وجـع الشّعـر فـي بيانـه
محمـود أسد
سوريا حلب
mahmoudasad953@gmajl.com الشعرُ منبتُ الحبِّ و الخير و الجمال ، نسغ السموِّ إلى العالم الأرحب و الأصفى هو مركبٌ لجزر العشق و الدهشةِ اللافتة الساحرة و هو سفينة تبحرُ بنا إلى بحيرات الإبداعِ ، و يرسو بنا على مرافئ الصفاء و الجمال . هو قادرٌ أن يفعل فعلَهُ العجيبَ بنا ، يملك مفاتيح الدهشة ، و يثيرُ لواعج النفس … يقتحم المجهول منها ، يقوى على همومنا ، يشاغبُ برشاقةٍ ، و يوقِع بين الشعراء و بين الآخرين … و يشعل نار الفتنة بين الشاعر و نفسِه الطامحة … هو عصيٌّ حينا فيمتنع و يأبى ، و طيّعٌ حيناً آخر تراه بين يديك كحمامة وديعةٍ ، أو سحابة ظليلة ماطرة . يُطِلُّ عليك رتيباً لدرجة السأم حيناً ، و ينبعث ناشزاً شقيّاً في أحيان أخرى.
إنَّهُ طقسٌ متقلِّبٌ ، و كائنٌ غيرُ مستقرّ ، هو رؤيةٌ و صورةٌ لافتة ، و مضامين موحية ، تخصب في الذاكرة و النفس فتعطيك إبداعاً عصيّاً ، يصْعُبُ إمساكُه أو اللحاق به . هو فتاةٌ متقلبةُ الأهواء ، يصعثبُ علينا حلٌ لغزها تلوِّحُ إليك بنظراتها و مفاتنها ، فتأسُرُ ألبابَكَ ابتسامتُها و غَنجُها تهمس، لك بطرف لحظها فسرعان ما تجدُ نفسك أسيرَ غوايتها فتحاول مجاراتها و لا تستطيع إدراكها ، فتقع أسيرَ حسنِها و هواها .
هو معك و ليس معك … يتراءى من بين شفاهك فتسكبه شهداً عذباً . يقاطعك في خطاكَ و شهقلتِك و تراه ضالاًّ شارداً كغزالٍ برِّيِّ في صحراءَ موحشة و حيناً تراه فتى شقيّاً مشاغباً يصعب عليك فهمُ سلوكِهِ و إمساكُهُ و الأخذُ به … هو كلُّ هذا .. هو كيمياء الإبداع تُشكِّلُ بين الحروف و النقاط و الكلمات و بين الكلمة و شقيقتها ، و بين الصورة و دلالتها و ألوانها . هو كيمياء الروحِ الشفّافة الخفيَّة التي تبعث النهوض في الجسد الراقد ، و هو مركب يحمل ما لذَّ و طابَ من توابل الحياة و بهاراتها ، يجلب لك سحرَ البيان و دهشة التعبير و التشكيل ، و يرسو بك حيثُ الأمانُ و الحبُّ و الدواء . أمواج البحر تتكسَّرُ أمام طاقاته و اندفاعه . و أسماك القرش تُروّض أمام نظراته و رؤاه فتنزع أسنانها و تقترب منه عن رضا و قناعة لذلك يصعب على الشاعر و المتابع الحصيفِ أن يمسِك بخيوطِهِ ، و أن يُلِمَّ بما يخفيه ، فلا يقدر على إعادة صياغته ، هو فوق التقليد و فوق التقعُّر اللغوي و التكلّف الثقيل .
الشعر مجموعةُ أطياف ملوّنة تتحِدُ في طيف واحد ، و هو جداولُ من الإشعاعاتِ المرسلةِ كضفائرِ الأنثى الحسناء تأتيك في إشعاع متألق ، هوَ مَلكاتٌ و مواهِبُ تختلفُ لتشكّل مملكة البيان الناصع هو باعثٌ على الإلهام و الإيحاء ، طيفُه يداهمك أينما كنت . و ما زال عالماً من السحر الحلال ، يحرِّضُك بصُمِّ حجارته من الكلمات ، و يداعبك ملاطفاً بعذب معانيه و روعة موسيقاه … تحتار في فكِّ ألغازِهِ و تحليل نسغِهِ . يدعوك إلى مائدة الأسئلة المحيِّرة يحرمك من لذّة النوم فيهرب بك إلى لذّة الوصالِ و التأمُّلِ و الحكمة … يتركك على أبوابه الواسعة تبحث عن وسيلة تسعفك في فكِّ ألغازه و رموزه و صوره . و إذا ما عجزت استسلمْتَ للقطيعة و حلّتِ الجفوة بينكما . هذه الجملُ الهاربة من خندقِ الأملِ و الألمِ تسعى معك لإعادة جماليّةِ الشعرِ و بهائِهِ و تعقيمهِ . تسعى لتُكلِّلَ عرش الشعرِ سيِّد الفنونِ الإنسانية بما يملكه من مقوِّمات . هي إشارات تسعى لامتطاء بعض مراكبه كي ترجع له هيبته و وقاره ، و كي تعيد تنصيبه على عرشِ مملكته الجميلة ، تحاول الإمساك بمجاديفه و قراءة أسطر مرافئه ، تأمل باللجوء إلى فلك الصفاءِ الشعري ليستحمَّ من درن الملوّثات التي وفدت إليه و حطَّتْ فوق كاهله.
لا تدَّعي الوصاية الطائفية أو السياسية و لا تناصِرُ شكلاً على شكلٍ ، تؤمن بحرِّية الإبداع المدعِّم بالزائقة و الغيرةِ . تقدِّر الإبداع الباعثَ فينا قيمَ الجمالِ و الخيرِ ، و تقلِّم أظافرَ بعض القصائد المتمرِّدة على الجمالِ و الأعراف و الذائقة و الخير .
لا تدَّعي حزباً أدبيّاً أو سياسياً ، تقول لك : نحن أطياف في طيف ، لن ننصِّب أنفسنا دركيّاً قاسياً لا نملك العصا الغليظة ، و لا نؤمن بالزنزانةِ كعقوبة للتأديب لن نضع الغشاوة أمام بصرنا و بصيرتنا فنصادر الآراء ، و نكفِّر المبدعين من الشعراءِ لا نسعى إلى بناء جنّةٍ و نارٍ نُدْخل إليهما من نشاء . الشعر الجميل السامي الذي يرتقي إلى الأسمى و الأنقى هو غايتنا ، و حاجتنا ماسَّةٌ إلى رؤية نقديةٍ صائبة موضوعية ، و إلى ذائقةٍ سليمة ، تقدِر على الفرز و الإقناع دون تشنُّجٍ ، نختلف إيجاباً و لا نرسِّخ القطيعة . الإبداعُ الحقُّ مبنيٌّ على الاختلاف و التميُّز و لكنه اختلاف الحكيم و الشاعر البارع الواثق من ملكاته و أدواته . نحن أطياف اختلفت في قضايا الشعر و اجتمعت على حبِّهِ و اتفَّقتْ على ضرورة تنظيم جداولِهِ ، و إعادةِ لملمةِ حبَّاته ، حسنُ النوايا و العفويَّةُ الناضجةُ جمَّعانا علَّنا نصنع شيئاً جميلاً للشعر الجميل علَّنا نطرحُ أسئلةً و نجيب عليها ، علَّنا نعيدُ الشعرَ و الشعراءَ المتلقين إلى الخميلة الجميلة .
إنَّ المشهد الثقافي بشكل عام و المشهدَ الشعريَّ بشكلٍ خاص يعاني من ضيقٍ النوافذِ و اتساع فتحات الأبواب ذائقةُ الشعر بدَتْ جريحة و منزوية فهناك طلاسم و إلغاء و تكفير و شلل ، الشعر توجعه القطيعة و تؤلمه الادِّعاءات . فرَوْضُ الشعرِ لم يكنْ و لن يكون في يومٍ ما على درجة واحدة من الخصوبة و الخضرة و العطاء و ليسَ بقادر على استقطاب الجميع . توقَّفَ الكثيرون عن التغريد و التحليق و امتنع بعضُهم عن إبداء الرأي ، و انفضَّ الحضورُ فأضحت المراكز و الملتقيات شبه فارغة و لم يسعَ أحدٌ لدراسة الحالةِ و معرفةِ الداءِ و العلاج حُرِمَ عشَّاقُ الشعرِ من نعمةِ الشعرِ و الحوارِ و التأمل ، و ذاق الشعرُ مرارةَ الهجرِ فكثرت الأسئلة في النفس و غابَ السؤال العلنيُّ الجريء.
نعم ، الشعرُ في ورطةٍ قلْ في أزمة . فموائدُهُ خواءٌ ، و لذيذها نادرٌ . و ضيوفُها يعُدَّون على أصابع الكفين فقد تخلَّينا عن الأبهى و الأنقى و الأرحب عادَيْنا الذائقة الرفيعة و الحسَّ الدافئ و رحلْنا إلى مرافئ بعيدة و عجيبة ، و نحنُ لا نعرِفُ أغوارها. استسلمنا إلى لصوصِ البحرِ و التهويمات ، فثُقِبَتْ مراكبنا و رحْنا نغوصُ في بحارٍ غريبةٍ و نحن لا نعرف فنَّ العوم فجاءَنا شعرٌ بلا هوِّيَّةٍ و لا حسٍّ . جاءَنا بالتالفِ من المفردات و المبرقع من الجمل تحدَّى سياق الجملة العربية الشعرية الأنيقة فتقَّطعَتْ أواصره ، و بدا لقيطاً ، راح يبني عرشَهُ علبى أرضٍ إسفنجيَّةٍ . جدرانهُ من القطن ، و سقْفُهُ غربالٌ واسعُ الثقوب جاءَ بأمزجةٍ صداميةٍ فغاب عنّا صفاء الشعريَّة و عفويَّتُها و صنْعَتُها المتْقَنَةُ.
هذه الصورة تبدو مأساويّةً و تراجيديّةً ، ونكبَتْ بها مملكة الشعر و عادَتْ بحاجةٍ إلى غرفِ الإنعاشِ و إكسير الحياة .
الشعرُ الحقيقيُّ على مختلفِ أشكالِهِ و أصنافِهِ أقوى من هذه الهلوساتِ ، و أبلغُ من هذا الشَّطَطِ الصافع للذوق و الشاعر الحقُّ يبحث عن نوافذ يطلُّ منها على عشّاقه و يستمدُّ منها الرمقَ و الهواء و النورَ … الشاعر الحقُّ يعرف مالَهُ و ما عليه و يدرك ماهِيَة الشعرِ الحقيقي ، يعي تجربته يخدمُها و يطوِّرها يمدُّ الجسورَ ، يؤمن بتعدُّد الأطياف التي تشكل اللوحة الأبهى ، يؤمن بقدرة النص على تجاوز الآخرين و يؤمن بفتنة النص الآسرةِ .
هي دعوة لغربلة الإبداعِ و نخله . دعوةٌ لإبعاد الطفيليِّ الشاذّ …