الحمدانيون في الموصلقلَّد الخليفة المقتدر أبا الهيجاء عبد الله بن حمدان الموصل وما يليها
في سنة 292هـ، وولَّى أخاه إبراهيم ديار ربيعة في سنة 307هـ، فظلَّ بها إلى
أن خلفه عليها أخوه داود سنة 309هـ. كما ولَّى أخاه سعيدًا نهاوند في سنة
312هـ، وقلَّد غيرهم من بني حمدان بعض مناصب الدولة، وأناب عبد الله بن
حمدان ابنه ناصر الدولة الحسن عنه في الموصل 308هـ، واستطاع أن يحتفظ
بنفوذه فيها إلى أن مات في سنة 358هـ، إلا فترة قصيرة لا تزيد على سنتين
(317- 319هـ). كما استطاع أن يمد نفوذه على جميع أرجاء ديار بكر وديار
ربيعة، ولقَّبه الخليفة المتقي في شهر شعبان سنة 330هـ ناصرَ الدولة،
ولقَّب أخاه سيف الدولة
[6].
[6] حسن
إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام 3/122.
ناصر الدولة الحمداني (317-358هـ)سطع نجم ناصر الدولة بن حمدان في أفق الدولة العباسية، ولكنَّه زاد في
فرض الضرائب؛ مما أثار حنق الخليفة وسخط الناس عليه.
وقد اشتعلت الحرب الأهلية بين الحمدانيين والبريديين
[7] من
ناحية، وبين هؤلاء والبويهيين من ناحية أخرى، وانتهز الخليفة فرصة خروج
ناصر الدولة إلى الموصل، فاستنجد بتوزون
[8]، ومهَّد
له السبيل لدخول بغداد سنة 331هـ، ولم يستطع زعماء الحمدانيين من العرب
البقاء في بغداد أكثر من سنة، واضطروا إلى العودة إلى الموصل.
سرعان ما قام العداء بين توزون والخليفة العباسي الذي لجأ إلى ناصر
الدولة بن حمدان، وقامت الحرب بين الفريقين في عُكْبرا (تبعد عن بغداد عشرة
فراسخ)، وانهزم ابن حمدان والخليفة، وكان الخليفة المتقي يستعين على توزون
بناصر الدولة بن حمدان تارةً، وببني بويه تارة أخرى، ولكن ذلك لم يغنِه
شيئًا، فقد حبسه توزون وولَّى المستكفي الخلافة (صفر سنة 333هـ)، ثم مات
توزون في (المحرم سنة 334هـ)
[9].
ولقد تعرَّض ناصر الدولة الحمداني في آخر حياته إلى عِدَّة حوادث أثَّرت
في حالته النفسية؛ منها توغُّل البويهيين في البلاد، وموت أخيه سيف الدولة
الذي كان شديد المحبة له سنة 356هـ، كل ذلك حزَّ في نفسه، حتى تغيرت
أحواله، وساءت أخلاقه، وضعُف عقله، ولم يبقَ له حرمة عند أولاده الذين
اختلفوا على أنفسهم؛ فقبض عليه ابنه أبو تغلب بمدينة الموصل وحبسه، وظل في
حبسه إلى أن تُوُفِّي في شهر ربيع الأول سنة 358هـ
[10].
[7] هم
جماعة من المتمردين احتلُّوا بغداد سنة 330هـ؛ مما أدَّى إلى فرار الخليفة
المتقي منهم إلى الموصل مستنجدًا بالحسن الحمداني، الذي قاد جيشه وانطلق
نحو بغداد برفقة أخيه الأمير علي، وما كاد الركب يصل بغداد حتى نجا
البريديون بأنفسهم، وفرُّوا أمام الجيش الحمداني، وعاد الخليفة إلى قصره
آمنًا مطمئنًا؛ فأنعم على الحسن بن حمدان بلقب ناصر الدولة، وعلى أخيه
عليٍّ بلقب سيف الدولة.
[8] أحد
القواد الأتراك، وقد سعى للإيقاع بسيف الدولة الحمداني في محاولات عديدة،
وحاول سيف الدولة عدم الاحتكاك به؛ خشيةً من ثورة الجنود الأتراك عليه.
[9] حسن
إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام 3/123.
[10] المصدر
السابق 3/123، 124.
أبو تغلب بن ناصر الدولة (358-369هـ)بعد وفاة ناصر الدولة قام نزاع بين أولاده وانقسموا إلى فريقين: فريق
يناصر حمدان بن ناصر الدولة، وفريق آخر يناصر أخاه أبا تغلب، وأصبح
الحمدانيون جماعتين: جماعة بزعامة حمدان وإبراهيم يساعدهم بُخْتِيَار،
وجماعة بزعامة أبي تغلب وأخيه الحسين.
استطاع أبو تغلب الانتصار على حمدان، واستولى على حرَّان، ولكنه عجز عن
الوقوف في وجه الروم الذين أغاروا على الرُّها، ووصلوا إلى نصيبين وديار
بكر.
واستطاع الحمدانيون استعادة الموصل وما يليها في سنة 379هـ على يد أبي
طاهر إبراهيم بن ناصر الدولة، وأخيه عبد الله الحسين، ولكنهم لم يبقوا فيها
أكثر من سنة؛ لأن الأكراد طمعوا في إزالة دولتهم، وانتصر أبو علي بن مروان
الكردي على أبي عبد الله الحسين أخي أبي تغلب بن ناصر الدولة الحمداني،
وبعث به إلى مصر بشفاعة الخليفة العبيديّ العزيز بالله، كما قتل أبو الزواد
محمدُ بن المسيب أمير بني عقيل أبا طاهر بن ناصر الدولة الحمداني، واستولى
على مدينتي نصيبين وبلد 379هـ، وضم إليهما الموصل في السنة التالية، ولكنه
طُرِدَ منها على أيدي بني بويه، ثم استردها أخوه المقلد بن المسيب العقيلي
الذي أقرَّه بهاء الدولة البويهي على هذه البلاد وما يليها في سنة 386هـ/
994م
[11].
[11] حسن
إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام 3/ 126.
الحمدانيون في حلبسيف الدولة الحمداني (333-356هـ)وُلِد الأمير سيف الدولة علي بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدون التغلبي
في (303هـ/ 915م) في مدينة مَيَّافارِقين -أشهر مدن ديار بكر- على إثر
تولِّي أبيه إمارة الموصل.
وقد عُنِيَ أبوه بتعليمه وتنشئته على الفروسية منذ نعومة أظافره، وأظهر
سيف الدولة استعدادًا كبيرًا ومهارة فائقة في القنص والرمي وركوب الخيل منذ
صغره؛ فلم يكد يبلغ العشرين من عمره حتى صار فارسًا لا يُشَقُّ له غبار،
وخاض العديد من المعارك الطاحنة ضد أعداء الدولة والمتمردين عليها؛ سواء في
الداخل أو في الخارج.
واستطاع الأمير الشاب أن يحقِّق انتصارًا عظيمًا على البريديين الذين
اقتحموا بغداد عام (330هـ/ 942م)، ودفعوا الخليفة العباسي المتقي لله إلى
الخروج منها، واللجوء إلى الموصل للاستنجاد بالحمدانيين، فلما حقَّق الأمير
الشاب علي بن أبي الهيجاء النصر على البريديين بعد أن تعقبهم إلى المدائن،
أنعم عليه الخليفة بلقب (سيف الدولة)، وأمر أن تُضرَب باسمه الدنانير
والدراهم
[12].
حروبه مع البيزنطيينامتاز عهد سيف الدولة بكثرة حروبه مع البيزنطيين حتى قيل: إنه غزا
بلادهم المجاورة لبلاده أربعين غزوة، انتصر في بعضها وحلَّت به الهزيمة في
بعض آخر. وكان كثير من البلاد الإسلامية مسرحًا للحروب التي دارت بين
الحمدانيين والروم في ذلك العصر؛ فقد أغار سيف الدولة على زبطرة وعرقة
وملطية ونواحيها، فقتل وأحرق وسبى، وانثنى قافلاً إلى درب موزار، فوجد عليه
قسطنطين بن فردس الدمستق فأوقع به، وقتل صناديد رجاله، ثم عبر إلى الفرات
وأوغل في بلاد الروم والتقى بجيش فردس بمرعش وهزمه، وقتل رءوس البطارقة،
وأسر قسطنطين بن الدمستق الذي أصابته ضربه في وجهه، وأكثر الشعراء في هذه
الموقعة، فقال أبو فراس الحمداني:
وآب بقسطنطين وهـو مُكبَّـلٌ *** تحـفُّ بطـاريـق بـه وزَرَازِر
وولَّى على الرسم الدمستق هاربًا *** وفي وجهه عُذرٌ من السيف عاذِر
[13]ثم سار سيف الدولة لبناء الحدث -وهي قلعة عظيمة الشأن- فاشتد ذلك على
ملك الروم الذي أرسل جيشًا جرَّارًا يضم عظماء مملكته وعلى رأسهم فردس
الدمستق، وأحاطوا بعسكر سيف الدولة الذي حمل على العدو، واخترق الصفوف
طلبًا للدمستق فولى هاربًا، وأسر صهره وحفيده، وقتل خلقًا كثيرًا من الروم،
وأكثر الشعراء في هذه الموقعة، فقال أبو الطيب المتنبي:
بناها فأعلى والقَنَا تقـرعُ القنـا *** وموج المنايا حـولها متلاطـم
وكان بها مثل الجنون فأصبحـت *** ومن جثث القتـلى عليها تمائم
[14]وقد وصف الثعالبي سيف الدولة وما بلغته الدولة الحمدانية في عهده في هذه
العبارة؛ قال: "وكان بنو حمدان ملوكًا وأمراء، أوجههم للصباحة، وألسنتهم
للفصاحة، وأيديهم للسماحة، وعقولهم للرجاحة، وسيف الدولة مشهور بسيادتهم،
وواسطة قلادتهم، وكانت وقائعه في عصاة العرب تكُفُّ يأسها وتنزع لباسها،
ويفل أنيابها وتذل صعابها، وتكفي الرعية سوء آدابها، وغزواته تدرك من طاغية
الروم النار، وتحسم شرهم المثار، وتحسن في الإسلام الآثار، وحضرته مقصد
الوفود، ومطلع الجود، وقبلة الآمال، ومحط الرجال، وموسم الأدباء وحلبة
الشعراء، ويقال: إنه لم يجتمع قَطُّ بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء، ما
اجتمع ببابه من شيوخ الشعر ونجوم الدهر، وإنما السلطان سوق يجلب إليها ما
ينفق لديها، وكان أديبًا شاعرًا محبًّا لجيد الشعر، شديد الاهتزاز لما يمدح
به... وكان كلٌّ من أبي محمد بن عبد الله بن محمد القاضي الكاتب، وأبي
الحسن علي بن محمد الشمشاطي، قد اختار من مدائح الشعراء لسيف الدولة عشرة
آلاف بيت، كقول أبي الطيب المتنبي:
خليليَّ إني لا أرى غير شاعر *** فلي منهم الدعوى ومني القصـائد
فلا تعجبا إن السيوف كثيرة *** ولكن سيف الدولة اليوم واحـد
[15]الصراع مع الإخشيديينوقد أثارت انتصارات سيف الدولة على الروم البيزنطيين حفيظة الإخشيديين
الذين وجدوا عليه تلك البطولات والأمجاد، وخشوا من تعاظم نفوذه وقوة شوكته؛
فتحرَّكوا لقتاله.
بلغ الخبر سيف الدولة، فسار إلى حلب فملكها سنة 333هـ، وهرب إلى مصر
يانس الخصي، وكان واليَها من قِبَل الإخشيد، فأرسل الإخشيد جيشًا لمحاربة
سيف الدولة بقيادة كافور ومعه يانس؛ فتقابلا مع الحمدانيين عند الرَّسْتن
-الواقعة على نهر العاصي الذي يمر بالقرب من حماة- فحلَّت الهزيمة
بالمصريين، وأُسِرَ منهم أربعة آلاف، عدا القتلى والغرقى.
ثم تقدم سيف الدولة يريد دمشق، فسار إليه الإخشيد الذي حلَّت به الهزيمة
في قنسرين، ولكنه انتهز فرصة انشغال الحمدانيين بجمع الغنائم واقتسامها،
فأطلق عشرة آلاف من صناديد جنده، بددوا شمل العدو، ودخل حلب حاضرة
الحمدانيين، واستردّ دمشق إلا أنه -على الرغم من انتصاره- تصالح مع
الحمدانيين على أن يترك حلب وما يليها من بلاد الشام شمالاً، كما تعهَّد
بأن يدفع لهم جزية سنوية مقابل احتفاظه بدمشق
[16].
كان الإخشيد في حالة قوة وانتصار، ولكنه كان يرمي من وراء إبرام الصلح
على هذه الصورة، أن يُبقِي الدولة الحمدانية حصنًا منيعًا يكفيه مئونة
محاربة البيزنطيين، الذين لا يفتُرُون عن مهاجمة الولايات الإسلامية
المتاخمة لبلادهم، والذين أغاروا سنة 331هـ على أرزن وميافارقين ونصيبين،
فقتلوا وسَبَوا كثيرًا من المسلمين، ثم دخلوا في السنة التالية 332هـ رأس
العين في ثمانين ألفًا؛ فقتلوا وسبوا خلقًا عظيمًا من المسلمين.
ولكن هذا الصلح لم يَدُمْ طويلاً؛ فقد تُوُفِّي الإخشيد في سنة 334هـ،
وتولَّى كافور الوصاية على ابنه أبي الحسن علي.
انتهز سيف الدولة الفرصة؛ فنقض العهد واستولى على دمشق، ثم سار إلى
الرملة لغزو مصر، فحاربه كافور بصحبة الحسن بن عبيد الله بن طغج وانتصر
عليه في اللَّجُّون (تبعد عن طبرية بنحو عشرين ميلاً، وعن الرملة بنحو
أربعين ميلاً) في بلاد الأردن، ثم انتصر عليه انتصارًا حاسمًا بالقرب من
مرج عذرا بجوار دمشق، ودخل الجيش مدينة حلب، وعقدت بين الطرفين معاهدة
الصلح بنفس الشروط التي عُقِدت بها أواخر أيام الإخشيد، ما عدا الجزية التي
توقف دفعها
[17].
[12] انظر
موقع إسلام أون لاين، الرابط:
http://www.islamonline.net/Arabic/history/1422/05/article19.SHTML[13] حسن
إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام 3/128، 129.
[14] المصدر
السابق 3/129.
[15] السابق
نفسه 3/129، 130.
[16] حسن
إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام 3/127.
[17] المصدر
السابق 3/128.