العدوان الثلاثى على مصر
1956
ومذكرات سامى شرف
0000000
الكاتب: سامي شرف
بقلم : سامي شرف
تكاثرت نذر الحرب وبدا جليا أن كلا من بريطانيا وفرنسا تعملان فقط على كسب الوقت، ومن ثم أصبحت احتمالات الصدام العسكرى تفوق بكثير فرص التسوية السلمية وبخاصة بعد الموقف الذى أظهره مندوبا الدولتين فى مجلس الأمن وحرصهما على تعويق أى محاولة للخروج من المأزق ونزع فتيل الأزمة .
فى الثامن والعشرين من أكتوبر1956 ـ أى قبل وقوع العدوان بيوم واحد ـ وردت معلومات مؤكدة عن اعتزام إسرائيل شن هجوم عسكرى على مصر، وقد تجمعت هذه المعلومات من عدة مصادر على النحو التالى :
السفير عبد الحميد غالب سفير مصر فى بيروت .
القائمقام ثروت عكاشة الملحق العسكرى المصرى فى باريس .
القائمقام طيار مصطفى مرتجى الملحق العسكرى المصرى فى روما .
البكباشى زكريا العادلى إمام الملحق العسكرى المصرى فى تركيا .
القائمقام إسماعيل صادق والصاغ محمد المصرى ( مساعدى فيما بعد للشئون العربية ) الملحقين العسكريين فى ليبيا .
منظمة " أيوكا " (حركة التحرر الوطنى فى قبرص ) بتعليمات من الأسقف مكاريوس شخصيا .
المجموعة 88 من جهاز المخابرات العامة المصرية وكان يرأسها فى ذلك الوقت كمال رفعت .
المجموعة33 من جهاز المخابرات العامة المصرية .
مجموعة الخدمة السرية من جهاز المخابرات العامة المصرية .
المكتب الثانى السورى .
المكتب الثانى اللبنانى .
قرر الرئيس عبد الناصر إبلاغ هذه المعلومات للقيادة العسكرية ، كما وجه احتياجات للمخابرات الحربية لمعرفة أحدث أوضاع للقوات المسلحة الإسرائيلية، وهل هناك حشود على الجبهة المصرية أو أية تحركات عسكرية ملفتة ، وكان رد المخابرات الحربية يؤكد أن الوضع عادى ، ولا يتضمن أية مؤشرات بالهجوم ، وفى الحقيقة كانت وسائل الاستطلاع المتاحة فى تلك الفترة ضعيفة وقاصرة ، وترتكز فقط على العنصر البشرى والأساليب اليدوية باستخدام المندوبين والعملاء .
ولم تكن المخابرات العامة قد تمكنت بعد من توفير مصادر جيدة فى داخل إسرائيل باستثناء مصدر واحد رئيسى هو رفعت الجمال ( رأفت الهجان ) ، وكان ما زال فى دور الإعداد ومرحلة التعرف على المجتمع الإسرائيلى ، ولم يثبت أقدامه بعد فى الميدان ، بينما كان أحد ضباط المخابرات العامة وهو إبراهيم بغدادى ( من الضبط الأحرار والمحافظ فيما بعد ) قد استخدم صحفيا مصريا يدعى إبراهيم عزت من مجلة روزاليوسف تمكن من إدخاله إلى إسرائيل فى عملية مخابراتية بغرض الحصول على المعلومات ، ولم يستطع إبراهيم عزت العودة إلا بعد انتهاء العدوان الثلاثى وعن طريق باريس . وبالمناسبة تشير بعض الكتابات إلى أن هذه العملية كانت أول اتصال أو تطبيع مع إسرائيل ، وهو ما يخالف الحقيقة حيث أن عملية إبراهيم عزت كما قلت استهدفت فقط الحصول على المعلومات لصالح المخابرات العامة، وبتكليف واضح منها، ولم يكن لها أى بعد سياسى ولا تستند إلى قرار رئاسى حتى من رئاسة الجهاز نفسه !.
وكان جمال عبد الناصر يتبنى نظرية يقوم بتدريسها فى كلية أركان حرب تعتبر أن غزة هى المدخل السهل والمباشر لأى عمل عسكرى من جانب إسرائيل ، ومع اقتراب وتجمع مؤشرات العدوان حذر عبد الناصر من الهجوم على غزة وطالب بتأمينها وأعتبر أن اختراقها يعد مسألة حياة أو موت للقوات المصرية ، كما وجه إنذارا للقوات الجوية بتنفيذ خطة الانتشار فى حالة ثبوت التفوق الجوى الإسرائيلى وذلك بالتوجه للسعودية تنفيذا للاتفاقيات السابقة مع المسئولين فيها ، أو إلى بعض مطارات جنوب الوادى ، وبما أن مطارات جنوب الوادى لم تكن مهيأة إلا لاستقبال الطائرات الصغيرة فقد كان الانتشار الأساسى يجب أن يكون فى الأراضى السعودية، لكن هذا الإجراء لم يتخذ للأسف ! .
وسوف أعود لهذه النقطة مرة أخرى .
صباح يوم 29أكتوبر 1956 أصدر الرئيس جمال عبد الناصر توجيهات بانتشار جميع الأجهزة الحساسة والسيادية لتحتل أماكن تبادلية وعدم التجمع فى مكان واحد ، وقد جرى بالفعل توزيعها على أكثر من موقع؛ فانتقلت القيادة العامة للقوات المسلحة إلى مبنى تبادلى فى حديقة الزهرية بالزمالك أمام نادى ضباط الشرطة ، وانتقل مكتب الرئيس للشئون السياسية وسكرتارية المعلومات إلى المبنى الجديد الذى تشغله حاليا وزارة الحكم المحلى، وهو مبنى تم تجهيزه ضد الزلازل وضد القنابل الثقيلة كما يتوفر فيه ملاجئ وخزائن حديدية تحت الأرض وكان مقرا مناسبا تماما .
أما مقر مجلس قيادة الثورة فقد كان مقرا تبادليا للقيادة السياسية رغم اعتراض زكريا محى الدين وعلى صبرى وسامى شرف حيث كانت وجهة نظرنا أنه هدفا مكشوفا واضحا ، ولكن عبد الناصر أعرب عن تفاؤله و اعتزازه بهذا المبنى وأنه يعتبره حافزا لدفع المعنويات، وأنه قد شهد صدور القرارات المهمة الكبرى فى تاريخ مصر الثورة ، وقد تم تركيب شبكة اتصالات كاملة وتبادليات بين هذه المواقع وبعضها .
فى نفس اليوم 29أكتوبر1956 وقعت أول غارة بالهجوم على غزة كما حذر الرئيس جمال عبدالناصر، والذى كان وقتها هو فى منشية البكرى فى اجتماع مع مبعوث إندونيسى لتسليمه رسالة من سوكارنو .
كان الاتفاق السرى إنجليزى / فرنسى / إسرائيلى ـ كما تكشف ذلك فيما بعد ـ قد تم فى "سيفر"* ورقتين وقعهما ديفيد بن جوريون عن إسرائيل وكريستيان بينو عن فرنسا وباتريك دين عن بريطانيا؛ وينص الإتفاق على أن تقوم إسرائيل ببدء الحرب مساء يوم 29أكتنوبر1956 وان تتدخل بريطانيا وفرنسا للفصل بين المتحاربين والسيطرة على قناة السويس .
وقد استهدف التدخل الإسرائيلى فى العملية تحقيق ما يلى :
تحطيم القدرة العسكرية المصرية . إجبار المصريين على إدراك أن إسرائيل لا تقهر .
القضاء على الفدائيين المصريين بتدمير قواعدهم فى سيناء وغزة .
إجبار مصر على قبول مرور السفن الإسرائيلية عبر قناة السويس ومضيق تيران .
تعديل رفض مصر المستمر للجهود الإسرائيلية من أجل التسوية السلمية بينهما .
فى مساء يوم 29أكتوبر1956 صدرت التعليمات بتنفيذ خطة الحرب ، وبدأ الهجوم على غزة فتم اجتياحها، كما احتلت القوات الإسرائيلية ثلاث مواقع فى الكونتلا ورأس النقب ونخل ، ولم يتوفر حتى اليوم معلومات دقيقة عن حقيقة ما حدث فى هذا الهجوم، بل وقد لوحظ اختفاء يوميات الحرب المتعلقة بهذا اليوم حسب علمى .
وفى يوم 30أكتوبر1956 تعرض مطار ألماظة الحربى لهجوم جوى ، ورفض عبد الناصر انتقال عائلته إلى منزل بديل فى الزمالك كان تابعا للمخابرات أو إلى منزل آخر فى المرج ، واخذ هو يتنقل ما بين مبنى مجلس الوزراء ومجلس قيادة الثورة بالجزيرة، ومبنى القيادة العامة للقوات المسلحة فى حديقة الزهرية ، وفى الأخير اطلع على الموقف وسير العمليات الحربية ، كما تم ترتيب إقامة شبه دائمة له فى مبنى مجلس قيادة الثورة بالجزيرة وتولى إدارة الأزمة من هناك مكتفيا بالتواجد فى مجلس الوزراء خلال اللقاءات الرسمية فقط .
فى مجلس الثورة تم تخصيص أول غرفة فى الدور الثانى للرئيس وهى تطل على النيل وعلى فندق شيراتون الجزيرة الحالى ، وغرفة ثانية خصصت كصالون ومكتب وغرفة تابعة لمحمد أحمد السكرتير الخاص، أما الغرفتين الرابعة والخامسة فكانتا لأعضاء مجلس قيادة الثورة، الذين كانوا يتواجدون فى المبنى ، ويضاف إلى ذلك غرفتى نوم كان الرئيس يقضى فترة الراحة بعد الظهر فى إحداهما، وكان الجناح المقابل والذى يطل على الشارع فكانت تشغله العيادة والأرشيف وضباط الحراسة، وبعض المكاتب الاحتياطية لسكرتارية المعلومات والسكرتارية الصحفية، وسكرتارية أعضاء مجلس قيادة الثورة عند اللزوم .
فى صباح 30أكتوبر1956 عقد اجتماع فى لندن ضم كل من رئيس وزراء بريطانيا أنتونى إيدن ووزير خارجيته سيلوين لويد ورئيس وزراء فرنسا جى موليه ووزير خارجيته كريستيان بينو تمهيدا لتوجيه الإنذار وفق الخطة المرسومة ، وفى نفس الوقت بدأت إسرائيل فى إسقاط بعض وحدات المظلات فى منطقة المضايق فى سيناء مما دعى إلى عقد اجتماع برئاسة جمال عبد الناصر فى القيادة العامة للقوات المسلحة شارك فيه قادة الأسلحة البرية والجوية والبحرية، وكان من رأى الرئيس استخدام القوات الجوية المصرية لوقف تقدم العدو فى سيناء ، ولكنه فوجئ بارتباك قائد القوات الجوية الذى أشار إلى وجود صعوبات تحول دون تنفيذ هذه الخطة بسبب نقص الوقود فى مطار غرب القاهرة الذى يمثل القاعدة الجوية الرئيسية فى ذلك الوقت .
فى ظهر نفس اليوم 30اكتوبر 1956 صدر الإنذار البريطانى الفرنسى*، وكان يطلب من كل من مصر وإسرائيل وقف إطلاق النار وسحب قواتهما خلال اثنى عشر ساعة إلى مسافة تبعد عشرة أميال شرق وغرب قناة السويس ـ ولم تكن إسرائيل حتى هذا التاريخ قد وصلت إلى قناة السويس ، وبدا الإنذار كما لو كان دعوة لإسرائيل للتقدم نحو القناة ـ وأضاف الإنذار أن تقبل مصر بوجود قوات مشتركة للدولتين فى منطقة القناة ومدن بور سعيد والإسماعيلية والسويس لحماية الملاحة فى القناة وإلا ستضطر الدولتان للتدخل بالقوة المسلحة.
كان الرئيس جمال عبد الناصر فى ذلك الوقت ـ وكانت الساعة حوالى الثانية عشر ظهرا موجودا فى مبنى مجلس الوزراء وكنت أنا متواجدا مع على صبرى فى مكتبه فى الدور الثانى وسمعت صوت التليفون المباشر بين على صبرى والرئيس ـ كان نوع من الديكتافون يسمعه من فى الغرفة إلا إذا رفعت السماعة فيصبح الحديث قاصرا على المتكلمين فقط ، وقال الرئيس : " يا على الدكتور فوزى حايبعت دلوقتى رسالة إستلمها من السفير البريطانى " .
وبعد وصول الرسالة طلب الرئيس عقد اجتماع سريع وطلب الرأى والدراسة ، وبدأ أعضاء مجلس قيادة الثورة يتوافدون على مجلس الوزراء حيث حضر عبد الحكيم عامر ثم صلاح سالم ـ وكان قد تم إبلاغ عبد الحكيم عامر بأمر الإنذار تليفونيا ـ كما حضر عبد اللطيف البغدادى وحسين الشافعى وزكريا محى الدين وكان موجودا أيضا الدكتور أحمد ثروت الطبيب الخاص للرئيس .
لم يبد الدكتور فوزى أى رأى فى الإنذار لا بالقبول ولا بالرفض، وكان الاتجاه العام لدى الحاضرين هو الرفض وإن اختلفت وسيلة الرفض؛ هل يغلق المظروف ويرد إلى السفارة البريطانية ؟ أم يقوم الدكتور فوزى باستدعاء السفير البريطانى ويوجه إليه رفضا شديد اللهجة ؟ .
ولكن ما أن دخل صلاح سالم المكتب حتى فاجأ الرئيس والحاضرين جميعا بأن خلع غطاء الرأس الخاص به ( الكاب ) ، ووجه كلامه لعبد الناصر قائلا :
" يا ريس أحسن حاجة نستسلم ، وأنا لو منك أروح أسلّم نفسى للسفارة الإنجليزى !!" . فضحك جمال عبد الناصر والتفت إلى الدكتور أحمد ثروت ـ طبيب الرئاسة ـ قائلا :
" ياثروت إديله حقنة تهديه" .
فرد صلاح سالم :
" يا ريس أنا أعنى هذا الكلام ، إحنا مش قد الإنجليز والوضع الطبيعى أن نسلم أنفسنا وإنت ياريس عليك أن تروح وتقابل السفير الإنجليزى وتطلب منه المعذرة !! " .
فرد عليه عبد الناصر بعنف ووصفه بالجبن ، وفى لحظة الانفعال المتبادلة بين الاثنين دخل أحد السفرجية حاملا صينية عليها القهوة فأمره صلاح سالم أن يسلمه ملابسه المدنية، وقام صلاح سالم بلبسها وتقدم من الرئيس قائلا :" السلام عليكم يا ريس أنا مسافر السويس وسأقاتل من هناك !"، وفعلا غادر المكان وركب سيارته واتجه إلى السويس وانضم للمقاومة الشعبية فى السويس، وقام بالفعل من هناك بالتنسيق مع عناصر المقاومة فى تنفيذ أول عملية لإغراق سفينة محملة بالأسمنت بهدف تعطيل الملاحة فى قناة السويس .
بعد مغادرة صلاح سالم تم الاتفاق بالإجماع على رفض الإنذار ، كما اتفق على تسليم الرد بأسلوب بعيد عن العصبية وهو أن يقوم وزير الخارجية محمود فوزى باستدعاء السفير البريطانى ويبلغه برفض الإنذار**.
رفضت إسرائيل بدورها الإنذار لأنها كانت قد بدأت العمليات العسكرية وفق مخطط سبق الاتفاق عليه مع البدين بريطانيا وفرنسا ، وكان الهدف هو تمكينها من تحقيق أهدافها .
ولابد أن أشير هنا إلى أنه عندما وقعت الغارة الجوية على مطار ألماظة يوم30اكتوبر1956 أدرك الرئيس عبد الناصر أن هناك معركة تستهدف إسقاط النظام، وليس مجرد إلغاء قرار التأميم أو فرض السيطرة على قناة السويس، فحجم العمليات العسكرية وما صاحبها من تحركات فرنسية بريطانية معلنة – حتى قبل وصول الإنذار ، كانت تؤكد أن الهدف النهائى هو إسقاط نظام ثورة 23يوليو .
ففى 30 اكتوبر1956 تقدمت مصر بشكوى إلى مجلس الأمن الدولى تشير إلى العدوان الإسرائيلى، وما أعقبه من إنذار بريطانى فرنسى ، وتقدمت الولايات المتحدة الأمريكية بمشروع قرار يدعو إلى وقف القتال فورا بين مصر وإسرائيل وانسحاب الأخيرة إلى خط الهدنة، ومطالبة جميع أعضاء الأمم المتحدة بالامتناع عن استخدام القوة أو التهديد بها فى منطقة النزاع، وتجنب تقديم أى مساعدات لإسرائيل ما لم تمتثل للقرار .
فى اليوم التالى قدم الاتحاد السوفيتى مشروع قرار آخر لمجلس الأمن يتطابق والمشروع الأمريكى ، لكن بريطانيا وفرنسا استخدمتا حق الاعتراض ( الفيتو ) لإفشال التوصل إلى قرار بل وتقدمت فرنسا بمشروع قرار مضاد يدين مصر لمساعدتها الثورة الجزائرية . ودفع هذا التطور بداج همرشولد السكرتير العام للأمم المتحدة إلى عرض استقالته من منصبه احتجاجا على التدخل البريطانى الفرنسى السافر ضد مصر ، وألقى بيانا يدين فيه الدولتان وأنهما تسببتا فى ضياع الجهود التى تبذل لوقف إطلاق النار أو لإقرار مبادئ التفاوض حول مشكلة قناة السويس نتيجة توجيه الإنذار، وطالب الدول الأعضاء باحترام ميثاق الأمم المتحدة لكن لم تتم الموافقة على استقالته، وكان ذلك تعبيرا عن التضامن مع مصر ورفض العدوان عليها .
دفعت هذه التطورات بالرئيس جمال عبد الناصر لإعادة تقييم الموقف، وكان قراره هو رفض إتاحة الفرصة لهذه القوى لتحقيق أهدافها بأية صورة والحرص على استمرار الثورة مهما كلف الأمر ، وكانت حسابات القوة التى يرتكز عليها تشمل القوات المسلحة المصرية وقدرتها على الصمود فى مواجهة العمليات المنتظرة ، والجبهة الداخلية وتماسكها إلى جانب الدعم العربى الواسع وخاصة من جانب القوى الوطنية الشعبية والحاكمة فى كل من سوريا ولبنان والأردن والسعودية .
وعندما بدأت العمليات أجرى جمال عبد الناصر تقييمه السريع للموقف العسكرى و خرج بنتيجة سلبية حيث أدرك أن القوات المصرية لا يمكنها مجابهة العدوان ووقفه؛ فانتقل إلى بديل آخر هو المقاومة الشعبية بأبعادها المسلحة والإعلامية، وعمل على أن تمتد أيضا إلى صعيد مصر كله فى شكل مظاهرات واحتجاجات ، ومن هنا جرى التفكير فى توزيع السلاح على الشعب المصرى باعتبار أنه فى حالة وقوع هزيمة عسكرية ودخول قوات الاحتلال إلى القاهرة فيجب أن تدفع ثمنا غاليا .
بدأ الرئيس فى اتخاذ سلسلة من القرارات الهامة :
جاء أولها من منطلق حساباته العسكرية لأهداف العدوان، والتى أدرك من خلالها أن القوات المعتدية تعمل على تطويق الجيش المصرى فى سيناء عملا على إبادته ، وكان أسلوب القيادة العسكرية فى إدارة المعركة يساعد على ذلك برغبتها فى تحقيق انتصار سريع مما دفعها إلى تحريك قوات كبيرة إلى سيناء و جعلها هدفا سهلا للغارات الجوية وأوقع فى صفوفها خسائر كبيرة ، ومن ثم فقد تدخل عبد الناصر وأصدر قراره بسحب القوات المسلحة المصرية من سيناء إلى غرب القناة؛* تفاديا لمزيد من الخسائر التى ستنجم حتما عن وقوعها بين حصار القوات الإسرائيلية من الشرق والقوات البريطانية والفرنسية التى أسقطت جوا فى منطقة قناة السويس غربا، وكان قرارا سياسيا ناجحا بكل المقاييس ساعد على حماية الجيش المصرى وإفشال أهداف القوى المعتدية .
كان القرار الثانى هو تصعيد المقاومة الشعبية؛ ففى أول يوم للعمليات العسكرية البريطانية الفرنسية المشتركة ، أصدر تعليمات بفتح كل مخازن الأسلحة والذخيرة الموجودة فى القاهرة، وتم شحنها فى مئات اللوارى التى انتشرت فى أحياء القاهرة وبعض المحافظات القريبة مثل القليوبية والغربية والشرقية والجيزة . . الخ .
كما أصدر الرئيس جمال عبد الناصر توجيهات بإعداد مقر احتياطى لرئاسة الجمهورية فى أسيوط بحيث يتم الانتقال إليه فى حالة نجاح العدوان باحتلال الدلتا كما كانت تنص على ذلك الخطة " روديو "، والتى سبق أن حصلنا عليها من أرشيف سرى خاص بداخل مبنى الكنيسة الإنجليزية فى قصر النيل فى نهاية 1954، وكانت ترتكز على إعادة احتلال القوات البريطانية للجمهورية عندما تقتضى الضرورة ذلك . . كما أصدر توجيهاته بتعزيز التسليح والتحصينات فى باقى المحافظات . . . ، وكانت كلمة السر لعملية توزيع السلاح هى " حنحارب " .
شمل توزيع السلاح جميع أفراد الشعب مهما اختلفت مشاربهم، ولم يسأل أى فرد عن هويته أو انتمائه السياسى أو العقائدى عند تسليمه السلاح، وكان يصحب عملية التسليح فقط التوعية بتعليمات الأمان فى التعامل مع السلاح . . وتم بالفعل توزيع ما يقرب من مليونى قطعة سلاح .
فى نفس الوقت شارك متطوعين من كافة شرائح المجتمع من ضباط وجنود جيش إلى ضباط وجنود من الشرطة إلى المتطوعين المدنيين منهم المحامين والأطباء والمهندسين ورجال الدين الإسلامى والمسيحى والشباب من عناصر الفتوة بنين وبنات وطلبة الجامعات والمعاهد والمدارس الثانوية والعمال والفلاحين . . .
كانت الروح الوطنية تشكل نسيجا بديعا يجمع كل هؤلاء . . وأود أن أشير باعتزاز وفخر إلى أنه بعد أن هدأت الأمور، وتم جلاء القوات البريطانية والفرنسية أمكن جمع كل الأسلحة بالكامل دون أن ينقص منها قطعة واحدة اللهم إلا الأسلحة التى استخدمت داخل بور سعيد نفسها وهذه أيضا لم يفقد منها إلا القليل جدا .
كانت المقاومة فى منطقة القناة تعمل وفق تنظيم محكم تحت إشراف الرئيس، وتولى القيادة المباشرة كل من زكريا محى الدين وكمال الدين حسين وصلاح سالم يعاونهم على سيبل المثال لا الحصر كل من:
كمال الدين رفعت – عبدالفتاح أبو الفضل – سعد عفرة – محمد فائق – سمير غانم – لطفى واكد – محمود حسين عبدالناصر – فريد طولان – صلاح الدسوقى ومجموعة من ضباط الشرطة – بالإضافة إلى مجموعة من ضباط الصاعقة المصرية منهم جلال هريدى – احمد عبدالله – حسين الفار- وآخرين . . . إلى جانب العديد من العناصر المدنية وكان من ضمنهم سيدات مثل أمينة شفيق من جريدة الأهرام التى سافرت إلى بور سعيد بصحبة بعض السيدات وقد دخلنها فعلا عن طريق التسلل عبر بحيرة المنزلة .
عندما اشتعلت المقاومة فى بورسعيد اتخذ جمال عبد الناصر قراره بالذهاب شخصيا إلى المدينة الباسلة للإطلاع بنفسه على ما يجرى فيها، ولكن كل المحيطين به أعربوا عن اعتراضهم على هذا القرار حرصا عليه، وما أذكره الآن أنه أثناء قيامى بعرض تقرير المعلومات عليه فى مبنى مجلس قيادة الثورة وكنا ساعة المغرب تقريبا لاحظت أنه يجرى إعداد بعض السيارات تساءلت عن السبب فجاءنى الرد أن الرئيس متوجه إلى منطقة القناة، ولما دخلت مكتب الرئيس قال لى أنا رابح أشوف بنفسى ماذا يجرى هناك ولا أعرف إن كنت سأشاركهم المقاومة، وهو ما أتمناه أم سأضطر للعودة ؟ .
وعلمت أن كلا من عبد اللطيف البغدادى وزكريا محى الدين وحسين الشافعى سيرافقون الرئيس، وكان موقف صلاح سالم قد استقر فى مدينة السويس و كمال الدين حسين يتولى المقاومة فى الإسماعيلية . . . تحركت السيارات فعلا حوالى الثامنة والنصف مساء وعدت إلى مكتبى فى مبنى مجلس الوزراء وقد وصل الرئيس إلى مدينة الإسماعيلية حيث قابله كمال الدين حسين وكمال الدين رفعت اللذان اعترضا على قرار الرئيس وعملا على إثنائه عن مواصلة السفر إلى بور سعيد وقالا له : " إحنا المسئولين عن هذا الخط، وأنه من الخطر التقدم بعد الإسماعيلية، ومن رأينا أن تعود إلى القاهرة حيث أن قيادتك من هناك أجدى بكثير من تواجدك فى رقعة ضيقة من أرض المعركة التى هى أرض مصر كلها والعالم العربى كله، وأن وسائل الاتصال هنا تكاد تكون معدومة كما أنه لا يوجد أى وسائل للإعلام، وأن وجودك هنا يعد خطأ على المستويين التكتيكى والإستراتيجى" ، شارك الحاضرون فى هذه المناقشات واستقر رأيهم على ضرورة عودة الرئيس إلى القاهرة وعاد بالفعل بعدما اقتنع بوجهة نظرهم .
صاحب المقاومة المسلحة حركة مقاومة إعلامية نشطة شارك فيها جميع الصحفيين والأدباء ورجال الإعلام والفنانين والمبدعين . . تطوعوا من تلقاء أنفسهم كل يعرض إمكانياته واستعداده للمشاركة فى هذه المعركة الوطنية .
كانت مؤسسة روزاليوسف بمثابة بؤرة للنضال الوطنى، ومصدر إشعاع خطير للغاية الكل يعمل . . والكل يبدع . . والكل يبدى أفكارا تصب فى إذكاء المعركة كان هناك صلاح جاهين وصلاح حافظ وحسن فؤاد وأحمد حمروش وفتحى غانم وأحمد بهاءالدين وعبدالغنى أبو العينين ومحمود المراغى وجمال كامل ومنير عامر ونجاح عمر ومديحة يشاركهم منير حافظ وإبراهيم بغدادى وآخرين من الأبطال الذين قد لا تسعفنى الذاكرة الآن بأسمائهم هذا بخلاف مجموعة العمال الذين كانوا يعملون فى المطابع وعلى رأسهم عم حسن وعمال التوزيع الخ ، وكانت هناك مثلها فى وكالة أنباء الشرق الأوسط، وبؤرة ثالثة فى مصلحة الاستعلامات التى كانت منشأة حديثا، ورابعة فى الصحف اليومية الأهرام والأخبار والجمهورية والإذاعة المصرية وصوت العرب . .
علاوة على عناصر عديدة يصعب إحصاؤها أو تفضيل واحد منها على الآخر . . لم يتخلف أحد وكل منهم أعطى ربما بما يفوق طاقته فى التحرك داخليا أو خارجيا مع الأصدقاء والمؤسسات ، وعلى سبيل المثال فقد تم إيفاد الصحفى مصطفى أمين إلى بيروت حيث اصطحب معه سعيد فريحة الصحفى اللبنانى المشهور بحبه لمصر وثورة يوليو – واتجها إلى لندن لمخاطبة الرأى العام البريطانى، ودحض ما تدعيه وسائل الإعلام هناك ضد مصر . . وتم أيضا إيفاد عناصر أخرى إلى فرنسا وإيطاليا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية، والبعض منهم سافر على نفقته الخاصة . . . وكانت إذاعة صوت العرب بجميع كوادرها ، وصوت أحمد سعيد يحرض ويجمع أبناء الأمة العربية من القاهرة وباقى الإذاعات الموجهة وإذاعات الدول العربية شعلة لا تنطفئ من الوطنية والقومية العربية المتضامنة مع القضية المصرية .
تصادف أن تعرضت هوائيات الإذاعة المصرية فى أبو زعبل للقصف الجوى صباح يوم الأول من نوفمبر1956، وأدى ذلك إلى انقطاع الإرسال الإذاعى ، وكان الرئيس جمال عبد الناصر متواجدا فى مكتبه بمجلس الوزراء وقرر أن يؤدى صلاة الجمعة بالجامع الأزهر الشريف . .
طلبنى الرئيس بعد أن أبلغته بضرب هوائيات الإذاعة المصرية وقال : " تقدروا يا سامى تشغلوا الإذاعة على الأقل فى حدود دائرة مدينة القاهرة ؟
فقلت : " يا أفندم ما أقدرش أعطى سيادتك رد إلا بعد إجراء بعض الاتصالات مع الفنيين فى الإذاعة وعموما سيادتك إدينى دقائق لمعرفة الموقف بالضبط . . .
قال الرئيس : " يا سامى حانصّلىالجمعة فى الأزهر إنشاء الله . . . شد حيلك . . " .
بعد اتصالات تليفونية فورية مع الفنيين حضر إلى مكتبى على عجل كل من محمد أمين حماد مدير الإذاعة والمهندسين عزالدين فريد و فاروق عامر و محمد الشافعى والمذيع فهمى عمر، ثم جاء بعد قليل جلال معوض، وأبلغونى أنه يمكن البث قبل صلاة الجمعة بشرط توفير خطوط تليفونية بشكل فنى معين لو أمكن ترتيبه مع مصلحة التليفونات بصفة عاجلة ، أما عن الهوائيات فجارى بالفعل إصلاح بعضها بما يؤدى لاستمرار الإذاعة فى حدود دائرة مدينة القاهرة .
وبالفعل اتصلت بالدكتور محمود رياض مدير التليفونات ولما أبلغته بالمطلوب قال لى أنه توقع مثل هذا الأمر فأرسلت له على الفور المهندس عز الدين فريد لمقر المصلحة فى شارع رمسيس لإنهاء الترتيبات الفنية، وقد اكتشف أن هناك خط تليفونى بين أبو زعبل ودار الإذاعة فى شارع الشريفين لم يتعرض للتلف، وتم الاستفادة بهذا الخط وكان على الجانب الآخر فى محطة أبو زعبل المهندسين صلاح عامر والجارحى القشلان اللذين أمكنهما بالتنسيق مع زملائهم الآخرين من تفعيل الخطين الآخرين اللذين أمكن ترتيبهما فى مكتبى من خلال مصلحة التليفونات وتحويلة تليفونات مجلس الوزراء، وفى خلال ساعة ونصف أو يزيد قليل ، أمكن استئناف إرسال الإذاعة فى دائرة قطرها عشرين كيلومترا .
ونفذت أول تجربة . . تكلم من خلالها لأول مرة منذ انقطاع الإذاعة فهمى عمر مرددا " هنا القاهرة " ثم توجه مع زميله جلال معوض إلى الجامع الأزهر الشريف لإجراء التجارب والاستعداد لاستئناف الإرسال الإذاعى من هناك تمهيدا لإذاعة صلاة الجمعة منه .
عملنا بعد ذلك كإجراء احتياطى على اختبار قوة الاستماع فطلبت مفتش المباحث لمدينة القاهرة اللواء يوسف القفاص الذى عمل على تكليف ضباط الإدارة فى جميع أقسام القاهرة بالتبليغ عن قوة الاستماع والوضوح لإذاعة القاهرة التى تبث من مكتبى بمبنى مجلس الوزراء ومن الجامع الأزهر الشريف . أثناء المكالمة هذه اتصل أحد ضباطه به مبلغا إياه أن الإذاعة عادت للإرسال وأن فهمى عمر يقول هنا القاهرة ويردد أناشيد وطنية .
توجهت إلى مكتب الرئيس عبد الناصر وأبلغته بالنتائج التى وصلنا لها وتمام استئناف الإذاعة ، فأعرب عن سعادته وامتنانه لكل من شارك فى هذا العمل، وكان احمد سعيد مدير صوت العرب قد لحق بالمجموعة المتواجدة فى مكتبى فور أن سمع " هنا القاهرة " وانضم لفريق العمل من المذيعين والفنيين .
بقى طاقم الفنيين بمكتبى للإشراف على التجهيزات الفنية والعمل على تقويتها بواسطة بعض الأجهزة التى أمكن الحصول عليها من مخازن الإذاعة والتليفونات وذلك حتى عودة الرئيس جمال عبد الناصر ومخاطبته الشعب المصرى والعالم أجمع من خلال الإذاعة ووكالات الأنباء التى نقلت عن الإذاعة معلنا من فوق منبر الجامع الأزهر الشريف : " الله أكبر . . ـ التى قيلت لأول مرة سنة 1956 من فوق منبر الجامع الأزهر الشريف ـ سنقاتل . . . سنقاتل . . ولن نستسلم . . "
بدأ العمل بعد ذلك مباشرة لترتيب استئناف إرسال الإذاعة على مستوى الجمهورية وخارجها من أبى زعبل .
وكانت عملية تشرفت كثيرا بتلقى التكليف بها وبإنجازها من خلال جهد جماعى من كل رجال الإذاعة المصرية من فنيين ومهندسين ومذيعين كانوا كلهم بدون استثناء على مستوى المسئولية .
وكانت إذاعة " أم كلثوم " منذ ذلك اليوم ، و التعليمات التى صدرت بإستمرارهذه الإذاعة كانت صارمة حول بث أغانى السيدة أم كلثوم وحدها فقط ولمدة خمسة ساعات يوميا تبدأ من الخامسة وحتى العاشرة مساء .
ووسط هذه الصفحة الناصعة البياض والمشرفة من تاريخ النضال المصرى ظهرت نقطة سوداء وضعتها مجموعة من السياسيين القدامى الذين عقدوا اجتماعا ضم عناصر من أحزاب الوفد والسعديين والأحرار الدستوريين والإخوان المسلمين ، وكان معهم سليمان حافظ الذى كان نائبا لرئيس مجلس الوزراء ووزيرا للداخلية فى بداية الثورة، وكان من قبل نائبا لرئيس مجلس الدولة – وقد قرروا فى نهاية اجتماعاتهم إعداد رسالة موجهة للرئيس جمال عبد الناصر، وبقيت أمامهم مشكلة من الذى يسلم هذه الرسالة للرئيس جمال عبدالناصر . .
فى يوم الجمعة 2نوفمبر1956 أوفد المستشار سليمان حافظ زوج ابنته الضابط عبد اللطيف الرافعى لمقابلة صلاح نصر مديرا مكتب القائد العام للقوات المسلحة فى ذلك الوقت، يطلب سليمان حافظ فى رسالته تدبير لقاء فورى بين الرئيس حمال عبد الناصر وسليمان حافظ لأمر بالغ الخطورة . فقام صلاح نصر بتكليف من الرئيس بمقابلة سليمان حافظ ليستطلع منه شخصيا عن أسباب طلبه اللقاء ، وفهم منه أن الرسالة تخص الأحداث المتعلقة بالوضع المترتب على العدوان الثلاثى ، وأن هناك اقتراحات بتنحى القيادة السياسية الحالية عن مسئوليتها لإنقاذ مصر من الدمار الذى ستتعرض له وكرر طلبه مقابلة الرئيس .
كانت تحركات واتصالات سليمان حافظ وغيره من السياسيين القدامى مرصودة بالطبع فى تلك الفترة – ولما أبلغ صلاح نصر رسالة سليمان حافظ للرئيس رفض مقابلته وكلف عبد اللطيف البغدادى بمقابلته ، ولما بلغ صلاح نصر الضابط الرافعى بأن البغدادى كلف بمقابلة سليمان حافظ ، طلب على لسان الأخير أن يحضر المقابلة أيضا اللواء عبد الحكيم عامر، وقابله فعلا كلا من البغدادى وعامر الذى قال بعد المقابلة :
" الراجل ده حقيقى أنيابه زرقاء . . ولم ينس حقده على جمال عبد الناصر . . . فهو يطلب تنحى عبد الناصر لأنه مكروه – هكذا !! – وأن يتولى محمد نجيب رئاسة مصر ،حيث أنه مؤهل للاتفاق مع الإنجليز ، ويعلن حياد البلد وتتولى وزارة حزبية الأمور فى البلاد ، وأن يعود " العسكر!" إلى ثكناتهم . ."
وعندما نقلا الرسالة للرئيس كان تعليقه : " أنه من سيحضر إلى هنا منهم سوف يضرب بالنار" .
كان التحليل والتقدير بناء على نتيجة هذه المقابلة هو أن سليمان حافظ بالتعاون مع بقايا الأحزاب يريد أن يمهد لتولى وزارة حزبية شئون البلاد تحت رئاسة اللواء محمد نجيب الذى بعد أن يتخلصوا منه تتعاون الحكومة مع الغزاة . . ( لتجنب ويلات الحرب . . . ) .
وثبت بعد ذلك من واقع تقارير المعلومات وتحريات الأجهزة الأمنية أن اللواء محمد نجيب لم يكن بعيدا عن بقايا جبهة أزمة مارس سنة1954 فى هذه الأحداث *.
ورغم تشابه موقف السياسيين القدامى- من حيث الشكل- مع موقف صلاح سالم إلا أن منطلقات كل طرف كانت مختلفة تماما ، فصلاح سالم الذى خانته أعصابه فى لحظة ما ، أكد تصرفه اللاحق بالتوجه إلى السويس وقيادة المقاومة الشعبية فيها قدرا عاليا من الفدائية، كما عكس نبل أهدافه، وأن الأمر يكمن فقط فى الخشية من آثار العدوان وغيرته على سلامة البلاد ولم يكن متطلعا إلى سلطة أو نفوذ رغم الاختلاف معه فى أسلوب تعبيره عن هذه الأهداف أو انفعاله على الرئيس جمال عبد الناصر . .
أما عناصر الأحزاب والسياسيين القدامى فقد كان موقفهم نابعا عن تفكير متخاذل وانهزامية واضحة ، علاوة على أنه كان يعكس قدرا عاليا من الشماتة والرغبة فى تصفية الحسابات مع الثورة ، وانتهاز الفرصة لتجديد علاقاتهم بالإنجليز ، وهى نفس المواقف التى طبعت سلوكهم السياسى فى فترة ما قبل الثورة . .
لقد أظهر جمال عبد الناصر ثباتا قويا فى مواجهة الموقف كما أمتلك قدرة كبيرة فى معالجة كل التفصيلات مهما كانت ثانوية أو بعيدة – شكلا – عن لب القضية ، وعلى سبيل المثال فقد كان يحرص على الإلمام بالموقف التموينى يوميا من القمح والسكر والدقيق والزيت والشاى والبنزين والجاز والبوتاجاز وخلافه من المواد التى تشكل أساسا لاحتياجات المواطن وعصب المعركة . . وبالمناسبة ومن هذا التاريخ استمرت سكرتارية الرئيس للمعلومات فى إعداد تقرير يومى بالموقف التموينى مع التطوير بإضافة الأرصدة المتبقية والكميات المطلوب توافرها ولمدد تتراوح بين ستة شهور وسنة حسب السلع المطلوبة للمواطنين مع الوضع فى الاعتبار مدى توافر العملة الصعبة اللازمة للاستيراد . .
وتواصلت معدلات كثافة العمل بنفس القدر حتى تمام جلاء القوات البريطانية الفرنسية عن بور سعيد فى ديسمبر1956 ، وحتى بعد وقف القتال كان هناك استعداد دائم وحالة تعبئة فى الداخل لمواجهة أى طارئ قد يقع ، وكانت الاجتماعات لا تنقطع ويجرى إعداد تقديرات الموقف بشكل متوالىلإختيار أنسب البدائل لإدارة المعركة سواء فى مواجهة القوات المعتدية أو فى داخل المنظمة الدولية – الأمم المتحدة – وفى مجال تهيئة الرأى العام العربى والدولى لمساندة قضية مصر فى معركتها المصيرية .
كان الشعب العربى كله حاضرا وبقوة منذ صدور قرار تأميم شركة قناة السويس وحتى وقوع العدوان بعد أن نجح الرئيس عبد الناصر فى بعث فكرة القومية العربية وتحويل التضامن العربى إلى واقع ملموس .
فمنذ صدور قرار التأميم خرجت مئات التظاهرات وعقدت المؤتمرات فى كل أرجاء الوطن العربى تعلن مساندتها للقرار ووقوفها إلى جانب مصر فى معركتها لاسترداد حقوقها فى القناة ، وبنفس القوة كانت مساندة الحكومات والقيادات الرسمية للقاهرة فى شكل بيانات واتصالات مع القيادة المصرية وتحركات دبلوماسية وغيرها ، وفور وقوع العدوان المسلح انهالت على السفارات المصرية فى دمشق وعمان وبيروت والقنصلية المصرية فى القدس وفى دول المغرب العربى والمغتربين العرب فى أوروبا وأمريكا بخلاف مئات الألوف من الرسائل التى وصلت للرئيس تطالب بالتطوع لمحاربة المعتدين إلى جانب القوات المصرية .
ولم تقتصر ردود الفعل على التجمعات الشعبية وحدها بل شاركت الحكومات والقيادات المسئولة أيضا .
فقد توجه الرئيس شكرى القوتلى رئيس الجمهورية السورية إلى موسكو لمطالبة الاتحاد السوفيتى بتقديم الدعم اللازم لمصر وتزويدها باحتياجاتها من السلاح ، وكان قبل سفره قد اتصل بالرئيس جمال عبد الناصر مستفسرا عن أخبار المعركة واحتياجات مصر* .
ومن سوريا أيضا اتصل بعض الضباط الوطنيين عارضين خدماتهم، وكان أهم هذه الاتصالات ما تقدم به عبد الحميد السراج – نائب رئيس الجمهورية أثناء الوحدة ورئيس الشعبة الثانية ( المخابرات ) فى الجيش السورى سنة1956 – يعرض نيته نسف خط أنابيب البترول الذى ينقل الخام من العراق إلى البحر الأبيض عبر سوريا ، لكن الرئيس عبد الناصر نصح بعدم التورط فى المعركة حماية لهم ولسوريا برغم اقتناعه أن هذا العمل سيوفر دعما كبيرا لمصر ، لكن عبد الحميد السراج كان قد بدأ فعلا فى اتخاذ الخطوات التنفيذية . . وقد استدعى ناظم القدسى رئيس الوزراء فى سوريا كلا من اللواء شوكت شقير واللواء عفيف البزرى – قادة الجيش السورى آنذاك – ونقل لهما أن السفارة البريطانية أبلغته بوجود وحدات عسكرية أو شبه عسكرية حول محطات الضخ الخاصة بخط أنابيب التابلاين فنفيا علمهما بهذا الموضوع ، فقام ناظم القدسى باستدعاء عبد الحميد السراج، وأعاد عليه نفس السؤال فنفى بدوره علمه بأية مخططات فى هذا الشأن . .
فقال له ناظم القدسى : " أن لديه معلومات تقول كذا وكذا . . وإنت حاتضيعنا وتؤذى الوضع العام !! . فرد عليه عبد الحميد السراج " طيب يا سيدى أنا سوف أبحث الموضوع وسأرد عليك لأن الخط طوله حوالى 800 كيلومتر وليس لدى طائرة ، بل إن بعض المناطق يمكن أن اصل إليها بواسطة الجمل أو الحصان 000 أعطنى ثلاثة أو أربعة أيام حتى يمكن أن أرد عليك . . " .
وكان السراج قد رتب العملية وأعطى التعليمات لضباطه بتوقيتات التنفيذ وكان قراره أنه فى حالة تعرض مصر للعدوان يقوم بنسف محطات الضخ . . . وتم نسف هذه المحطات فعلا ثانى يوم العدوان الثلاثى على مصر .
لقد تصرف عبد الحميد السراج على مسئوليته، وأحدثت العملية صدى واسعا فى العالم كله، أما فى العالم العربى فقد بادرت العناصر الوطنية فى أكثر من دولة بإخطارنا باعتزامهم تنفيذ عمليات مماثلة فى بلادهم، ولكن تم تحذيرهم بوضوح باعتبار أن اتساع رقعة مثل هذه العمليات لن يخدم المصلحة القومية ويكفى انفجار واحد لأن انتشار هذه الظاهرة يمكن أن يقود إلى تأليب الرأى العام العالمى والأوربى خاصة ، وكان قد بدأ يميل إلى جانب مصر .
وقد خرج على هذه القاعدة المناضلين الليبيين من جماعة عمر المختار بقيادة الأستاذين مصطفى بن عامر وبشير المغيربى وزملائهم الذين قاموا بتنفيذ بعض العمليات ضد المصالح البريطانية فى ليبيا حيث تم تفجير قنبلة فى بنك باركليز البريطانى، كما قاموا بنسف أنابيب البترول فى ميناء بنغازى وأشعلوا النيران فى خزانات الوقود الخاصة بالقوات البريطانية .
كما ظهرت لأول مرة فى بعض الدول والإمارات العربية مثل الكويت الدعوة لوقف تصدير البترول إلى المعتدين وسحب الأموال العربية من البنوك البريطانية ومقاطعة البضائع الفرنسية والبريطانية .
ولم يكن الموقف الدولى يقل استنكارا للعدوان عن الموقف العربى أخذا فى الاعتبار بالطبع القيود التى تفرضها التوازنات الدولية .
فكما أشرت فى السابق ، حرصت الولايات المتحدة الأمريكية على امتلاك زمام المبادأة بعرض مشروع قرار فى مجلس الأمن يدين العدوان، وصحب ذلك إعلان الرئيس الأمريكى دوايت ايزنهاور على شاشات التليفزيون أن واشنطون عارضت منذ البداية اللجوء للقوة ، وأنها لم تستشر من قبل المعتدين .
واتخذ الاتحاد السوفيتى موقفا مؤيدا لمصر منذ بداية الأزمة، ولكن التمرد الذى كانت شواهده قد بدأت تتجمع فى المجر فرض قيدا على حركة الاتحاد السوفيتى، ومن هنا كان رد خروشوف على الرئيس شكرى القوتلى أثناء زيارته لموسكو عدم إمكانية تقديم مساعدة عسكرية لمصر لكنه شن حملة دبلوماسية مكثفة على القوى المعتدية فى الإطار الثنائى وفى الأمم المتحدة .
ففى الإطار الثنائى بعث بولجانين برسالة إلى أنطونى إيدن رئيس وزراء بريطانيا تتضمن تهديدا باستخدام الصواريخ العابرة للقارات لوقف العدوان، ثم بعث برسالة أخرى بنفس المعنى إلى رئيس وزراء فرنسا جى موليه، وبرسالة ثالثة إلى دافيد بن جوريون رئيس وزراء إسرائيل يصف فيها إسرائيل بأنها تعمل كأداة فى يد الإمبريالية ، ويحذرها من العبث بمصير السلام ، وطالب بأن تعود إسرائيل إلى رشدها وتوقف عملياتها العسكرية ضد مصر قبل فوات الأوان ثم قام باستدعاء سفيره فى تل ابيب، واعتبرت هذه الرسائل بمثابة إنذارات للدول الثلاثة، وكان قد سبقها إرسال رسالة إلى الرئيس أيزنهاور يستعرض فيها الأخطار المترتبة على الموقف القائم وما ينذر به من احتمال اشتعال حرب عالمية، وأن على موسكو وواشنطن بما يملكانه من قوة ، العمل معا لإيقاف الحرب .
وتقدمت الهند ممثلة للدول الآسيوية الإفريقية بمشروع قرار للجمعية العامة للأمم المتحدة يطالب بوقف القتال وسحب القوات المعتدية، وأن يقدم السكرتير العام للأمم المتحدة تقريرا بذلك خلال اثنتى عشرة ساعة وقد حظى القرار بالموافقة من الجمعية العامة .
هكذا لعب النظام الدولى بتركيبته التى كانت قائمة فى ذلك الوقت وظهور قوة ثالثة لها صوتها المؤثر فى المحافل الدولية؛ هى قوة عدم الانحياز التى لعبت دورا هاما فى تعرية الأهداف الإمبريالية التى سعت قوى الاستعمار القديم وشكل قاعدة صلبة لمساندة الدول الصغيرة وحقها فى الحرية .
ومع إعلان القوات المعتدية قبولها إيقاف القتال يوم 6نوفمبر1956 استجابة لقرارات المنظمة الدولية بدأت معركة لا تقل شراسة عن المعركة المسلحة . . . لقد كانت المعركة الجديدة ذات بعدين أساسيين :
البعد الأول:
يرتبط بالمقاومة المسلحة التى استهدفت حرمان القوات المعتدية من امتلاك أية فرصة للراحة أو الاستقرار فى مدينة بور سعيد ، وقد حققت بالفعل إنجازات ضخمة فى هذا المجال وسقط الشهداء وتنوعت البطولات الغير مسبوقة فى التاريخ الحديث . .
أما البعد الثانى:
فقد كان مرتبطا بالمعركة الدبلوماسية وخاصة فى الأمم المتحدة بهدف إتمام انسحاب قوات الدول المعتدية الثلاث
فقد استأنفت الجمعية العامة للأمم المتحدة جلساتها فى السابع من نوفمبر 1956 ، وطالب مندوب مصر فى المنظمة الدولية السفير عمر لطفى بانسحاب المعتدين، ولكن مندوبا بريطانيا وفرنسا رفضا مشروع الانسحاب الفورى بدعوى تخوفهما من تجدد القتال بين مصر وإسرائيل .
وتطرقت المناقشات إلى تشكيل قوة طوارئ دولية، وتكاثفت الضغوط، وهدد السكرتير العام للأمم المتحدة بفرض عقوبات صارمة على إسرائيل إذا لم تسحب قواتها مما دفعها للإعلان رسميا فى الثامن من نوفمبر1956 اعتزامها سحب قواتها من مصر والتعاون مع قوة الطوارئ الدولية .
وبدأت المباحثات مع السلطات المصرية حول تشكيل قوة الطوارئ الدولية واعترض الرئيس عبد الناصر على اشتراك كندا فيها نظرا لعضويتها فى الكومنولث كما اع