهو جبان، ويفضل أن يطلق ساقيه للريح عن أن يقاتل، وإذا قاتل فليس لديه أي سبب إلا النهب، وهو لا
يجيد التصويب، وإذا هرب ترك إخوانه القتلى دون اهتمام، وأن الطائرات العربية إذا أغارت فهي لا تقتل إلا الأطفال..) وفي رواية لصوص في
الليل من تأليف أرثر كوستلر فإن سكان قرية عربية كاملة هم من الأميين والبهاليل.. وفي رواية أكسودس من تأليف ليون أوريس توجد أكوام من
الشتائم الغريبة، نختار منها مقاطع تعطي فكرة عن الطريقة التي عالجت فيها هذه الرواية الشهيرة قضية العربي:
(قال جوسي: بالنسبة للأتراك بوسعك أن تشتريهم، أما بالنسبة للعرب فيجب أن تتعلم كيف تعيش معهم بسلام.. رفع ياكوف قبضة يده ولوح بها
في الهواء وقال: شيء واحد يفهمه العربي، إنه يفهم هذا فقط)
وفي مقطع آخر.. (طرد آري من حوله جماعة من الصبية العرب، إلا أن أحدهم ظل يلاحقه – أتريد دليلا.؟ – لا. – تذكارات؟ لدي خشب من
الصليب ومزق من الثوب. – أعرف. – أتريد صوراً عارية؟ حاول آري أن يجتاز الصبي إلا أن الأخير تمسك بساقيه. – ربما تعجبك أختي،
إنها عذراء.. رمى آري قطعة نقود وقال له أحرس السيارة بحياتك نفسها) وفي مقطع آخر. (وماذا يمكن أن يحدث لو ذهب طه العربي إلى
جوردانا اليهودية وقال لها أنه يحبها.؟ سوف تبصق عليه حتماً)..
في رواية أكسودس نجد أن أفضل شاب عربي في الرواية وهو كمال يتمتع بميزة ممتازة ليستحق عطف المؤلف وأبطاله فهو يعتقد أن اليهود هم
الخلاص الأوحد للشعب العربي وهم الوحيدون الذين جلبوا الضوء إلى هذا الجزء من العالم في الألف سنة الأخيرة.. وهكذا تجري أحداث
الروايات جميعها، بينما على الضفة الأخرى يقف البطل اليهودي متفوقاً ومعصوماً لا حد لبطولته، ولا ميزان لصوابه المطلق، فقائد المباحث
القبرصية في رواية أكسودس يعتقد أنه لا يمكن إطلاقاً أن تشتري يهودياً ليكون جاسوساً، وهو نفسه يعتقد أن اليهود في فلسطين يأكلون الرجال في
وقعات الفطور، ودوف وهو بطل ثانوي جداً في أكسودس رغم انحرافه نتيجة تعذيبه على أيدي الألمان صار أحسن مزور جوازات سفر في
بولونيا وهو في الثامنة عشرة من عمره، وكان قادراً وهو في العمر نفسه على مطاردة عدد كبير من الأشرار..
نفهم من ذلك كله..
أولاً: أن البطل غالباً ما يكون قادماً من أوروبا مهاجراً إلى فلسطين بدافع وطني وأخلاقي، تاركاً وراءه ذكرى طازجة جداً لمذبحة هتلرية، هذا
البطل تكرر في أكسودس بشخصية دوف وفي نجمة في الريح، وفي الانتصار الأكبر، وفي الإغراء الأخير، وفي غبار ليائيل دايان وفي أعقاب
خيال عملاق من روايات السيرة تد بركمان وفي غيرها.
ثانياً: البطل أو البطلة يقع أو تقع في غرام شخص غير يهودي، وعن طريق العلاقة بينهما يقدم المؤلف شرحاً مسهباً للصهيونية ليكتشف غير
اليهودي عدالة القضية اليهودية فيضحي جندياً من جنود الصهيونية.
ثالثاً: العرب بصفتهم الطرف الآخر في الرواية، لا قضية لهم، وأنهم بالحقيقة خربوا أرض فلسطين وأن اليهودي القادم هو منقذ، وغالباً ما يكون
ضليعاً في التوراة، وفي علم الآثار اليهودية..
رابعاً: مسلحاً بهذه الأسلحة يدخل المؤلف إلى الأحداث، ولكنه يظل محتاجاً إلى إظهار اضطهاد العالم له، وإلى تماسك اليهود كأقلية وجهدها
للبقاء في جو معاد، الأمر الذي ينفي أية بادرة طيبة من قبل تلك الشعوب، ولأنه لا يمكن حصر مثل هذا الهدف فإن المؤلف لا يستطيع عادة
السيطرة عليه تماماً وبالتالي ينقلب إلى هجوم فيه الكثير من التصغير والاحتقار. كما حدث مع ليون اوريس في أكسودس حين تحدث عن مقاومة
اليهود في بولونيا فأفرد صفحات لتصغير واحتقار البولونيين..
خامساً : بسبب فقدان الرابطة الجغرافية واللغوية والتاريخية لليهود لا يستطيع المؤلف الصهيوني في حديثه عن اتجاه اليهود إلى فلسطين أن
يتجنب اعتبار الدين والعرق كدافع واحد داخلي يصاحب الدوافع الخارجية "الهتلرية والاضطهاد" لهذه الحركة تجاه فلسطين، ولذلك تقع الأعمال
الأدبية الصهيونية في شباك التشدق العرقي كما حدث في دافيد آلوري وفي أكسودس وفي طوبى للخائفين وفي عدد كبير من القصص القصيرة..
وعلينا أن نلاحظ أن دراستنا هذه ستتوقف عند منتصف الستينات، بعد أن انفرطت الحصارات الثقافية، ودخل العالم عصر الاتصالات المفتوحة.
وبعد أن تمكن أدب المقاومة من تكريس نظرية الكفاح المسلّح، وبدء فعلها على الأرض..
نستطيع أن نفرق بسهولة بين مثل هذا الإنتاج الأدبي وبين إنتاج أدبي آخر لأدباء صهاينة أيضاً ولكنهم عاشوا في المنطقة وشاركوا في الحروب
ولهم علاقات مع شعب المنطقة فهم في إنتاجهم لا يحملون الشعور بأن عام 1948 كان جداراً فصل المجرى المستمر للزمن، وأن القصة انتهت
هناك. ذلك أنهم يعرفون بحكم تجربتهم الشخصية والمباشرة في النصف الأول من القرن المنصرم أن القصة فعلاً لم تنته. ونستطيع أن نلمس ذلك
من خلال نصين نستعرضهما باختصار.
في قصة شجرة الزيتون التي كتبها بنيامين تموز، وإذا تجاوزنا الروح الاستعلائية التي يتحدث فيها عن القرويين العرب نجد هناك العلة التي
تستعصي على الشفاء.
(يمتلك علي الطويل إلى جانب بيته حقلاً من الزيتون، تربض في وسطه شجرة زيتون ضخمة تعطي قدر ما يعطي الحقل كله، من زيتها يدهن
أجساد أطفاله حين يولدون، يشرب منه في الصباح، يزين به طعامه، ويداوي أمراضه، ويهدي منه أصدقاءه. وحين أراد أن يزوج ابنته إلى قروي
عجوز ورفضت الشابة هذا الزواج الظالم ربطها إلى جذع الزيتونة يومين وليلتين حتى رضخت، ولكنها لم تضع حملها في القرية لأن اليهود
اضطروا أهلها للنزوح.
المهاجر اليهودي الذي تسلم حقل الزيتون لا علاقة له بالزيت، لا يحبه ويبصق حين يتذوقه، ولأنه لا يقص الشجرة بدأ يبيع أغصانها إلى الذين
يصنعون منها جمالاً وحميراً ويبيعونها للسياح، ولكن الشجرة ذاتها بدت أثناء ذلك تمد أغصانها العالية باتجاه الشمال كأنها –يقول الكاتب- تنادي
فتاة تنتظرها وراء الحدود. وأخيراً قطعت وزارة الزراعة الشجرة، يقول المؤلف في نهاية قصته.. وأحب أن أوضح السببين الذين أقنعا الوزارة
بقطع الشجرة، الأول أن سلالم قطف الزيتون لا تستطيع الوصول إلى أغصانها العالية، والثاني أن الشجرة جاءت بالمصادفة وسط الأثلام التي
يسير فيها الجرار أثناء الحرث، ويقول: وقد ذكرت هذين السببين كي لا يقال أن هناك سبباً ثالثاً.. انتهى)
أما النص الثاني للكاتب نفسه وهي بعنوان السباق. (تحكي عن صديقين عربي ويهودي قبل 1948 كانا يتسابقان سباحة في نهر قرب يافا، وكان
العربي يفوز دائماً، وفي الحرب احتلت مجموعة من اليهود بيارة برتقال، وفجأة يكتشف قائد المجموعة اليهودية أن قائد المجموعة العربية هو
صديقه القديم، ويبادره العربي قائلاً وكأنه يكمل حديثاً: حسناً لقد فزت أنت هذه المرة. إلا أن اليهودي يجيبه: كلا، ليس بوسعك قول هذا إلا بعد
خروجنا من الماء. ويبتسم العربي بأسى فيما يخلع اليهودي ملابسه وينزل إلى النهر، وهناك يسمع طلقة رصاص فينتابه شعور بأن صديقه القديم قد
قتل، يخرج فوراً فيجد صديقه ملقى على وجهه، ويقول له الجندي اليهودي: لقد قتل خطأ. وحين يقلب جسده يرى فوق شفتيه ابتسامة غامضة،
كأنه هو الذي فاز في السباق فعلاً.. انتهى)
إن هذا القفز من محور إلى آخر في القصة، والتناقض في السياق بالرغم من المعطيات التاريخية التي يفترضها المؤلف، إن هذا التناقض الأصلي
القائم في الواقع الذي يعيشه، وفنياً أيضاً هو لا يستطيع إكمال قصص على محاورها الحقيقية ذلك أن القصة ليست قصة المتسابق الذي قتل قبل
نهاية الشوط ولكنها قصة النهر، وليست قصة شجرة الزيتون الضخمة ولكنها قصة صاحبها علي الطويل وابنته وحفيدته، وهذا بالضبط ما يتصدى
له أدب المقاومة العربي في الأرض المحتلة.
رأينا كيف احتار بنيامين أمام شجرة الزيتون، وسنرى أن توفيق زيّاد يرى من حقه أن يستعمل شجرة الزيتون هذه استعمالاً بديهياً وشجاعاً وغير
معرض للحيرة يقول:
سأحفر كل ما ألقى، وأحفر كل أسراري، على زيتونة في ساحة الدار.. سأحفر قصتي وفصول مأساتي، وآهاتي على بيارتي وقبور أمواتي،
وأحفر كل مرّ ذقته، يمحوه عشر حلاوة الآتي..
وحين اضطر الصهيوني لقتل العربي على حافة تلك البيارة في حركة غير طبيعية لإنهاء القصة، يتساءل محمود درويش في المقابل:
لماذا تسجن البيارة الخضراء، في سجن إلى منفى إلى ميناء، وتبقى رغم رحلتها، ورغم روائح الأملاح والأشواق، تبقى دائماً خضراء..
ذلك أن أدب المقاومة لا يتساءل، فهو يعرف طريقه جيداً، وهو واثق منها إلى أبعد الحدود آملاً
بنهايتها إيماناً لا يتطرق إليه الوهن.. ليس فقط كما قال محمود درويش لأن الانتصار يأتي:
وما دامت أغان
ينا، سيوفاً حين نشرعها، وما دامت أغانينا، سماداً حين نزرعها..
ولكن أيضاً لأنه كما قال نايف سليم:
ليس ما تنزفه يا قلمي، بعض حبر.. إنما بعض دمي..
وهذه مقاطع من قصيدة لمحمود درويش وهو فلسطيني من قرية البروة:
فلسطينية العينين والوشم
فلسطينية الاسم
فلسطينية الأحلام والهمّ
فلسطينية المنديل والقدمين والجسم
فلسطينية الكلمات والصمت
فلسطينية الصوت
فلسطينية الميلاد والموت
حملتك في دفاتري القديمة
نار أشعاري
حملتك زاد أسفاري
وباسمك صحت في الوديان
خيول الروم أعرفها
وإن يتبدل الميدان
خذوا حذراً
من البرق الذي صكته أغنيتي على الصيوان
أنا زين الشباب، وفارس الفرسان
أنا، ومحطّم الأوثان
حدود الشام أزرعها
قصائد تطلق العقبان
وباسمك صحت بالأعداء
كلي لحمي إذا ما نمت يا ديدان
فبيض النمل لا يلد النسور
وبيضة الأفعى، يخبئ قشرها ثعبان
[/center]