بسم الله الرحمن الرحيم
من فتحية إبراهيم صرصور
غزة - فلسطين
بدأت الأستاذة فتحية صرصور الجلسة بقولها: الحضور الكريم... أهلا وسهلا بكم في لقاء جديد من لقاءات صالون نون الأدبي، كان رمضان، وكان عيد الفطر المبارك... فكل عام وأنتم بخير...
والآن مع بدء العام الدراسي الجديد كل عام وأنت وأولادكم وجميع الطلاب بألف خير جعله الله عام تفوق وتوفيق، وبعد...
غبنا عنكم، وما غبتم عنّا، كنتم دوما معنا، نترقب يوما نعود فيه إليكم بجلسة من جلسات الصالون، وعندما حان الموعد قررنا أن نأتي بموضوع قيّم، وضيف كريم، عدنا وأعدنا لكم معنا الكاتب والأديب الروائي الذي غاب عنّا وعن المشهد طويلا، إنه الأديب غريب عسقلاني، جاء ليتحدث في هذا اللقاء عن شعرية النص السردي والكتابة عبر النوعية، مع قراءات في القصة جدا عن حضور النساء عند غريب عسقلاني.
ولكن قبل أن أحيل الكلمة لأديبنا أعرج لمفهوم السرد، لقد عرّفه رولان بارت بقوله: " إنه مثل الحياة نفسها، عالم متطور من التاريخ والثقافة"
وتأتي حاجتنا الماسة لفهم السرد بوصفه أداة من أدوات التعبير الإنساني، لذا مال بعض الشعراء إلى أن يجعلوا من قصائدهم إطارا لقصة، اكتملت فيها جوانب الأسلوب القصصي، لأنها تمنحهم متسعا من التعبير عن مشاعرهم والأحداث التي يودون شرحها في القصيدة، ومهما يكن فإن الشعر والسرد جنسان مختلفان، إلا أنهما يتقابلان ويتقاطعان في مجموعة من الصفات، فإذا كان الشعر يعتمد على الوزن والإيقاع والقافية في بعض الأنواع الشعرية، فإنه يأخذ من السرد شيئا من خصائصه في بعض القصائد، فيسرد واقعه، أو حدثا ما.
لن أطيل عليكم لأن أديبنا سيتحدث عن هذا الموضوع بتفصيل وتوضيح.
بدأ الغريب حديثه قائلا: أهلا وسهلا بكم وبنا في رحاب صالون نون الأدبي الذي عودنا لمّ الشمل في حضن رقي الكلمات، ورحابة الأفكار وسمو الأخلاق.
اليوم أختار موضوعا لأتحدث عنه في الصالون، ولأني من رواد الصالون وتحدثت كثيرا من على هذا المنبر، فإني احترت بماذا آتي لكم، فاخترت أن آتي لكم بموضوع شعرية النص السردي والكتابة عبر النوعية، وقراءات في القصة القصيرة جدا عن حضور النساء في كتاباتي أنا غريب عسقلاني.
لقد أصبح النص الأدبي نصا عابر النوعية، أو متجاوزا التصنيف، فلم يعد النص الأدبي قادرا على الترويض، طالما أن الأفكار التي تطرح على الساحة تفيض عن كل إناء قد يحتويها.
هذا الكلام ينطبق على كثير من الأعمال؛ فتجد إبراهيم نصر الله يأخذك في ثنايا السرد إلى قصائد شعرية وتعبيرية يختلف عما قرأته في الوصف المباشر أو التوثيق المباشر.
فعندما نأخذ السرد بتقنياته الواسعة ونولفه كتوليفه جديدة يمكن إضافة نصوص جديدة، ونسم كل نص بسمات صاحبه وتجسد شخصيته.
الأمور لا تخضع لوصفة جاهزة وإنما من مصداقيته مع النص، ورغبة بألا يكرر نفسه، دائما فيضع نفسه أمام الحدث.
وإذا كانت الكتابة عبارة عن استجابة وإجابة لأسئلة تعتمل في نفس القارئ، يكون له شرف المحاولة.
هنا نضع عدّة تساؤلات:
هل يتجاور الشعر مع النثر وفنون أخرى في النص القصصي, وتتجاور الفنون أو تتقاطع لتشكل روافع أساسية في بنية النص؟
وهل يمكن إبداع بنية قصصية بالتصعيد اللغوي مثلا في موازاة الحدث وصولا على أنماط حياتية تستحوذ على القارئ فيمنحها ثقته ويصادق على خطابها, ما يجعل النوع الأدبي سؤالا مؤجلا غير ذي قيمة حيت يصبح النص الأدبي غير قابل للانغلاق على ذاته ويستوعب الفنون السبعة, بمعنى أن النص لا يتقيد ولا يعترف بنوع أدبي معين, ويوظف كافة التقانات المتاحة فيترك أصداءه ويحرض في المتلقين أصواتهم الداخلية التي تكمل ما لم يقله النص, ويجعل القارئ مبدعا شريكا على الطرف الآخر للنص, وبالتالي لا ينتهي النص بعد الانتهاء من كتابته
والسؤال هنا, هل من حقنا الاجتهاد للوصول إلى نص مختلف يضيف شيئاً ويستفيد من كل الأشياء الجميلة؟
وما مدى المضمر في النص والمعلن منه؟
وهل يقدم النص مفاتيح قراءات أخرى؟
وهل يكتشف المتلقي أصداء صوت المبدع في ذاته فيصبح شريكا في النص
هي أسئلة تغري بالمحاولة
المحاولة هنا ليست جنون تجاوز المألوف, بقدر ما هو إعادة إنتاج النصوص, لتأكيد أن النص كائن لا يموت
لعل هذه الهواجس ما كان يراودني عندما اندفعت على كتابة القصص القصيرة جدا, وهو النوع القصصي الذي كنت حذرا من الاندفاع نحوه رغم إعجابي بمحاولات كتاب أدهشوني في هذا المجال.. وكتاب انغلقت عليَّ تجاربهم لدرجة العزوف عن هذا اللون الجميل الذي أصبح له ألوان وتيارات كادت تفرح مدارس تحاول ترسيم قواعدها..
كتبت عددا كبيرا من القصص القصيرة كما أتبناها لغة ومضمونا وبناءً, وجهدت أن تحافظ قصصي على الوحدات الأساسية للقصة القصيرة وخاصة الحدث, والحبكة القصصية وتركت لنفسي مجال المغامرة, باعتبار اللغة عاملا فاعلا يتجاوز مهماته في مساحة القصة القصيرة جدا, وكانت اللغة الشعرية أحد أدواتي الهامة في إطلاق النص ليس عن تعمد مسبق, ولكن كحضور ضروري يفرض نفسه ويأخذ القصة إلى التصوير والكتابة البصرية ما جعل القصة تقودني إلى فرض شروطها واختيار سماتها ورشق أسئلتها وقد تجلى هذا في القصص التي جاءت في وأحوال النساء وحالاتهن, والتي نبشت عن المخبوء لدي فأخرجته وأثارت دهشتي, ودفعت أمامي أسئلة تناسلت عن أسئلة ربما تتقافز من خلال قراءة مختارات منها وما يثار حولها من نقاش.
بعد أن أنهى الأديب غريب عسقلاني الإطار النظري من مداخلته بدأ في قراءة بعض القصص منها:
قصفوا البحر
حلمت الفتاة.
عيناها بحر, وثمة شاب افترش أديم الزرقة, وأخذ يضرب الماء بدلال من يوقظ الغافيات..
والغافيات, كمشه أسماك ملونة بالفرح, خرجت من قبعة البؤبؤ.. صعدت إلى صدر الفتى..
ضحكت الفتاة.
صارت الأسماك سرب حمام بلون الثلج.. حوم الحمام حول رأس الفتى وانطلق صعدا للسماء..
فجأة سقط الحمام بريش حالك السواد, وهطلت الفتاة دمعا, صار نهر..
حارة القلب
حلمت مثل كل ليلة حلمت..
خرجت غزالة من حضن الفجر, حملها على خاصرته وانطلق إلى البحر, حدقت في عينيه الشاخصتين إلى البعيد..حيرها ما ترى الألق أم السهوم..
أخذت تراقب أبا جلمبو الأبيض كيف يختفي تحت رمل الشاطئ قبل أن تدركه الموجة وكيف يخرج بعد انحسار الماء.. تعلقت برقبته واندست في حضنه تنفست عبير عرق إبطه.. عبر ووقفا على صخرة تودع سلاحف الماء بيضها في كهوفها وتعود في ربيع الفقس تحمل صغارها على ظهرها وتمضي.
في تلك الليلة رأت النورسة تعلم فراخها الطيران ولم يكن معها نورسها الأبيض الجميل..
وفي تلك الليلة صحت فجأة على صوت قصف نال من حارة قلبها
هل عرفت ما حيرها في عينيه إذا ما كان القلق أو ااسهوم..
الريح
نسمة طفلة, سألت الريح
-متى تفرح يا ريح؟
- عندما يسري ماء الحياة قي البراعم.
- ومتى تحزن؟
- عندما ينحبس الغيث.
- ومتى تغضب؟
- عندما يستبد الظلم بالرحمة.فجأة سكنت الريح, وفجأة احتلت غيمة صفراء سماء المدينة, وفجأة داهم نسمة اختناق مفاجئ, وجحظت عيناها على سؤال أخير:
- هل يموت الريح يا أبي الريح؟؟
زمن
تفتح برعم الوقت عن وردة, أطلقت أريجها نسمة حالمة.. انفلتت النسمة من نافذة الوقت, تبحث عن من يرسم ملامح وجهها.. هبطت النسمة على شجرة جفت أوراقها على دموع الذهول, ويستظل بعريها فتى بلا وجه.. همست النسمة:- لِمَ تتدثر بالعريَّ!! ومن تكون؟
- انا زمن , أعيش انتظار عودة وجهي المسروق.
- ومن سرق وجهكَ يا زمن!؟
- الذين يحترفون البارود.
سكنت النسمة إبط زمن, فأورقت الشجرة, وتجلى وجه الفتى, وأخذ يرسم ملامح النسمة, ووقعت الشجرة في حيرة السؤال , وما زالت تردد, " وجه النسمة ما أرى ام وجه زمن.."
يغلق عينيه
نام.. لم يغلق عينيه..اقتربت منه مثل نسمة.. مررت كفها البيضاء أمام عينيه.. رمش فعبرت بياض العين.. جاست في صدره وتربعت على شرفة قلبه, وانطلقت بالغناء.. حلت ضفائرها شلال شمس عذراء, جدلت من شعرها خيوطا لفته حول خصرها وطارت.. سأل:
- إلى أين؟!!
- إلى هناك..
وهناك كان الرقص والغناء.. كل الموجودات ترقص وتغني, الماء والهواء والطير والحجر والحيوان والإنسان.. قال :
- من علمهم الرقص والعناء
- الرقص والغناء من طبيعة الموجودات
وهناك كانت امرأة ساهمة تنظر من كوة سوداء إلى الأرض, وتخبئ في عينيها دمعا مالحا.. سألها:
- ومن علق الدمع في عينيكِ
- دمعتي لم تسقط منذ قابيل وهابيل
نظرا من الكوة.. كانت الأرض مغلفة بالغبار.. تعج برجال يذبحون رجالا.. قالت المرأة:
- إنها ارض العراق!!
أغمض عينيه فزعا قال:
- بل هي ارض غزة..
وأغلق عينيه لينام..
الأقفاص
أكره رؤية العصافير في الأقفاص.. اليوم قابلت رجلا وسيما يحمل قفصا به عصفورة بيضاء بلون الفجر.. اشتريت العصفورة بكل ما في جيبي من نقود, ضحك الرجل من اندفاعي قال:
-أنت مجنون العصافير..
أطلقت العصفورة.. طارت وهبطت على غصن شجرة قريبة, وأخذت تمسح المكان بعينيها.. ثم أطلقت غناءً حزينا, سألت الرجل:
- لماذا تبكي العصفورة؟!
اختفى الرجل فجأة, وفجأة ظهرت امرأة تحل قفصا به عصفوراً أبيض بلون الفجر.. عنفتني غاضبة:
- لماذا أطلقت وليفة عصفوري..!
حنطة من قرنفل
على عادتها وقفت في الشرفة تستقبل بواكير الصباح.. تتدثر بعباءة من بقايا حلم ونعاس.. تنتظر من زارها..
عصفور وعصفورة حطا على شجرة الخروب العتيقة.. أخذا يرقصان وينشدان:
- ما زالت الأميرة بين الحلم واليقظة.. ما زالت تحت مظلة النعاس..
حطت الدهشة على محياها.. هتفت:
- أنا أسكن برزخ بين اللهفة والانتظار!
هبطت العصفورة بين نهديها, قبلتها وشكت قرنفلة, وطبع العصفور على فمها سنبلة وطار يحضن عصفورته مع خيوط الشمس.. هتفت:
- إلى أين؟!!
- إلى من ينتظركِ عند منارة عسقلان..
إشارة خضراء
أوقفتني الشرطية عند الإشارة الخضراء, وطلبت أوراقي.. قلت:
- التوقف هنا يعطل السير يا سيدتي
- ولو, فشلت في أكثر من مرة القبض عليك عند الإشارة الحمراء!!
- أنا امتثل أمام الإشارة الحمراء كل مرة.
أمرتني بمغادرة السيارة, وأخذت تفتش في الأوراق.. متوجسة سألت:
- هذه رخصتك؟
- نعم رخصتي
- ما اسمك؟
- المنسي.
فجأة تحركت السيارة وغابت بين سيل السيارات على الطريق.. ووقفت الشرطية مندهشة من سيارة تسير بلا سائق.. هتفت:
- أنت مقبوض عليكَ بتهمة التجسس وخرق القانون!!
- وما دليلك يا سيدتي..
سقطت مغشيا عليها, وبقيت حتى اللحظة, أحاول أفاقة الشرطية, حتى نكمل الحكاية عن رجل وظله يتناوبان على قيادة سيارة بيضاء, في مدينة امرأة خضراء..!!
ظلين لرجل واحد
كنت أتسكع وظلي في فلوات الذاكرة, فجأة وجدتني أتسمرت مكاني.. ظلي لم يعد يحاذيني, قلت ربما الشمس غيرت اتجاه دورانها فأصبح خلفي, تلفت, لم يكن خلفي ولا كان أمامي.. ووجدتني مسمرا في مكاني, والناس يمرون عني ينظرون في وجهي يتبادلون الابتسامات يمتصون شفاهم ويمضون.. حتى مرت امرأة يتبعها ظلها, أشاح ظلها عني بعيدا.. ضحكت المرأة سالت ظلها:
- هل تعرف عليك؟
- لا.. يبدو انه فقدني من ذاكرته
عادت المرأة حاملة ظلها وراحا يدوران حولي, صرت أدور في مكاني حتى صارت الشمس عمودية تشوي كائنات الأرض وفقدت الكائنات ظلالها.. صفعتني الشمس قالت:
- انظر من حولك.
كانت ظلال الأشياء أمامها إلا أنا, كان على يميني ظل وعلى يساري ظل يتبدلان الموقع ويتهامسان, صرت لا أميز من منهما يحمل صوتي ومن منهما يحمل صوت امرأة.. فجأة خضرت سيارة الشرطة وهبط منها جنود مدججين بالسلاح..
***
ذات مساء شُوهد في المدينة رجلا يسير بظلين داهمته الشرطة قبل أ ن ينتشر الجنون في بيوت المدينة.
بعد أن أنهى الأستاذ غريب مداخلته وقراءة المجموعة الأولى من قصصه الشعرية سألته الأستاذة فتحية أرى أنك تكثر في كتاباتك من ذكر النسمة والظل فهل لذلك من تفسير؟
قال: نعم! النسمة تجسيد إلى ما وراء الكلام فهي الريح والعبرة والهمسة، وهي التخفي وراء الهدوء، والعاصفة التي تسبق الحدث.
والظل هو حقيقة تتخفى خلف مسماها.
بعدها فتح باب النقاش للجمهور وكان أول المناقشين الناقد أبو هاني شحادة وقد سأل: هل الكتابة لعامة الناس، أم أنها تُكتب للنخبة؟ لقد تساءل طه حسين عن ذلك.
وهل الرمزية الشعرية أفضل أم السردية؟
هنا طلب الدكتور سويلم العبسي أن يستمع لرد الأستاذ غريب على هذا السؤال قبل الانتقال لسؤال آخر.
فرد الغريب على استفسارات أبو هاني بقوله:
في بداية تعاطي الأدب العربي مع الرواية والمسرحية كان يُنظر له على أنه من أدب الجرائد، ولكن عندما نتعامل مع الكتابة فهناك فرق بين الكتابة الجماهيرية، والكتابة لمن يحمل همّ السؤال، علينا أن نسأل من يقرأ، قبل أن تسأل لمَنْ تكتب؟
لقد أصبح القارئ نوعي، والكاتب نوعي، لذا يجب أن أرتقي في الكتابة وأنا أخاطبها، والارتقاء بالنص من أول مهامه الارتقاء بذائقة المتلقي.
سؤال طه حسين كان مشروعا في حينه، لكن الآن فلا، نحن لم نستحدث فنتازيا جديدة، بقدر ما أعدنا النص الحداثي الذي يعيد إنتاج الواقع، ولا نتحدث عن فنتازيا، لقد جسدت الواقع في قصصي، أليست همومنا تتمحور في كهرباء وبنزين وحصار؟ لقد جسدت هذا كله في قصصي، لابد أن يكون لدى الباحث عن القراءة الحد الأدنى من المعرفة، أنا ألعب على وتر كيف تُستلب الحياة في غزة لذا ذكرت في نهاية قصتي موضوع انقطاع الكهرباء.
فالأدب الحديث عندما يستخدم أدوات حديثة يفجر النص ليفجر الواقع حوله وهو أرقى أنواع التفجير.
وضرب لذلك مثلا بقصة ملاك الوقت وقصة وجوه
ملاك الوقت
على ضفة النهر وقفت تحدق في الماء, هامسها ملاك الوقت :
- الماء هو الماء يا امرأة, يبدأ من دمع العين ويموت عند المصب.
لوحت لسمكة بلون الشفق, كانت السمكة على عجل.. قال ملاك الوقت :
- لا تَشغلي المشغول بغيركِ.
- ولكني ما انشغلت بغيرهِ..
- هو الضياع!!
- ولو, ما أنا إلا قديسة تبحث عن وليف في مدن ضائعة!!
- لا يضيع من يسكن مقصورة القلب, في مدينة الروح..
وقبل من تسأله من أنت؟ غادر ملاك الوقت, مع أول شهقة ريح, قبل أن يدركه الوقت
وجوه
أداته الفرشاة, وأداتها القلم.. التقيا في عتمة وقت.. نبتت بينهما حكايات لم تكتمل.. وعلى كثرة ما رسم من الوجوه, لم تر يوما وجهها بين النساء على الورق.. في كل مرة تقرر أن تسأله:
- هل نسيت وجهي؟
وفي كل مرة, يطلب منها أن تكون إلى جانبه, تملآ كأسه بالخمر, وتراقب كيف تنبت وجوه الأخريات على الورق..
وفي يوم كانت بأبهى زينة, لم تملأ له الكأس, وكتبت لرجل بعيد يفصله عنها ملح وماء, يحضر كل ليلة على من هناك.
" هل يحق له استردادي في نهاية المشاوير!! "
ونامت مع عريها تحلم.. ولم ترَ صاحب الفرشاة, وهو يرسم لأول مرة وجه امرأة تشبهها..
وللحديث عن النص عبر المفاهيم أتى بقصة: فصل ما قبل الذهول
نهضت اليوم من نومي نشيطا عفيا.. أخذت حمامي وتعطرت بكِ, وانطلقت على عجل أتسوق حاجات العيد.. في السوق داهمني شعور بأنك تبحثين عن ظلي, فتوجست خيفة, وواصلت سيري وقد صوبت عينيَّ إلى الأرض, فاصطدمت برجال ونساء وسط الزحام, ونلت من التقريع والتوبيخ الكثير.. لكن امرأة ضربتني على كتفي فانخلع كتفي وهاجت:
-افتح عينيك يا أعمى
ووجدتني أرد مذعورا:
- عذرا رضاب..
قبضت على معصمي.. وفحت في وجهي:
- وكيف عرفت اسمي؟!!
ونادت على الشرطي:
- خذ هذا حقق معه كيف ومتى عرف اسمي؟
قلتُ.. وكذبت.. اقسم أني كذبت:
- أنها تشبه صديقتي رضاب!!
هتف الشرطي كمن عثر على صيد:
- وتعترف أنك تصادق النساء في رمضان
فرشوته بتفاحة كبيرة وناضجة, وحمراء مثل خد عروس.. تشممها فسَكر وانقض علي التفاحة قضما ونهشا.. فشهقت وهتفت في سري:
- ربما سمحوا للشرطة بالإفطار في رمضان!!
لكن صوتكِ وشوشني :
- الحذر.. الحذر اهرب بجلدك من سوق يفطر فيه الشرطي في رمضان!!
وتسللت خفيفا يتبعني الرعب كظلي..
***
يتحدث الناس في غزة, عن امرأة من برج السلحفاة, تمشي ببطء قاتل, وتنمو في كل الاتجاهات, وتهدر مثل طوفان من لحم.. تمضغ تفاحة على هيئة شرطي.. وأن جميع رجال برج الحمل يجوبون المدينة وعيونهم منكسة نحو الأرض.. ويقال أن ذلك من علامات فصل ما قبل الذهول!!
- يا سيدتي أنت نسيت أن تضعي في العجينة خميرة الوجد خذي هذه هديه منه!!
وألقمها شيء أحلى من الحلوى فحملتها.. غيمة من أريج الورد..
ثم قصة يراقص الخزامي
وعرّف الخزامى بأنها زهرة لونها بنفسجي، ويستخرج منها نحو خمس وعشرين مادة طبية تستخدم جميعها في مواد التجميل.
هبطت على كفي مع قطرة ندى, نبتت في كفي خزامية, أطلقت عطرها صرت عصفورا يأكل العطر وينام.. قلت:
- ما الذي يفعله العصفور
- يدخل طقس اللون
نهض العصفور بعد غفوة قصيرة يغني فينبت لونه رويدا.. رويدا حتى إذا اكتمل عريه غطته الخزامية ببتلاتها صار العصفور خزامي الريش.. قلت:
- كيف تحول العصفور خزامى يطير بريش ورده؟
قالت:
- انظر وجهك في المرآة
في المرآة رأيت وجهي خزامي اللون والرائحة.. رقصت المرأة وصهلت, وغادرت كفي فهرولت خلفها ابحث عنها راقصا.. وفي الطرق أشارت الصبايا نحوي.. هتفن:
- ما أجمله من راقص في موجة عطر امرأة..
وقصة اغتيال الدراق
الليلة أورق العنب في صدري.. ورأيتك دالية تتدلى منها عناقيد نبيذ.. فعشت طقس اغتيال الدراق على شفتيكِ وانطفأتُ.. صرتُ قنديلا جف فيه الفتيل.. رحت أبحث في عتمة حالكة عن نور بعيد.. ليلي رعد وبرق ثم رعد ولا مطر.. فجأة حضرتِ تجدلين الوقت ضفيرة من ريش عصافير الاشتياق.. تهطلين على أرض وقتي مطر.. تشعلين النبض في روح الفتيل.. ورأيتكِ ظبية تقطع المسافات.. على ظهرها سرب عصافير.. كلما اجتزتِ مفازة يهبط عن ظهرك عصفور يغني.. أهتف على وجعي:
آه.. يا عصفور قلبي أعني..
افرد كفي.. يهبط العصفور ينقر جلد الكف.. ويمارس الرقص المغمس بالغناء.. يصهل فيَّ الوقت.. يصبح الوقت ارض دراق وأعناب..ونوار حناء.. وصحوت والوقت ليل.. لا نجوم ولا قمر.. لا غيمة ماء! وجئتِ على بقعة ضوء تسألين:
- لِمَ غبتَ.. خفت عليك!!
- لا عليكِ.. كل ما في الأمر أنهم في غزة قتلوا الكهرباء بعض وقت.
- متى!!
- عندما قتلوا الدراق على شفتيكِ
بعدها فتح باب الحوار للمرة الثانية فكانت الكلمة للناقد المثقف محمود الغفري قال فيه: لم أطلب الحديث لأناقش إنما لأقول كلمة حق في هذا الرجل، غريب عسقلاني، إنه من
أروع الشخصيات، يَسمع ويُسمع، يتقبل النقد بصدر رحب، يخاطب المواطن بمختلف مستوياته، فهو لا يعيش في برج عاجي، ولا يدّخر جهدنا في أن يفيدنا دوما، فشكرا له.
السيد رزق المزعنن قال: أنا أتذوق نصوص غريب، فالمرأة حاضرة في كل نصوصه، وموظفة توظيفا سرديا وجماليا بشكل راقي، لكني سأدقق في هذه النصوص القصيرة، التي كان فيها مبدعا بامتياز.
النصوص عبارة عن شعر متلبس بقصة مكتوبة بشعرية عالية، وكل قصة لها خلفية روائية.
هذا النص الأدبي يرتقي بالقصة القصيرة في فلسطين، فيرتقي لمصاف النصوص العالمية، لقد التزم غريب بجماليات هذا النوع من الفن.
الأديب والروائي حبيب هنا قال: أعتقد أن غريب من بداياته أشار في نصوصه إلى أن جزء من الكاتب يكون في نصه.
في المدارس الحديثة هناك انفصال تام بين الشخصية والنص إلا في حالتنا الفلسطينية.
تحليل النص يبدأ من النص نفسه، والنصوص التي استمعت لها وعشنا رسوماتها التشكيلية المتحركة، أرى أن هناك تماهي لا تحتمله القصة، وهذا ليس لصالح القصة القصيرة، اللغة الشعرية راقية، لكن التماهي لهذه الدرجة ليس لصالحها.
رد الأستاذ غريب على تساؤل الأديب حبيب هنا فقال:
عندما نسمع رأيا نقديا لكاتب روائي وقصصي نقف احتراما لما قاله الأستاذ حبيب؛ لكن لو فتشت في هذه النصوص بدقة أكثر لرأيت أن هناك القصة الومضة والقصيرة والتلغراف، والقصة القصيرة جدا.
أنا لا أكتب إلا من مدرسة غريب عسقلاني، فعندما كتبت أردت أن أضع بصمتي في هذا اللون، كتبت ثلاثمائة قصة تتراوح ما بين السطر والعشر، والإيجاز أكثر صعوبة من التفصيل؛ الأديب حسن البنطال يطرح نصوص لا تزيد عن سطر أو جملة، كنت أطلب منه أن يضغط قصصي في جملة، فيقول: عجزت، لأن النص مرآة صاحبه.
التجربة للشاعر تتضمن ما يسمع به، وما يراه، وما يعايشه أيضا، كلها يتضمنها النص.
كتابي العزف على الوتر الثامن: يتحدث عن علاقة الرجل بالمرأة وهو أشبه بالسيرة
وكتاب سيصدر في مصر بعنوان (بداية المرايا امرأة): وفيه كيف يرى الرجل المرأة، وكيف تكون هي مرآة الرجل، ويخلص إلى أن المرأة الأولى هي مرآة الرجل الأولى.
وأضاف غريب: يصعب على الكاتب أن يكتب النص بعد كتابته في المرة الأولى، لأنه عندما ينهمر يأخذ كل طاقته، وإن كانت الطاقة ناقصة يعتبرها الكاتب محاولة أولى ويؤجلها.
فلو كنت تكتب وانقطعت الكهرباء أو انقطعت عن الكتابة لسبب ما، فعند عودتك للكتابة مرة أخرى تكون فاترا.
ختاما أقول: إن هذه التجربة خاصتي ستبقى في الورق والكتب إلى أن يقيض الله لها الباحث الذي يحكم عليها، وأكون سعيدا لمن يوجهني ويحكم عليها.
كان للسيد أبو أسامة شاهين مداخلة فقال: القصة القصيرة إبداع غير متاح للجميع يتضح ذلك من هذه الحكاية؛ كتب أحد الأبناء لوالده رسالة استغرقت تسع صفحات، وفي نهايتها قال له: أعتذر لأنه لم يكن لدي وقت لأكتب رسالة قصيرة.
السيد محمود المبحوح قال: الأستاذ غريب يدق الجدران في محاولة لإعادة بناء الواقع، ثم ألقى قصيدة كتبها عن الوضع المعاش في غزة.
انتهى اللقاء، لكن يبقى صالون نون الأدبي منارة وضياء لا ينطفئ.