لا شك في أن اللغة العربية تمتاز بميزات جميلة كثيرة ؛ ولولا ذلك لما اختارها الخالق سبحانه وعاءً لكتابه العزيز ، ولما اختار أهلها لحمل هذه الرسالة العظيمة ؛ فهي لغة واسعة يفوق عدد مفرداتها ، من أسماء وأفعال وحروف ، ومشتقات ونحوت أية لغة من لغات العالم ، وهي لغة راقية تقدر على التعبير عن المعنى بأساليب عدة ، وتعبيرات كثيرة ، ودلالات مختلفة .
لقد مكنت هذه اللغة العظيمة لأهلها القدرة على الإبداع في التعبير ؛ فجاء الشعر العربي متميزا عن شعر الشعوب الأخرى ، ذلك أن هذه اللغة قادرة على استيعاب أكثر الصور الفنية رقيا ، أو امتدادا ، بما تمتاز به من تمايز في الدلالات ، واقتدار على الإيحاء ، وبما يحمله صوت الحرف العربي من موسيقا خفية ، تضيف إلى المعنى المباشر تجليات وإيحاءات تشي بعظمة هذه اللغة ورشاقتها ، وعبقريتها .
ولا تنحصر جماليات اللغة العربية وإشراقاتها فيما ذكرت فحسب . بل تتعداه إلى امتلاكها قوة التأثير ؛ فكم من عظيم في تاريخ العرب صرعته كلمة ، أو أقعده عن فعل جلل بيت شعر أجلّ ، أو قلبت حياته حكمة أو مثل مصاغ صـوغا محكمـا . وأكبر مثال على ذلك ما يحمله كتاب الله عز وجل من قدرة على التأثير والتغيير في آن معا ـ مع التسليم الكامل بأنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وبأن الله عز وجل قادر على أن يضمن لكتابه العظيم ما يؤثر في المتلقي غير رصانة اللغة وعبقرية البيان ـ بيد أنه سبحانه وتعالى خاطب العرب باللغة التي يتقنونها ويحسون بها ، فتبارك الله أحسن الخالقيـن .
تمهيــــد
قبل أن ألج إلى البحث ، لا بد من إيضاح مهم ، وهو أن بعض اللغات الأخرى تحمل بعض سمـات اللغـة العربيـة ، أو تقترب منها في بعـض سماتها ، لكنّ أيا من هذه اللغات لم تستطع حمل كل سمات اللغة العربية ، ولا قريبا منها . تلك حقيقة يجب أن نبني عليها بحثنا حتى نكون موضوعيين وأقرب إلى المنهج العلمي ، منا إلى العاطفة ، والانحياز غير المحسوب .
كما في اللغة العربية ، فإن اللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات ـ وإن بشكل متفاوت ـ تحمل في داخلها علاقة بين الصوت والمعنى ، وأضرب على ذلك مثالا من اللغة الإنجليزية ، ثم أنتقل إلى اللغة العربية ، من ذلك كلمة (WISPER ) ، التي تعني ( يهمس ) ، فهذه الكلمـة تماما كما في اللغة العربية ، تحمل في داخلها جزءا مهما من المعنى ، لاشتمالها على ما نسميه في العربية أحرف الهمـس ؛ وبشكــل عـام ثمـــة اتفــاق بين الصوت والمعنى . وفي كلمة ( DAMAGE ) بالإنجليزية أيضا التي تعني ( يحطم ) هناك تواؤم بين الصـوت والمعنى بشكل واضح ، حيث أن التحطيم كلمة قاسية ، يفترض أن تكـون الأحـرف المكونة لها فيهـا شيء من الغلظة أو الحـدة ، وقد لاحظنا أن ذلك في بعض مفردات اللغة الإنجليـزية متوفر ، وكذلك في الفرنسية واللغات الأخرى .
ومع وجود مثل تلك العلاقة بين الصوت والمعنى في لغات أخرى غير اللغة العربية ، إلا أن اللغة العربية زاخرة بهذه العلاقات أكثر من أية لغة أخرى وسوف يبين هذا البحث كثيرا من الجوانب التي تؤكد صحة ما ذهبنا إليه .
تجربة صوتية
قام أحد المعلمين في الأردن في العام 1983 بإجراء اختبار لعدد من طلبة المرحلة الإعدادية المتميزين نسبيا ، فقدم لهم مجموعة من المفردات التي لم يمروا بها من قبل ، وطلب منهم توقـع معناها ، فكانت نسبة النجاح مبهرة ؛ حين استطاع 12% من الطلبة تخمين معنى تسع من عشر كلمات ، و64% منهم تمكنوا من تخمين معاني ثماني كلمات من أصل عشر كلمات . وتمكن البقية من تخمين ما بين ثلاث إلى سبع كلمات . وكانت الكلمات ضمن جمل لا توحي بالمعنى إيحاءً مباشرا ، باستثناء الجملة المشهورة " مالي أراكم تكأكأتم علي كتكأكئكم على ذي جنة ؟ افرنقعوا عني .. " . كذلك ، لا بد من الإشارة إلى أن التخمين ، لم يكن بمستوى الدقة نفسه عند جميع الطلبـة ، بيد أن معظمهم اقتربوا من المعنى إلى الحد الذي يقبله المعلم من طالبه في الاختبارات المعتادة . والكلمـات هي : ( تكأكأ ، افرنقع ، استشاط ، شحوب ، جلجل ، أجش ، اصطكّ ، الغلس ، هجع ، هجس ) . وهذه التجربة وغيرها من التجارب ، دليل قوي على مدى ارتباط الصوت في اللغة العربية بالمعنى ، وهو ما يسهل فهم السياق اللغوي ، ويزيد من إحساس المتلقي بالمعنى ، وهو ما يعني التغذية القوية للجانب الوجداني لديه . فليس من شك في أن اللغة العربية قادرة على التأثير والإبداع أكثر من أية لغة أخرى .
التدرج والإيحاء الصوتي
تتميز اللغة العربية كذلك بالتدرج في المعنى ضمن إطار صوتي واحد وتناغم موسيقي أصيل ، وذلك واضح في صعود المعنى من الضعف إلى القوة ، أو من السكون إلى الحركة في الأفعال التاليـة : { هجس ، حدس ، خرس ، رمسَ ( الخبر/ كتمه ) ، همس ، نبس… } ، وهذا موجود في كثير من المستويات الأخرى ذات الصلة بالحرف والكلمة . كذلك إذا انتقلنا إلى إيقاع بعض الكلمات المنتهية بحرف العين ، وجدناها تعبر أحيانا ، وتوحي أحيانا أخرى بالقسوة والشدة والبأس من مثل : { قلع ، هلع ، فزع ، قمع ، صفع ، وجع ، بلع ، جرع ، خلع ، فجع ، قبع ، منع ، قطع ، دمع ، فظع… } .
كذلك لو استعرضنا بعض الأفعال الثلاثية المضعفة مثل { هـزّ ، بزّ ، رجّ ، حزّ ، قدّ ، بتّ ، سبّ ، حـدّ ، جبّ ، دبّ ، ذبّ ، عجّ ، ضرّ ، أنّ ، شدّ ، شلّ ، عقّ ، عضّ ، رضّ ، فضّ ، جرّ ، شقّ ، بثّ ..} وغيرها لوجدنا هذه الأفعال بهذه الكيفية تحمل دلالات قاسية أوفيها اعتداء على الآخر أو إلغاء له . هذا التعبير الصوتي لا نجده في اللغات الأخرى ، لذلك فإن من حالات التميز في اللغة العربية ما يمكن أن نجده في قدرة اللغة العربية على منحك القدرة على فهم السياق ، أو الإحساس به دون أن يكون من الضرورة بمكان معرفتك المسبقة لمعاني كل الكلمات الموجودة في العبارة ، هذا بالإضافة إلى ما تحدثه أصوات الكلمات من أثر نفسي في المتلقي ، وهو ما نطلق عليه الموسيقـا الداخلية .
الموسيقا الداخلية ( الخفية ) أو إيقاع الكلمة :
وفي جانب آخر فإن في اللغة العربيـة من التطبيقـات البلاغيـة ، وخصوصا في البديع ، ما يعطيها الحق بأن تزهو وحدها بكثيـر من الأثواب الجميلة الرشيقة ؛ فلك على سبيل المثـال ، لا الحصر ، أن تنظر إلى السجـع ، أو الجناس أو الطباق ، أو الترادف ، أو حسن التقسيـم ، أو التقابل ، وغير ذلك ؛ لتدرك الرشاقـة والشباب الذي تتميـز به اللغة العربيـة ، وتستمتع وأنت تتابـع هـذه الجماليـات في نص شعـري جميـل ، أو في حكمة بالغـة ، أو مثل قيـم ، وهذه بعض الأمثلة في هذا السياق ، لو تأملناها ؛ لأحسسنا بنبضها بشكل واضح : { " من جد وجد " ، جناس ناقص . " بيض الصفائح لا سود الصحائف " ، طبـاق بين بيض وسـود ، وجناس ناقص بين الصفائح والصحائف . " عوى ثم أقعى فارتجزت فهجته .... فأقبل مثل البرق يتبعه الرعد "
وفي هذا البيت ينقل إلينا البحتري صورة الذئب المرتعد الفرائص المصطك الأسنان ، المرتجف الفكين لشدة البرد والجوع ، بنغمات حروفه وتركيب ألفاظه . كما ينقل إليك تتابع حركاته السريعة في ألفاظ قصيرة الأوزان . كل ذلك دون أن يشير إلينا مباشرة إلى ذلك ؛ بيد أن الصورة المعنوية التي استقبلناها في إطار شعوري متعدد ، جعلتنا نتخيل ذلك ) .
أصوات ومعان
وإمعانا في التأكيد على الصلة الوثيقة بين الصوت و المعنى في الكلمة العربيـة ، لنستعرضْ بعض الكلمات ، ونجرِ عليها قياسا حسيا ، وننظرْ النتيجة : مثلا : كلمة ( خرير ) : أفلا يحس السامع لهذه الكلمة بأن صوت حركة الماء يشبه صوت هذه الكلمة . وكلمة ( هديل ) ، ألا يحس السامع لهذه الكلمة بأنها تنسجم مع موضوعها من بابين ، أولهما : الصوت الذي تصـدره الحمامة وعلاقته بصوت الكلمة ، وثانيهـما : رقة الكلمة ، التي تشتمل على حرف همس ( الهاء ) ، وحرفين رقيقين هما اللام والدال ، وحرف مد هو الياء . هل كان يمكن أن تقبل الأذن كلمة أخرى لوصف صوت الحمامة ، مثل ( ضجيج ) مثلا . وعلى ذلك فلنقس الأصوات التالية : الموج : هدير ـ القرد : زقاح ـ أوراق الشجر : حفيف ـ الثعبان : فحيح ـ السيوف : صليل ـ الخيل : صهيل ـ الضفادع : نقيق ـ البقر : خوار ـ الإبل : رغاء ـ الماشيـة : ثغاء ـ الحمار : نهيق ـ الكلب نباح ـ الذئب : عواء ـ الأبواب : صرير ـ القطة : مواء ـ الأسد والنمر : زئير ـ الديك : صياح ـ البوم : نعيق ـ الغراب : نعيب } . وفي الصوتين الأخيرين ألا يُلاحـظ بأن الكلمتيـن قريبتيـن من حيث اللفظ ، ( جناس ناقص ) وأنه لو جردناهما كلتيهمـا من الحرف الأخير لصارتـا كلمـة واحدة هـي ( نعي ) ، وأن هذه الكلمة مرتبطة بالموت ، ثم لو عدنا قليلا إلى صورة البومة والغراب في تراث العرب قبل الإسلام ، وعرفنا ارتباط هذين الطيرين في نفسية العرب بالتشاؤم ( ... وبذاك تنعاب الغراب الأسود ) / النابغة الذبياني ؛ لعرفنا كيف تكونت هاتان الكلمتـان .
إن اللغة العربية دون غيرها ـ كما أتصور ـ تتفرد بهذه الغزارة في الارتباط بين الصوت والمعنى ، وبأن علم الصوتيات الحديث يجب أن يأخذ مداه في دراسة اللغة العربية أكثر من أية لغة أخرى .
الأصوات التي تتكون منها الكلمة العربية
1. الحروف الصوتية أو الصائتة .
2. حروف المد ، أو الحروف الهوائية .
3. الحركات ، أو حروف المد القصير .
أما الحروف الصائتة ، فهي ما سوى حروف المد من الأحرف الهجائيـة ، فهي العماد في تركيب الكلمة وتكوين معناها ، ويمكن القول أن اتفاق عدد من الألفاظ فيها ، معناه اتفاقها في المفهوم الأصلي لا الخلاف والخلاف فيها . كذلك خلاف فيه بينها .
ويبدو من استعراض أمثلة كثيرة في العربية ، أن الحرف في العربية ذو قيمة دلالية بارزة وأن استخراج هذه المعاني الكلية التي تفيدها الحروف بحاجة إلى إحصاء شامل واستقصاء طويل ؛ ومثال ذلك ما يدل عليه حرف النون من معنى الظهـور في كثير من الألفـاظ مثل : { نبع ، نبأ ، نشأ ، نجم ، نطق ، نفر ، نفث ، نما ، نثر ، نتأ ، نبت .. } .
وما يدل عليه حرف القاف من القطع والضرب والصدم في مثل :
{ قدّ ، قطّ ، قطع ، قطف ، قتل ، قرف ، قرع ، دقّ ، رقّ ، شقّ ، طرق } وما يدل عليه حرف السين من الليونة أو النقص ، في مثل:{ خس ، خسر ، خسف ، كسف ، كسر ، نسي ، نعس ، سهـل ، ملس ، نسل ، سرق ، سرف } . وما يدل عليه حرف الراء من تكرار الفعل وديمومته مثل : {جر ، مر ، در ، فر ، قر ، رعى ، رسا ، سرى ، رقى ، قرع .. } . وما يدل عليه حرف الغين من الغيبوبة والستر في مثل : { غيم ، غيـب ، غرب ، غفر ، غمر ، غمى ، غمس ، غبش ، غبر ، غبن ، غش ، غص ، غار } هذا وإن الاختلاف في الكمية ، أي في مقدار قوة الحرف شدة وضعفا ، يدل كذلك على اختلاف كمي في المعنى ؛ فأوزان : فعل وتفعل وافعل وفعال وفعيل تدل كلها على الشدة أو المبالغة .
وقد يلاحظ هذا المعنى في ألفاظ قليلة في اللغة الفرنسية ، ولكنها لا تبلغ ما تبلغه اللغة العربية كثرة وظهورا ، وذلك كالكاف في (COUPER) و (CASSER) ، والفاء في الأفعال الدالة على النفخ مثل : (SOUFFLER) و (SIFFLER ) و (GONFLER) .
محمد المبارك / فقه اللغة وخصائص العربية ص178
وكثيرا ما استثمر الأدباء من ناثرين وشعراء هذه الخاصية في تقابل الأصوات والمعاني في كتاباتهم وشعرهم ، كما فعل ذلك فيكتور هو ولوكونت دوليل ؛ وهو كثير الوقوع في العربية ولا سيما في القرآن الكريم ؛ حيث بلغ التقابل بين المعنى والنغمة الموسيقية ذروة الكمال . وللعربية في تركيب الحروف موسيقا خاصة يعرفها العربي بالذوق ، فلا تجتمع بعض الحروف في كلمة واحدة كـ { الجيم والقاف ، والجيم والصاد ، والصاد والطاء ، والزاي بعد الدال ، والشين بعد اللام ، والنون قبل الراء } . الشيخ طاهر الجزائري / التقريب لأصول التعريب / ص 73 .
أما حروف المد ، فهي عنصر مرن متحول ، ليس من الأجزاء الأساسية في تكوين الأصول الاشتقاقية . ولا يستوجب الاتفاق فيه ، والاشتراك اتفاقا في المعنى والخلاف فيه كذلك اختلافا فيه ؛ وذلك بخلاف الفرنسية والإنجليزية ، إذ الخلاف في حروف المد فيهما خلاف أساسي ، يتغير به المعنى والأصل الاشتقاقي غالبا ؛ فانظر مثلا إلى مبلغ الاختلاف بين الألفاظ التالية في اللغة الفرنسية ، مع أن الخلاف هنـا منحصـر في حـروف المـد : (MAL) و (MULE) و (MOL) و (MOULE) ، وكذلك في (PAS) و (PUS) (PEAU) و(PEU) ، فالخلاف في حروف المد في الفرنسية خلاف أساسي ، وأما في العربية فكأن حروف المد ـ وليست الحركات إلا نوعا من حروف المد القصيرة ـ جعلت لتنويع المعنى الأصلي الثابت بثبات الحروف الصائتة في المادة الواحدة ، وتعينها في ذلك حروف أخرى ، تؤلف معها ما يسمى حروف الزيادة ، المجموعة في ( سألتمونيها ) .
محمد المبارك / فقه اللغة وخصائص العربية ص179 ـ 180
وأما الحركات فهي في حقيقتها حروف مد قصيرة ، وطريقة الكتابة العربية هي التي أوهمتنا أن بينها وبين حروف المد فرقا نوعيا ، مع أن الفرق كمي. فالفتحة أخت الألف والضمة أخت الواو ، والكسرة أخت الياء ؛ وقد تنبه أسلافنا من علماء اللغة إلى ذلك وأوضح ابن جني في كتابه ( سر صناعة الإعراب ) ، وبالجملة ، فإن اللغة العربية بلغت الغاية في حسن استخدام الحروف وتقسيمها إلى قسمين : أحدهما لتنويع أصول المعاني ، وهي الحروف الصائتة ، وثانيها لتنويع المعنى الواحد
على حسب أحواله وملابساته للفاعل والمفعول والصفة ، وللماضي وللمستقبل ، وهذه هي حروف المد الطويلة والقصيرة ( الحركات ) ، يضاف إليها أحيانا بعض الحروف وهي الـ ( س ، ت ، ل ، م ، ن ، أ ، هـ ) ؛ فاختلاف الحركة مع الاتفاق في الحروف الأصلية يؤدي إلى اختلاف جزئي في المعنى ، وذلك كالاختلاف بين المبني للمعلوم والمبني للمجهول من الأفعال ؛ كـ (رَفع و رُفع ) . وبين اسم الفاعل واسم المفعول . وفي العربية ألفاظ كثيرة تتفق في الحروف والصيغة لكنها تختلف في بعض حركاتها ، فيتغير معناها تماما ؛ وذلك ككلمة العلاقة ، فهي بكسر العين للماديات ، كعلاقة السيف ، وبالفتح للمعنويات . وفرق بعض اللغويين بين الجهد بفتح الجيم ومعناه الطاقة ، والجهد بضمها ومعناه المشقة . وقد أشار كثير ممن ألفوا في اللغة من علمائنا الأقدمين إلى هذه الفروق من أمثال الثعالبي .
دلالة اللفظ والمعنى
" استعمل البشر منذ القديم إشارات ورموزا تدل على معان في أذهانهم تشير وترمز إلى أشياء مادية ؛ ولا تخرج ألفاظ اللغة عن أن تكون رموزا يشير بها كل جماعة إلى معاني الأشياء التي يقصدونها . ولو حللنا عملية الكلام ، عن طريق اللغة لوجدنا ثلاثة عناصر أساسية :
أولها : للفظ أو الصورة الصوتية وهو ما أحدثه المتكلم وألقاه من الألفاظ ، بدافع خارج عن اللغة دفعه إلى ذلك .
ثانيها : المعنى أو الصورة الذهنية التي أثارها الكلام في ذهن السامع ، وهو صورة متكونة في ذهنه ، ومنتزعة من تجاربه الحسية والمجردة من مجموع الأمثلة والحقائق الخارجية التي صادفها في حياته ، سواء بالنسبة للأشياء المادية ، كالشجرة أو الكتاب أو المعنوية كالعدل والحقـد .
ثالثها : الشيء المعني ، أو الصورة الخارجية المقصودة ؛ فاللفظ الدال والمعنى المدلول ( عليه ) والشيء الخارجي المقصود الذي ينطبق عليه المعنى هي العناصر الثلاثة التي تتألف منها عملية الكلام أو الاتصال اللغوي . والفرق بين اللفظ والكلمة أن اللفظ يشير بوجه خاص إلى الناحية الصوتية من الكلمة وأن الكلمة تشير إليها وإلى المفهوم المعنوي للفظ معا . وقد لاحظ هذا المعنى نُحاتنا القدماء حين عرّفوا الكلمة بأنها لفظ مفيد لمعنى . على أن العرف جرى على استعمالها في معنى واحد واعتبارهما مترادفين والإغضاء عما بينهما في الأصل من فرق دقيق .
ويتبين من ذلك أن اللفظ يثير في ذهن السامع صورة الشيء الذهنية ومفهومه لا الشيء نفسه . ويكون الانتقال للأشياء الحسية عن طريق هذه الصورة الذهنية أو المفاهيم أو المعاني القائمة في أذهان الناس والمتكونة فيها بنتيجة تجاربهم . إن هذه المعاني هي الجسر الموصل بين عالم الأسماء ( اللغة ) وعالم الأشياء . وما أكثر ما تحل المعاني التي اصطنعها الإنسان وجردها عن الأشياء محل الأشياء الحقيقيـة نفسهـا .
وعلى هذا فالدلالة هي إثارة اللفظ للمعنى الذهني ، أي لمدلوله ، وبين اللفظ والمعنى في كل لغة لإثارة متبادلة ، وتداعٍ مستمر ؛ وعلم اللغة يبحث في هذه الصلة بين اللفظ والمعنى في أحد فروعه المخصص لهذا المبحث . والمعروف باسم (SEMANTIQUE) أي مبحث الدلالة أو علم دلالة الألفـاظ ، وعلى هذا فالدلالة ليست مرادفة للمعنى ، ففي الاتصال اللغوي ، أي نقل الأفكار عن طريق اللغة ، رمز دال ، هو اللفظ ، ومدلول هو معنى ودلالة ، وهي الارتباط بينهما والعلم الباحث في صلات الألفاظ ، بعضها ببعض ، هو النحو ، والباحث في ما بين المعاني من صلات ، هو الفلسفة وخاصة المنطق ، والعلم الباحث فيما بين الألفاظ والمعاني من صلات ، هو مبحث الدلالة من علم اللغة " . محمد المبارك / فقه اللغة وخصائص العربية / ص 166
المصــــــــادر
فقه اللغة وخصائص العربية ط2 / محمد المبارك
دار الفكـــر
خصائص العربية وطرائق تدريسها ط2 / د.نايف معروف
دار النفائــس
فن الإلقاء العربي / د.فاروق سعد
دار الكتاب اللبناني
فقه اللغة ط 3 / الثعالبي
دار الفكر العربي
صناعة الكتابة / د.رفيق عطوي
دار العلم للملايين
محمود النجار
.