الوفاء...لزمن الحب والحرب(6)

الوفاء.... لزمن الحب والحرب ( 6)
( وفاء الأبطال )

قصي المعتصم

كان (سلام) قد حدّثني في القصة الأولى عمّا مرّ به من ظروف، أثناء معارك شرق البصرة(نهر جاسم).
وقال لي خلالها: "إن أول من وصل لإنقاذه كان شخصاً وقف معه وقفةً مشرفةً قبل فترة من تلك المعركة، وكنت فضولياً بعض الشيء لأعرف مالّذي فعله، ليجعل هذا الرجل يخاطر بحياته لإنقاذه ...وكانت القصة....
لم يكن رأس عرفاء (محسن) إلاّ رجلاً من أهالي الناصرية الشرفاء..تلك المدينة التي تحوي نفائس الآثار لتاريخ العراق عبر العصور..مدينة ، حمل أبنائها كأجدادهم ، قيم البطولة والفداء..وشرف الدفاع عن العراق..فانخرط الكثير منهم في وحدات الجيش، وهي المؤسسة التي تعتبر الخط الأول للدفاع عن الوطن، وبذلك ، يشعرون أنّهم امتداد لتاريخ طويل ، كان مفخرةً لهم عبر الأجيال .
كان (محسن) واحداً من هؤلاء الرجال الذين اتخذوا من العسكرية مهنةً وطريقاً للعيش ، كنت ألاحظه من خلال التدريب، والأعمال التي تقوم بها وحدتنا، كان أحرص من غيره على تنفيذ الأوامر..وفي الأعمال التي يكلف بها فصيله، كان أول الحاضرين وآخر المغادرين..قليل الكلام..إنساناً بسيطاً..وذا خلق عال ...لا تكاد تسمع صوته..يهبّ لأيّ نداء..لواجب..أو عمل..كان عريفاً لفصيل مدافع وكان يقوم بواجب آمر حضيرة عند الضرورة.
ذات يوم..حينما كنّا في منطقة الفاو، التي عدنا لها ..بعد عدّة اشهر مما حدث لوحدتنا أثناء بداية احتلالها في شباط عام 1986.
كانت ليلة بادرةً من ليالي الشتاء..لكن المنطقة التي نحن فيها كانت ساخنة كل ليلة، نتيجة القصف المتبادل بين قطعاتنا، والقوات الإيرانية ولا يكاد أحدنا ينام لساعة واحدة بهدوء..
وكحالة اعتيادية، يطلب منّا أن ترمي مدفعيتنا عند طلب القطعات الأمامية ذلك..وهذا ما حصل تلك الليلة..
كنت في موقع البطرية وجاءنا طلب للرمي لمكان يبعد 100-150 متر أمام قطاتنا في الخط الأمامي..كان عملاً روتينياً نقوم به عدّة مرات كل يوم .
تم استلام المعلومات من المراصد وتم تحويلها إلى معلومات تنظم على المدافع لغرض الرمي.
جرى الرمي من قبلنا بمدفع واحد فقط، وكذلك من الوحدات الأخرى... ثم جرى تصحيح على الرمي بزيادة مسافة الرمي بمائتي متر ...دقائق مرّت بعد الرمي، اتصل بي آمر البطرية ليخبرني أن إحدى القذائف سقطت بالقرب من مواضع قطعاتنا..وطلب مني التأكد من عملنا، كان يبدو عليه أنه يشك في أن المدفع الذي رمى من بطريتنا هو الذي أخطأ في الرمي.
سألته: "هل أصيب أحد؟"
قال: "كلا"
ولكن مجموعة من استخبارات الفيلق ستقوم بتفتيش وتدقيق عمل الوحدات التي رمت ، لأنّهم يشكون بأنّ هذا العمل متعمّد وذلك لتكراره عدّة مرات..ولذا ، فان هذه اللّجنة تضمّ ضباطاً برتب عالية ومخولين باتخاذ إجراءات خاصة تجاه هكذا حالة..
ناديت على طائفة المدفع، التي قامت بالرمي، وتكلمت معهم بالهاتف: أجابني محسن أنه هو آمر الحضيرة التي قامت بالرمي.
سألته: "من قام بتنظيم المعلومات؟"
أجابني: "أنا قمت بنفسي بإدخال المعلومات والتوجيه والتدقيق".
قلت له: "هل أنت متأكد من المعلومات ؟ لأن لجنة من الاستخبارات سوف تأتي للتدقيق بسبب سقوط إحدى القذائف على وحداتنا الأمامية".
أجابني: "لقد تأكدت من المعلومات قبل الرمي وكذلك أشرفت بنفسي على التصحيح الذي تم في الرمية الثانية".
قلت له: "سآتي عندك لأن اللجنة في طريقها إلينا للتدقيق".
أجابني: "نحن حاضرين سيدي وأنا بانتظارك قرب المدفع".
كان بين الموقع والمدفع حوالي ثمانون متراً والظلام دامس، توجهت نحو المدفع مستعيناً بمصباحي اليدوي....استقبلني محسن عند المدفع، حالما وصلت، قلت له: "سأسجل آخر معلومات، حتى إذا ما طلبوها تكون جاهزة".
أمسك هو بالمصباح وأنا قمت بقراءة قرص تنظيم المعلومات...كتبت المعلومات..لكن لاحظت ان هناك خطأ ما !
سألته: "من نظّم المعلومات بيده على هذا القرص؟".
أجابني: "أنا سيدي".
- "وهل سجلت المعلومات المستلمة من الموقع"؟
- نعم سيدي.
- "ما هي آخر معلومات أعطيت لكم؟".
-"أن نرمي بمسافة أبعد بمئتي متر من الرمية الأولىوذلك عرفته من الأرتفاع الجديد الذي أعطي لنا.
قلت له: "انظر الى القرص ..هل ترى أنّ المعلومات التي أدخلتها صحيحة؟".
نظر إلى القرص وتسمّر في مكانه !.. لا يعرف ما يقول..كان المفروض تدوير القرص ربع دورة بآتجاه عقرب الساعة ، لكن بعد تنظيم المعلومات ثم تدويرها عكس عقرب الساعة.. مما جعل الرمي بدلاً من زيادة المسافة لتصحبح 300-350متر أمام قطعاتنا، وقعت بمسافة 50-100 داخل قطعاتنا.
لم يعرف محسن بماذا يجيب فقد كان الخطأ خطأه..
في تلك اللحظة ، ونحن نتناقش ، توقفت عجلة ضبّاط الاستخبارات من الفيلق ( اوصلهم احد حراس الوحدة إلى المدفع لأننا أعلمناه بقدومهم وبمكان المدفع الذي رمى).
استدرت وتوجهت إلى العجلة التي لم تكن تبعد سوى ثلاثة أمتار عنّي ، نزل منها ثلاثة ضباط، لاحظت أحدهم برتبة عقيد، قدمّت نفسي له، مدّ يده ليصافحني ويسألني عن المدفع ...
قلت له: "هذا هو المدفع".
نزل الثلاثة وقاموا بتسجيل المعلومات على القرص الخاص بالمدفع ثم طلبوا مني أن نتوجه إلى موقع القيادة لمطابقة المعلومات..في تلك اللحظة لم أرى محسن حولي !....
تمّ تدقيق المعلومات للمدفع مع الأوامر لموقع القيادة وبعد الشرح والتوضيح قرروا أن المعلومات ليس فيها خطأ، وأن الخطأ لم يكن من قبل وحدتنا .... وغادروا الموقع بعد أن كتبوا تلك التوصية في تقريرهم !!!......
بعد خروجهم بدقائق..سمعت شخص يدخل بقوة إلى الموقع، كان (محسن)، الهلع بان على وجهه ورأسه مبلل بالماء بهذا الجو البارد ولا يرتدي حتى غطاء الرأس المعتاد، نظرت إليه ولاحظت أنه مرتبك وخائف .
سألني: "سيدي، مالذي سيحدث؟ ماذا قالوا؟ هل سيرسلون أحد لي لاحقاً؟ ماذا سيفعلون بي؟"
رفعت يدي لأشير له بالتوقف عن الكلام، وقلت له: "لماذا تقول ذلك؟ لقد دققوا في المعلومات ولم يجدوا أي خطأ وغادروا وانتهى كل شيء، فلم أنت قلق؟".
قال: " ولكنك يا سيدي ..ألم ترى القرص والمعلومات؟"
"نعم سجلت المعلومات" ثم غمزت له بعيني.."وهم كذلك ، وبعد التدقيق تبين عدم وجود خطأ من قبلنا"
أعاد الكلام.."كيف يا سيدي؟". سارعت "بغمزة ثانية"..واستدركت ...محسن اذهب وارتاح ودعنا نرتاح، الموضوع انتهى.. وكمحاولة تغيير الموضوع وعدم تركيز أفراد موقع القيادة من ضباط الصف والجنود لحديثنا، قلت له:" كيف تأتي هكذا وأنت بلا غطاء الرأس أنت ضابط صف جيد وهذا لا يجوز، اذهب الآن، وغداً سأحاسبك على هذا". مع غمزة ثالثة.. ويبدو أنه أخيراً فهم أنني أريد أن يتكلم بالموضوع..وكانت محاولة لتغيير الانتباه عن الموضوع الأهم...
غادر محسن ..انتظرت دقائق وخرجت بعدها كعادتي بعد انتهاء الرمي ، أن أذهب إلى غرفتي في هكذا وقت..
وجدت محسن واقفاً قرب موضعي ينتظرني، سألني بقلق: "آسف سيدي لوجودي وإلحاحي، ولكن أرجوك أخبرني الحقيقة، لقد أغمي عليّ بعد أن تركتم المدفع ولم أفق إلا بعد أن صبوا الماء البارد على رأسي ووجهي".
قلت له: "ألم أقل لك أن الموضوع انتهى واذهب لترتاح".
أجابني: "أرجوك يا سيدي أخبرني الحقيقة، أنا وأنت شاهدنا الخطأ بنصف دوره، فكيف لم يلاحظوه".
حينها ضحكت وقلت له: "ادخل إلى غرفتي لأحدثك لأن الجو بارد بالخارج وأنت مبلل الرأس".
جلس وهو ما زال يرتعد من البرد ..أو الخوف..او كلاهما ...قلت له: "أتذكر عندما أخذت منك المصباح اليدوي بيدي اليسرى ..ولحظتها توقفت العجلة خلفنا، فقمت بتوجيه الضوء لمعرفة من القادم، أكنت تدري أين كانت يدي اليمنى؟..كانت ما تزال تمسك بالقرص ولكوني أعرف بأنه لن يلاحظ أحد ما سأقوم به، قمت بتدوير القرص نصف دورة، وبسرعة دون أن ينتبه أحد، حتى أنت بالرغم من قربك مني، لأن المكان مظلم وأنا وجهت الضوء باتجاه العجلة، وحينما قرءوا المعلومات كان الخطأ ممكن أن يكون عشرة أو عشرين متراً، وهذا اعتيادي وليس كما هو 300-350 متراً، لذلك عندما جاؤوا إلى الموقع وطابقوا القرائتين لم يجدوا خطأ يذكر ليدل على أنك أخطأت..وخاصةً وأنه والحمد لله لم يصب أحد جرّاء الخطأ الذي قمت به وانتهى الموضوع وأنا سوف لن أحاسبك هذه المرة ويكفي ما مررت به ولكن ، أرجو أن تنتبه لاحقاً لكي لا تحصل مشاكل ويصاب أخوتنا".
ذهل محسن لكلامي ، لم يعرف ماذا يقول، شعرت انه يكاد ينفجر من الانفعال، وتأخر في الرد على ما قلته، لأنه كان يخفي مشاعره ويحاول أن يسيطر على عواطفه وهو يداري دمعةً تكاد تنزل من عينيه..
لحظات تركته يستعيد رباطة جأشه ليقول : "سيدي ..أتعرف ماذا فعلت؟! ..لقد أنقذت حياتي وحياة أسرتي ....أتدري يا سيدي..لقد أعدم أخي قبل شهرين بسبب انتماءه لحزب محظور..والله لو مجرد شك بسيط لكنت الآن بمكان لا يعلمه إلا الله..كيف أجازيك يا سيدي؟! لم أتصور أنك تجازف هكذا لتنقذني..لقد كتب لي عمر جديد على يديك
قلت له:
"هون عليك الأمر...لو كنتَ متعمداً لما سامحتك، ولكن خطأك غير مقصود ولا متعمد، ولم يُصبْ أحد بأذى، وأنا أعرف أنك شهم وشجاع ولك مواقف مشرفة ، ومافعله أخوك لاعلاقة لك به ، وأنتم إخوتي وأهلي هنا، فكيف أفرط بأحد منكم ..أليس من واجبي أن أحميكم ؟.. فلا تعطي للأمر كل هذه الأهمية".
لا يعرف ما يقول وهو يتمتم بكلمات وكأنه يكلم نفسه "أنقذني من الإعدام" ويقول لي لا تعطي الموضوع أهمية!..ثم بادر: "سيدي لن أنسى فضلك هذا طوال حياتي، سأبقى أنا وعائلتي وإخوتي مدينين لك طول العمر".
ابتسمت ونهضت وقلت له مازحاً: "ضيافتك انتهت، ألا تسمح لي بالنوم ..اذهب أنت وارتاح، وبالمناسبة، غمزت لك بموقع القيادة كي لا تسترسل بالكلام وممكن أن يكتشف أحد الأمر..فلا تعرف ما داخل الأنفس..وأرجو ألا تتكلم بهذا الموضوع ..وإذا سألك احد..فروايتي التي أخبرتك بها في موقع القيادة هي ما تقوله، أما ما بحت به لك الآن فهو سر بيننا لأنه لو اكتشف ..سنكون معاً في مكان واحد !!!..اذهب وتوكل على الله...
لقد فعلت ذلك ، وحميته ، لانه لو كان متعمداً ، فقد توفر له الوقت الكافي لتصحيح الخطأ ، ولايمكن اكتشاف أمره ، بل كان واثقاً من عمله ، وكان بانتظاري لوحده على المدفع حينما وصلت ...
كانت تلك،حكاية رأس عرفاء(محسن) ابن الناصرية الذي قابل موقفي هذا معه..بموقف مماثل حين حملني وأنا جريح كما ذكرت في القصة الأولى من هذه القصص ورافقني إلى المستشفى وبقي يلازم سريري طيلة إجازته، وأثبت بعمله أنني كنت على صواب عندما حميته ، وأنه كان فعلاً، بطلاً وشهماً وشجاعاً كما عرفته..
هكذا كان الرجال..
لا أدري ان كان هذا البطل مازال حياً الآن..أم لا..ولكن ستبقى ذكراه ..على مر الأيام...
هكذا كانوا ابناء العراق ...ومنهم أبناء الجنوب الأبطال ، وسيظلون كما عهدناهم رجالاً للمهمات الصعبة ، وشوكة في عيون أعداء العراق ...
واليوم ....هل نال هؤلاء الرجال مايستحقون من تكريم؟... كلا طبعاً ...
لأن من جاءوا لايعرفون معنى حب الوطن ، ولايعرفوا قيم الوفاء والحب لأهل وأرض العراق ...

(فأمّة لاتكرم من ضحّى لأجل عزّتها.....لن تجد اليوم من يضحّي لأجلها ...
وهكذا تموت الأوطان )

نعم سيدي

هكذا تموت الاوطان

رائع استاذي

بارك الله لك

ولك خالص الود

جميل ما رأيت هنا تسلم استاذي القدير

ماشاء الله مجهود اكثر من رائع ومميزمن عضو الوفاء...لزمن الحب والحرب(6) 155445

مميزفى تقدم مستمر دائما وننتظر منك كل جديد

الوفاء...لزمن الحب والحرب(6) P-yemen1%20%28131%29

تقبل مرورى

شكراً لمشاعركم الطيبة ...أعدكم بالمزيد ..مع اطيب تمنياتي بالتوفيق لادارة المنتدى ولكل أعضاءه الأوفياء على التواصل ...حبي وتقديري
قصي المعتصم

» الوفاء...لزمن الحب والحرب(7)
» الوفاء...لزمن الحب والحرب _9)
» الوفاء...لزمن الحب والحرب (10 )
» الوفاء...لزمن الحب والحرب (2)
» الوفاء ...لزمن الحب والحرب (3)